المدينة الإسلامية مرآة للحضارة الإنسانية

الحضارة الإسلامية حضارة خلُق وإبداع، حضارة بعث وإحياء.. حضارةٌ ساهم فيها المسلمون في إرساء فكرة التجريب والتحسين، فأصبحت إرثا مشتركا بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت سقفها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها.
وقد شكلت المدن لب هذه الحضارة وجوهرها. وتميزت في العصور الإسلامية بتخطيطها وعمرانها اللذين مثّلا قيماً ومبادئ ومعايير مثالية. فالمخاطبات التي تدور بين الناس في الأحياء، والكلمات التي تتردد على الألسنة في الشوارع والمنازل، هي التي عكست هوية المدينة ورقيها الحضاري بوضوح. ولابد لأي مدينة في العالم أن تستمد تراثها الحضاري من البيئة التي تنتمي إليها. وتعتبر المدينة هي البطاقة الشخصية للحضارات جميعا. فبها تسمو الحضارات وتحيا، وبسقوطها تنهار الأمم وتندثر. وللمدينة دور أساسي في تفسير الوضع الحضاري للبلاد، وفي تحليل الحالة الدينية التي يمارسها أفراد تلك الحضارات.
ولقد اعتبرت المدينة المنورة أول مدينة حضارية للدولة الإسلامية بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم إليها. وسرعان ما أصبحت مدينة أنموذجية متكاملة من حيث البناء في العالم الإسلامي. إن المدينة المنورة كانت مركزا متكاملا يضم سوقا تحيط به مرافق تجارية وسكنية، بالإضافة إلى مسجدٍ يحتوى على مدرسة للتعليم والتربية (مدرسة الصفة)، وبالإضافة إلى الحجرة النبوية الشريفة التي تُدار منها الدولة، وإلى ميدان للاجتماعات الكبيرة، ومقابر تذكّر بالموت واليوم الآخر، وأسوار تحيط بالمدينة، وخنادق للحماية من الهجمات، وأراض زراعية وآبار مياه قريبة من المدينة.

الأسواق، ملتقى المادة والمعنى

ومع مرور العصور تطور مفهوم المدينة في العالم الإسلامي، وأصبحت الأبنية والمنشآت في كل مدينة إسلامية تقام حسب المناخ المناسب لها، إذ استطاعت هذه المنشآت أن تجمع بين الاحتياجات المادية والمعنوية في المجتمعات الإسلامية، حيث استخدمت طريقة التجمّع التخصصي والحرفي وفكرة الأسواق المغطاة مع توفير الفراغات المفتوحة تفاديا للمَلَل وتعبيرا عن نوعية التجمع التجاري. ولكن رغم هذا الزحف العمراني والتطور في هندسة البناء إلا أن الأسواق حافظت على طابعها القديم كما كانت عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ضمت الأسواق الضخمة تحت سقوفها مناطق وخانات تجارية متعددة، وأصبح لكل مهنة من المهن منطقة خاصة بها، ثم أسست في هذه المناطق النقابات والجمعيات الحرفية. فمن ثم تحولت الأسواق إلى مدارس تعليمية وحرفية، وتحلّت بثقافة غنية وساهمت في التطور الاجتماعي والثقافي. ثم إن الحرفيين وجدوا بذلك إمكانيات متوفرة لممارسة مهنهم ونشاطهم، إمكانيات أدت إلى الحيوية والإبداع في المدينة وإلى إنشاء الأبنية المختصة كل منها بمهنة مختلفة، وسمي كل سوق من هذه الأسواق باسم المهنة التي تمارَس فيه، كسوق النحاسين وسوق الصاغة وسوق العطارين ..إلخ.
ونتيجة التطور والتوسع في العالم الإسلامي نقلت إدارة الدولة من الحجرة النبوية الشريفة إلى القصر أو المجلس؛ فاستخدمت القصور على سبيل المثال، كمساكن خاصة للسلاطين ومراكز إدارية للدولة في آن واحد. ولكن رغم كل هذه التغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية في القصر وخارجه، إلا أن السلاطين حرصوا كل الحرص على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه الذي خطه للبشرية جمعاء.

المساجد، القلب النابض بالحياة

وتحولت المساجد والمدارس التي اعتبرت من أهم أبنية المدينة الإسلامية إلى كليات كبيرة مع التطور الاجتماعي، غير أنها ظلت محافظة على هيئتها التي أراد الله أن تكون عليها، كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والجدير بالذكر أن الحضارة الإسلامية حددت الأشكال الرئيسية لملامح المدينة، وأبرزت المساجد وحددت نوعية الساحات التي تحيط بها ونوعية التعليم في المجتمع، مما شكل الأبعاد المادية سواء للمسجد أو المسكن أو الكلية الجامعة أو المدينة بشكل عام. فمن ثم أقيمت الجوامع الكبيرة وأنشئت المدارس والتكايا والمطابخ والمستشفيات بالقرب من الأسواق وألحقت كلها بكلية المسجد الجامع. وللمساجد في المدن الإسلامية مكانة رفيعة خاصة. إذ اعتبرت الشعار الأساسي في المجتمع الإسلامي، منها انبثقت العلوم وبها تثقفت الشعوب وتحت سقفها التقى الخواص بالعامة من رجال دولة وعلماء وشيوخ، وعقدت العلاقات الحميمة فيما بينهم، وتحت قببها وقف الناس في صف واحد تلبية لأوامر ربهم سبحانه وتعالى. وهذا أدى بدوره إلى استمرارية الدولة وبقائها. ثم إن رجال الدولة ومعهم المصلّون وجدوا فرصة لزيارة المستشفيات ودور العجزة داخل الكلية. وبذلك ظلت أحوال الفقراء والأيتام والشيوخ تحت عناية خاصة متميزة.

الأذان، منظم ساعات العمل

ارتبط المسجد بكافة الأنشطة التعليمية والثقافية والصحية والتجارية، فتحقق بذلك التكامل الاجتماعي والديني بين أفراد المدينة. فإقامة المساجد قرب الأسواق، سهلت على التجار التواصل بالمساجد وتأدية الصلاة باستمرار، وذكّرتهم بالله سبحانه وتعالى عبر فخامة البناء أو تصاميمه المتواضعة. وكانت الغاية من ذلك كله تنبيه التجار إلى احترام حقوق الآخرين وتذكيرهم بحساب يوم القيامة الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها.
ومما يستحق الذكر أن الأذان هو الذي حدد أوقات الأعمال اليومية في المدينة الإسلامية، أي نُظمت الحياة حسب أوقات الصلاة. هذا الاهتمام بالشعائر الدينية، عمق لدى الناس شعور الأخوة والتكافل، حيث أعطى أصحاب الأعمال أجور العاملين عند انتهائهم من العمل مباشرة، أي قبل أن يجف عرقهم، وذلك اتباعا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة إلى ساعات العمل في القصر العثماني فكانت بين الأذانين. فبعض الاجتماعات في الديوان السلطاني لرجال الدولة -مثلاً- كانت تعقد في الساعة الرابعة قبيل صلاة الفجر. ويتغير موعد الاجتماع هذا، حسب المواسم والفصول، حيث تعقد بعد صلاة الفجر أحيانا، وبعد صلاة الليل (التهجد) أحيانا أخرى، وتُمنح فترة الاستراحة عند أذان الفجر ثم يستمر الاجتماع دون انقطاع حتى قبيل صلاة الظهر بساعة. وخلال هذه الساعة يذهب الكل إلى تناول طعام الغداء ثم تؤدى صلاة الظهر. بعد ذلك يعقد اجتماع باسم “ديوان العرض” أي “ديوان العصر”، حيث تُناقش فيه الشؤون اليومية التي سيقوم بها الصدر الأعظم ثم تُعرض القرارات على السلطان. وهنا يقوم السلطان والصدر الأعظم بتأدية صلاة العصر معا، ثم يعقدان مجلس استشارة يتبادلان فيه الآراء بالمسائل التي تخص الأمة الإسلامية، ويختم هذا المجلس بأذان المغرب. ومما يلفت النظر أن العطلة الرسمية الأسبوعية في الدولة العثمانية، ساعة واحدة فقط، وتكون قبل صلاة الجمعة، ومع رفع الأذان تنتهي العطلة.

انعكاسات الجوهر الحضاري

وهكذا اعتبر المسجد الجامع عنصرا من العناصر المركزية والمحورية بالمدينة الإسلامية وقلبها النابض بالحياة. ولعل إنشاء المساجد والقصور بالأحجار والرخام، يدل على أن المساجد إيماء إلى الحياة الأبدية والقصور تعبير عن بقاء الدولة العثمانية، غير أن إقامة المساكن سواء للفقراء أم للأغنياء كانت من الخشب، وذلك لدلالتها على حياة الدنيا الفانية. ولعلنا نرى اليوم في أوروبا آلاف القصور الحجرية والرخامية التي أقامها الأثرياء والأغنياء، بينما قصور الأثرياء في المدن العثمانية ليست بهذه الكثرة، تأكيدا على رسوخ معنى الفناء والزوال إذ لا يخفى أنه كان هناك المئات من الباشاوات في العهد العثماني، فلو بنى كل واحد منهم قصرا لامتلأت المدن بالقصور، لكنها قليلة جداً في إسطنبول العاصمة وأشهرها قصر إبراهيم باشا في حي السلطان أحمد.
ونضيف إلى كل ما ذكرناه، الاستراحات التي أقيمت على طول محطات القوافل، حيث كانت بمثابة مدن إسلامية صغيرة، فيها المسجد والسوق والمستشفى ومباني الإدارة. وبفضل هذه المنشآت وجد المسافر نفسه في أجواء روحانية مفعمة بالطمأنينة والراحة، فخفف عنه بذلك بعض ما وجد من عناء ومشقة السفر والغربة.

المدن بين الحاضر والماضي

ولم تعد المدن الإسلامية في يومنا الحاضر كما كانت عليه قديما، إذ تغير فيها مفهوم العمارة وتفرقت المنشآت والمباني كالمساجد والأسواق والقصور والمستشفيات وابتعدت عن بعضها البعض. كل هذه التقلبات أثرت سلبيا على الأوضاع البيئية والحياة الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الإسلامية. وفقدت المدينة الإسلامية بذلك طابعها المعماري والديني وهويتها الأصلية، ولم تعد تعكس صورة حضارتها العريقة.
ولقد أصبحنا نلمح في أوروبا اليوم هذه المعالم التي كانت يوما من الأيام من سمات المدن الإسلامية، ففي مدينة أكسفورد مثلاً، نرى الكنيسة والمدرسة جنبا إلى جنب، وفي جوارهما الدوائر الحكومية والأسواق التجارية. ومما يلفت الانتباه أن ظهور هذا النظام الإسلامي بالمدن الأوروبية كان بعد الحروب الصليبية، أي إن الأمم الأوروبية تبنت أسلوب ونظام المدينة الإسلامية وقامت بتطبيقهما في أرجاء بلادها بعد الحروب الصليبية.
فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى تغيير داخلي عميق، وتعديلات جذرية في فن العمارة الإسلامية، ودراسات هندسية جديدة في المرافق التربوية والتعليمية التي تلعب دورا أساسيا في توجيه المجتمعات الإسلامية. فمقولة “الإنسان ابن بيئته” تذكّرنا بوجوب العودة إلى جذورنا التاريخية وأصولنا الحضارية وتراثنا العلمي والإنساني الرفيع، لنستلهم منه ما يعيننا على إنشاء واقع أفضل لحياتنا كأمة.
إن المدينة هي مرآة الحضارات وهويتها، وإنها علامة الازدهار والتطور. وإحياء مفهوم المدينة هذه، هو إحياء للقيم والمعايير التخطيطية للمجتمع الإسلامي، إذ لابد من تأصيل القيم العمرانية التراثية في المدن المعاصرة، ومن إعادة تكوين القاعدة الأساسية للقيم المعنوية وتأصيلها في المجتمع عن طريق الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية والإدارية.
ــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: نورالدين صواش.