القيم الإسلامية وحاجة الواقع المعاصر

حين نتحدث في عالم اليوم عن منظومة القيم، فإننا نمس مباشرة جوهر الإنسان من جهة، ومجال التدافع الحضاري الحقيقي من جهة ثانية. ولئن كان المسلمون يفتخرون عبر تاريخهم الفكري والحضاري بامتلاكهم لمنظومة قيم متكاملة ذات مرجعية صلبة تستند إلى الوحي وجدت تجلياتها في صياغة الإنسان وصناعة محطات مهمة من تاريخ الإنسانية، فإن هذه المنظومة بقيت مغمورة في أصولها النظرية بل وحتى في تفصيلاتها العملية.
مجالات القيم الحضارية في القرآن والسنة
إن سمة “الحضارية” التي نسم بها القيم الإسلامية تستند إلى معايير أربعة قد لا تجتمع في غيرها؛ فهي شاملة لكافة مناحي الحياة، وهي مستندة إلى عقيدة إسلامية تنبني على الثواب والجزاء الأخروي وتتجاوز النفعية المادية الظرفية، وهي مطبقة في الواقع، وبواسطتها بنيت الأمة الإسلامية عبر التاريخ، وفائدتها تطال العالمين دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، اللهم ما كان من ثواب جزيل أعده للمؤمنين برسالة الإسلام وبثواب الآخرة، أما ثواب العاجلة فللمتمسك بالقيم من جميع الملل والنحل وفقا للسنن الإلهية الكونية، قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُُ…﴾(الإسراء:18-20).
أ-القيم الاعتقادية والتعبدية
إن ما يميز المنظور الإسلامي للقيم على سائر المنظومات الأخرى، ترسيخه لمفهوم العبودية والاستخلاف أولا. ولم يكن من المستغرب أن يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في ترسيخ قيم العقيدة في النفوس لأنها الأساس المتين الذي ستُبنى عليه باقي مكونات منظومة القيم الحضارية للأمة الإسلامية، ثم ينـزل أول ما ينـزل من أحكام العبادات، الصلاة. فالمنطلق إذن في بناء منظومة القيم يبدأ بربط الخالق بالمخلوق، وما سيأتي بعد ذلك من أوامر ونواه ستجد طريقها الطبيعي إلى التنفيذ بناء على ذلك.
وتهدف القيم الاعتقادية والتعبدية إلى تركيز مفهوم وحدانية المعبود، يقابل ذلك تحرير الإنسان من كل مظاهر العبودية لأي مخلوق أو كائن مهما عظم، فهو مخلوق على كل حال يحمل سمات النسبية والضعف ومواد الفناء والاندثار. وتعزز شعائرُ العبادات الخمس هذه الصلةَ بالله، وتعمّق القيمَ الإسلامية في المجتمع من خلال التنفيذ الجماعي لهذه العبادات لانسجام وحدة العبادة مع وحدة المعبود في كامل صور الإبداع والاتساق، ويجد كلُّ ذلك أثره في سلوك الإنسان اليومي في كل مجالات الحياة. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمَُ﴾(الروم:30)، وعن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود يولد إلا على الفطرة؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه” (رواه البخاري). والعقل مناط التكليف، ومكمن المحافظة على صفاء الفطرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…﴾(البقرة:164).
بـ-القيم العلمية والمعرفية
العلم باب الإيمان ومدخله. لذلك ركز الإسلام على قيم التفكر والتدبر والتأمل والاستبصار وأخذ العبرة، فبنى لذلك منهجا للاستدلال على وجود الخالق وعظمته، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آل عمران:190) وربط في أول آية نزلت من القرآن الكريم بين المعرفة والربوبية، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5). وبيّن أن العلم بالخالق مدخل لخشيته وطاعته، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28)، وجعل الحفاظ على العقل من ضروريات الإنسان الخمس التي لا تقوم الحياة بدونها، وهو طريق الحصول على الزاد المعرفي والمنهجي الذي يمكّن المتعلم من معرفة الذات وبناء الحضارة، كما يمكنه من غربلة الفكر الإنساني بمختلف مشاربه بمقياس القيم الإسلامية، فينتفع ويترك ويتفاعل ويؤثر في إطار سنة التدافع الإلهية، قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾(البقرة:251). وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والعلماء بالمكانة المتميزة المحفزة على الطلب الدائم للعلم، قال: “إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب” (رواه الترمذي).
وهكذا تتجلى قيمة القيم العلمية والمعرفية؛ فهي التي تنظم تصورات الإنسان للكون والحياة والمصير، مما يجعل حراكه على هدى ورضوان، وهي مناط التكليف والاستخلاف في الأرض، فإذا انفصل الإنسان عنها أفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل. وهي حصيلة قراءة ومصاحبة ومجالسة، ولذلك كان علماؤنا رضي الله عنهم، يحثون على مجالسة العلماء ومرافقتهم ليس للسماع منهم فقط، وإنما للتزود منهم برحيق العلم الذي هو الخلُق الرفيع، قال الشعبي رحمه الله: “جالسوا العلماء فإنكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأولوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنفوكم، وإن جهلتم علّموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم”.
جـ-القيم الأُسَرية والاجتماعية
وهو مجال لتمثل القيم الإسلامية الموجهة للسلوك العام داخل المحيط الصغير (الأسرة) أوّلا من حيث تنظيم العلاقة بين الأزواج وبين كل واحد منهم والأبناء، ثم بين كل هؤلاء وذوي الأرحام، ثم تتوسع الدائرة إلى الجار الجنب والصاحب بالجنب، فإلى المحيط الاجتماعي الواسع. وتحكم كلَّ هذه العلاقات قيم الاحترام والتوقير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح وحب الخير للناس، والتضحية من أجل الصالح العام، والإحسان والتكافل والتآزر والتزاور وغيرها.
ففي القيم الناظمة للأسرة، علّمنا الإسلام أن المودة والسكينة أساس استقرارها، وأن القانون والأحكام الشرعية المنظمة لها لا تعدو أن تكون علاجا لآفات استفحلت وتعذر علاجها بالموعظة الحسنة والتذكير بالميثاق الغليظ، ولذلك وجدنا الآيات التي تتحدث عن نظام الأسرة في الإسلام وخاصة عن نظام العلاقة بين الزوجين تختم في العادة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(النساء:1)، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء:34)، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾(الأحزاب:55)، للدلالة على الدور الكبير للقيم والرقابة الداخلية في نظام الأسرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ…﴾(النساء:1). وجعل الإسلامُ مسؤولية القيام بأعباء الأسرة مسؤولية مشتركة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته” (رواه البخاري). ونظم العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة على أساس قيم احترام الكبير، وتوقير الصغير، والتودد للأطفال والعدل بينهم، وحماية حقهم في التربية على مكارم الأخلاق وتعليمهم العلم النافع وغير ذلك، كما ألزم الأبناء برد الاعتبار لمجهود الآباء عند الكبر، فأمر بطاعتهما والنفقة عليهما عند الحاجة والعوز، والدعاء لهما بعد الوفاة، وإكرام وصلة أصدقائهما، لأن ذلك من برهما، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا…﴾(الإسراء:23-24).
أما القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية فقد نبّه الإسلام إلى أن مخالطة الناس والصبر على أذاهم، والنصيحة لهم والعفو عنهم، والمسارعة إلى فعل الخير المفيد للأمة حيث كان من مكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…﴾(آل عمران:133-134).
ودعا إلى تجنب كل ما يسيء إلى نظام العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، من غيبة ونميمة وظلم واعتداء على الأنفس والأموال وقطيعة رحم وغرور وكبر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ…﴾(الحجرات:11-12). كل تلك الأوامر والنواهي تشكل العقد الناظم للعلاقات الاجتماعية التي أرسى الإسلام دعائمها بنصوص قرآنية وحديثية جامعة، والمتأمل في هذه النصوص يجد أن حسن الخلق مفتاح القيم الاجتماعية، قال صلى الله عليه وسلم: “إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا” (رواه مسلم). والإيمان بالله في كل ذلك قوة دافعة لفعل الخير ورادعة عن الشر، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ…﴾(البقرة:177).
وقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم -قولا وفعلا- قيم التماسك الاجتماعي ورغب فيها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس” (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم:”أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني” (رواه البخاري). ونهى صلى الله عليه وسلم عن كل ما يضر بالعلاقات الاجتماعية فقال: “والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن”، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جارُه بوائقَه” (رواه البخاري). وقال: “لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا” (رواه مسلم).
إن هذه النصوص الجامعة تدل دلالة قاطعة على الأهمية الكبرى التي أولاها القرآن الكريم والسنة النبوية لتماسك المجتمع ووحدته بناء على منظومة قيم جامعة ترسّخ كل سلوك إيجابي خير، وتنفي كل سلوك مناقض لقيم التساكن والأخوة والوفاق، ولذلك ليس من الغريب أن يشبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن بالبنْيان حين قال: “المؤمن للمؤمن كالبنْيان يشدّ بعضه بعضا” ثم شبك بين أصابعه (رواه البخاري). وسر هذا الرص القيمُ الاجتماعية، وعلامة سلامة منظومة القيم الاجتماعية أنين الجسم من كل سلوك مشين مخالف ومناقض؛ قال صلى الله عليه وسلم: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى” (رواه البخاري).
د-القيم الإعلامية والتواصلية
يحتاج العالم اليوم إلى منظومة قيم جامعة ناظمة لنقل الخبر تنهل من مرجعية مرتبطة برقابة الخالق جل جلاله، قبل أن تضبطها تشريعات وضعية قلما تحترم. والناظر في الكتابات القليلة المتخصصة في إبراز خصائص النظام الإعلامي من منظور إسلامي يجدها تؤصل نظرتها من آي الذكر الحكيم ومن التفصيلات العملية التي جاء بها خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد بدأ الإسلام أول ما بدأ بالحديث على ضرورة حفظ الإنسان لحواس التواصل التي متعه الله بها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…﴾(الإسراء:36). ثم ركب على ذلك حفظ أعراض الناس من القول السيئ والباطل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا…﴾(الحجرات:6).
ونهى عن نشر الفواحش بكل إشكالها المسموعة والمرئية، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا…﴾(النور:19). ثم حث على القول الحسن ونشر الخير، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾(الإسراء:53).
ثم وضع الإسلام ضوابط لنقل الخبر ونشره واستعمال وسائل الإعلام في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، مع تجنب الإشاعة والخبر الكاذب وما سوى ذلك مما ينافي قيم الإسلام في مجال الإعلام والتواصل. وفي ذلك قواعد عظيمة سطرتها السنة النبوية، وأولها: تحري الصدق في الخبر، يقول صلى الله عليه وسلم ” عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ومازال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب صديقا، وإن الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب كذابا” (رواه مسلم). وثانيها: الدعوة إلى الهدى والخير مع ربط ذلك بالثواب الذي لا ينقطع، قال صلى الله عليه وسلم: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعهم لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا” (رواه مسلم). وثالثها: النهي عن انتهاك الحرمات والأعراض، لما يترتب على ذلك من أذى لا يمكن جبره، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء” (رواه الترمذي).
هـ-القيم الاقتصادية والمالية
حينما يعرض الإسلام نظريته الاقتصادية فإن ما يميزه عن غيره من النظريات يكمن في منظومة القيم الموجهة للفعل الاقتصادي للمسلم وأساسها قيمة الاستخلاف، قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ…﴾(الحديد:7) وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون” (رواه مسلم). ‏وانطلاقا من هذه القيمة رسم الإسلام نظاما متماسكا للتصرف في المال كسبا وإنفاقا، فأحل الله البيع، ودعا إلى الكد في كسب الرزق الحلال، فرخص في المساقاة والمزارعة وعقود الاستصناع والشركة والتجارة المبنية على التراضي الشرعي، وغير ذلك من ضروب الكسب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ…﴾ (النساء:29).ونظم الهبات والصدقات الواجبة والتطوعية؛ وحرم الربا والغش والتطفيف في المكاييل وغيرها من ضروب الكسب الحرام، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ…﴾(المطففين:1-3).
كل ذلك دليل على أن المال مال الله والناس فيه مستخلفون فيه، وسيُسألون عن تصرفهم فيه حفظوا أم ضيعوا، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه” (رواه الترمذي). وهذه نظرية تخالف النظريات المادية التي تعتبر المال ملكا للإنسان وهو حر في التصرف فيه. وانطلاقا من نظرية الاستخلاف ركز الإسلام قيم حفظ الأمانة، وجعل الخيانة من آيات النفاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان” (متفق عليه). ورسم للمجتمع سياسة مالية تنفي الجشع والطمع والظلم والقهر وتضمن للناس توازنا في الكسب والإنفاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا…﴾ (الفرقان:67). وأقر صورا للتداول في المال حتى لا يكون فقط بين الأغنياء، ومن ذلك نظام الإرث والزكاة والوقف والهبة والصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” (رواه الترمذي). ونظم الوصايا حتى تحقق مقصدها وغايتها، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهقال: قلت: يا رسول الله! أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثَي مالي؟ قال: “لا”، قلت” أفأتصدق بشطره؟ قال: “لا”، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: “الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس” (متفق عليه). ونهى عن الاحتكار والتبذير والإسراف وأكل مال اليتيم، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾(الأنعام:152). وقال صلى الله عليه وسلم: “من احتكر فهو خاطئ” (رواه مسلم). ورغب في العمل المقرون بالعفة، قال صلى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه” (رواه البخاري). ودعا إلى تكافؤ الفرص في الكسب وتحفيز القادرين على العمل، قال صلى الله عليه وسلم: “من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه” (متفق عليه).
و-القيم الوقائية والصحية
الصحة نعمة إلهية وهي “تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى” كما يقال، و”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” (رواه مسلم). وهي “تشمل جوانب الإنسان كلها: الجسمية والنفسية والروحية، فإذا أحسن الإنسان الاستفادةَ من نعمة الصحة والحفاظ عليها وعمل على تعزيزها وتقويتها فقد استمسك بالعروة الوثقى واستمتع بخيرات العافية وبركاتها، ونعم بالنجاة من عامة الأمراض والأسقام، وإنما يفلح في ذلك إذا سلك في حياته سلوكا يعزز صحته، واتبع في معاشه أسلوبا يزيد رصيده الصحي، ولجأ إلى الوقاية التي هي خير من قناطير العلاج”.
ويمتلك الإسلام منظومة من القيم الحضارية الناظمة للسلوك الوقائي والصحي تبدأ بقواعد حفظ النسل كضرورة من الضروريات الخمس في الشريعة الإسلامية، فقد حددت الشريعة الإسلامية مقررات وقواعد لتنظم الصحة الإنجابية للأسرة بدءا باختيار الزوجين ورسمِ قواعد لتنظيم الأسرة عن طريق المباعدة بين الأحمال بالوسائل المشروعة، ودعت إلى رعاية الأم الحامل والمرضع وعلاج كل أسباب العقم وغير ذلك من التعليمات الإسلامية الشرعية المتعلقة بالصحة الإنجابية. وكلُّ ذلك تدعو الشريعةُ إلى نشره والتربية عليه وفقا للقيم الأخلاقية وأساليب الحكمة المحقِّقة للوعي الكامل بهذه القضايا لدى أجيال المراهقة والشباب والأزواج حتى يكون تصرفهم سليما ومتوازنا يستهدف صرف الشهوة الجنسية الطبيعية في مصرفها الطبيعي لتحقيق الغرض من بقاء النسل واستمرار الحياة والاستجابة لأمانة الاستخلاف.
كما نهى الإسلام عن كل ما يضر بالصحة الجسمية والنفسية من مخدرات وخمر وكافة المهلكات، ودعا إلى ممارسة الرياضة البدنية كالسباحة والرماية وركوب الخيل وغيرها، لأن الأمة بأبنائها ولن تسود أمة تخترقها الأمراض وتنهكها الأوبئة. فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الشباب يتدربون على الرمي، فقال لهم مشجعا: “ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا” (رواه البخاري).
وحث على التداوي والْتِماس كل وسائل الاستشفاء، ودل الإنسان على صور من ذلك تجمع بين المادة والروح، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا…﴾(النحل:68-69). وعن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال: “اللهم رب الناس، مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما” (رواه البخاري). ونجد أن الإسلام سن قواعد في الحجر الصحي حتى لا تنتشر الأمراض والأوبئة، قال صلى الله عليه وسلم: “الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإن سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه” (رواه مسلم). وسن منظومة من الآداب والاحتياطات الصحية التي تكون وقاية وحصنا من انتقال العدوى والأمراض، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب” (رواه مسلم).
والخلاصة أن القيم الصحية والوقائية قائمة في مجملها على الوقوف عند حدود الله في الحلال والحرام وتقوية الجانب النفسي والروحي بالطاعات والنوافل وذكر الله والإيمان بقضائه وقدره، وكل هذه التوجيهات قيم إسلامية أصيلة تستهدف من بناء المسلم السوي القوي القادر على القيام بمهام الاستخلاف.
ز-القيم الحقوقية
خطاب حقوق الإنسان في التداول الفكري والثقافي المعاصر أصبح أكثر رواجا وذيوعا، والتوعية بالقيم الضامنة لحقوق الإنسان مثل العدل والمساواة والحرية والإنصاف وتكافؤ الفرص وغيرها من القيم أصبحت الشغل الشاغل للمنظمات الدولية والأهلية على حد سواء، بل وأصبحت مؤشرات التنمية البشرية في أي بلد تقاس بمدى احترامه لحقوق الإنسان.
ولن نضيف جديدا إلى كتابات المفكرين المسلمين الذين فرغوا جهدهم وطاقتهم للدفاع عن المنظور الإسلامي في حماية الحقوق في منشوراتهم ومناظراتهم وندواتهم ومشاركاتهم الإعلامية، إلا أن الجهد الكبير من الناحية المنهجية ينبغي أن ينصب على ما يميز النظرية الإسلامية عن غيرها، والتمايز حاصل بالذات في أن نظرة الإسلام إلى حماية الحقوق لا تنحصر في حقوق الإنسان، وإنما يجعل هذا الجانب من الحق مندرجا ضمن منظور متكامل، فنحن حين نتحدث عن حقوق الإنسان انطلاقا من المرجعية المستندة إلى أحكام الإسلام وما ينسجم مع مقاصده من اجتهادات عالمية، فإنما نفعل ذلك من منظور يبدأ أولا بالتربية على احترام حقوق الله، لأن من لا يحترم حقوق الله لا يمكن أن يحترم حقوق غيره، ثم التربية على احترام حقوق الإنسان، وبعد ذلك تأتي حقوق المحيط على الإنسان من حيوان ونبات باعتبارها كائنات مسخرة لا تقبل العبث ولا الإسراف وإنما تستغل بالعدل والقسط والإحسان، وبذلك كان تنظيم القيم الإسلامية لمجال الحقوق أوسع وأشمل وأكمل.. ويبرز هذا المنظور الشمولي في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنهحين قال له: “يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟” قال: الله ورسوله أعلم، قال: “أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟” قال: الله ورسوله أعلم، قال: “ألّا يعذبهم” (رواه البخاري).
وانطلاقا من هذا المنظور جاءت الشريعة الإسلامية لتحمي حق الإنسان في الحياة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾(الأنعام:151)، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والمارق من الدين التارك للجماعة” (رواه البخاري).
ودعت إلى سياسة الناس بالعدل، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(النساء:58)، وقال صلى الله عليه وسلم: “إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (رواه البخاري). ونظرت إلى الناس على اختلاف أعراقهم وأجناسهم نظرة مساواة في الإنسانية والوجود؛ قال صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي ولا عجمي على عربي و لا أحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى” (رواه أحمد).
إن هذه القيم الرئيسة الحامية للحقوق بنظرة الإسلام الشاملة، لا تنظر إلى الإنسان نظرة اعتبار وتقدير إلا بقدر اعتباره وتقديره لحقوق الآخرين في علاقته مع خالقة ونفسه والناس والبيئة من حوله.
ثم إن الإسلام جعل من حماية الحقوق مقصده الأسمى حتى يتفرغ الإنسان للقيام بمهمة الاستخلاف بعد أن كرمه الله بنعمة التسخير. وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: “إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق”.
حـ-القيم الفنية والجمالية
إن النظرة الجمالية الاستبصارية جزء لا يتجزأ من المنظور الحضاري الإسلامي، إذ إن في كل نسمة خلقها الله مسحة من الفن والجمال تقتضي التأمل والاعتبار، والإنسان الذي خلق في أحسن تقويم مُطالَب بأن ينظر إلى كل المخلوقات من حوله ليقف على دقة الصنعة الإلهية. وفي القرآن الكريم آيات بقدر ما تدعو إلى النظر والاعتبار تبرز في المشاهد المختلفة وبأسلوب رائع مكامن الجمال في الكون قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾(الحجر:16).
إن القيــم الإسلامية قد جعلت من الفن والجمال سلما يرتقي للوصول إلى الله الخالق المتقن المبدع الجميل. ووسائلُ إدراك ذلك التأملُ في الكون وتوجيهُ طاقات الإنسان الإبداعية إلى ما يرسخ القيم الفاضلة، ويحفظ ذاك التناسق العجيب بين روعة التقويم في الخلق وسمو الروح، وقد كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ترسيخ مفاهيم الجمال الحقيقي للإنسان، فقد نقلت كتب السيرة عنه صلى الله عليه وسلم صورا من العناية بلباسه وترجيل شعره وولعه بالطيب، كما نقلت كثيرا من توجيهاته للصحابة رضي الله عنهم من حوله بالحرص على نظام المسجد وارتياده بثياب حسنة عملا بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾(الأعراف:31)، ونقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يشجع ويتذوق أعذب الشعر الداعي إلى القيم الفاضلة، قال صلى الله عليه وسلم: “الشعر بمنـزلة الكلام؛ حَسَنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام” (رواه البخاري في الأدب المفرد).
وصحح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالجمال حين قال صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال: “إن الله جميل يحب الجمال” (رواه مسلم). وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره ويدعو إلى تلاوته بصوت جميل حسن، قال صلى الله عليه وسلم: “الماهر بالقرآن مع الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم” (رواه البخاري).
وهكذا يبدو أن القيم الفنية والجمالية في المنظور الإسلامي تذهب بالإنسان إلى ما هو أسمى من التلذذ برؤية العين لمشهد جميل في الكون أو سماعه لصوت شجي، إلى إدراك أسرار الوجود القائم على الإتقان قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49). فتلك الرسالة الحقيقية التي تحملها هذه القيم، كما أن الإسلام لا يهتم في مجال الفن والجمال بالمظهر الخارجي بل لابد من التلازم بين جمال الظاهر والباطن والمحيط، فتلك هي الصورة النموذج التي يُنتظر من المسلم أن يرسخها في أذهان الناس، يقول الأستاذ محمد قطب: “والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام؛ إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي للوجود، هو التعبير عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان. هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقةٌ في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود”.
ط-القيم البيئية
إن العالم اليوم في حاجة في هذا المجال بالذات إلى قيم حضارية نابعة من مرجعية صلبة تجعل الإنسان مسؤولا عن كل ما يمكن أن يقترف من أفعال تضر بالبيئة، والنظرة الحضارية الإسلامية لهذا المجال تكشف عن وجود قيم سامية ناظمة للتعامل مع خيرات الكون من منظوري التسخير والاستخلاف والمسؤولية عن كل تصرف مخل بالتوازن البيئي، وترتكز القيم الحضارية الناظمة للسلوك البيئي في التصور الإسلامي على هذه الأبعاد الثلاثة؛ قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية:13).
ونبه الإسلام إلى أن هذه الكائنات المسخرة هي في خدمة الإنسان إلى أن يأمر الله بفنائها، وأنها أمم وخلائق كأمة الإنسان تشترك معه في عبادة الخالق؛ قال تعالى: ﴿وَلِلهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾(النحل:49).
وإذا كانت هذه القيم الحضارية وردت في القرآن الكريم مجملة من الناحية النظرية، فقد حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلوكات تفصيلية تطبيقية، فرغب في الغرس والعناية بالنبات في غير ما حديث، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة” (رواه البخاري).
ودعا إلى الاقتصاد في استعمال الماء، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: “لا تسرف”، فقال: يا رسول الله أَوَفي الماء إسراف؟ قال: “نعم وإن كنت على نهر” (رواه أحمد).
ونهى عن تلويث الماء بالقاذورات،كما نهى عن التخلي في الظل وفي الطرقات، فعن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه” (رواه البخاري). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اتقوا الملاعن الثلاث: التبرز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس” (رواه أبو داود). وشدد صلى الله عليه وسلم الوعيد في حق من يعبث بالحيوان ويتخذه هدفا، حين قال: “ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حق إلا يسأله الله عز وجل عنها، قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: “أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي به” (رواه النسائي).
وأمر بالإحسان إلى الذبائح والانتفاع بها على قدر الحاجة، فعن شداد بن أوس قال: قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته” (رواه مسلم). كما حث صلى الله عليه وسلم على العناية بالبيئة العامة؛ فأمر بإماطة الأذى عن الطرقات وأبواب المساجد والأماكن التي يرتادها الناس لقضاء مصالحهم ومآربهم، حيث قال: “الإيمان بضع وستون أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” (رواه مسلم). وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تبدو المظاهر العامة للمسلمين وقد طبعها النظام والنظافة، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود” (رواه الترمذي).
إن الرصد المعرفي والعلمي الذي بيّـنّا من خلاله شموليةَ القيم الحضارية من منظور إسلامي لكل مجالات الحياة، يحتاج إلى منهجية للتنـزيل من أجل تربية الأجيال المتعاقبة على إدراك أهمية القيم في العمران من جهة، وأهمية استناد هذه القيم الحضارية إلى المرجعية الإسلامية القائمة على مبادئ الاستخلاف والتسخير والمسؤولية من جهة أخرى، كما أننا في حاجة إلى تلمس هذه المنهجية في السنة والسيرة النبوية حتى نستخدمها في إبلاغ العالمين بأهمية المنظور الإسلامي في ترسيخ القيم، وحل الإشكالات والأزمات التي يعيشها الإنسان في عصرنا الحاضر كلما وجد نفسه بعيدا عن الله..