لم يكن السكن مع الأخ فريد -رحمه اللّٰه- في الحي الجامعي بـ”فاس”، في الغرفة 476 في الفترة الممتدة من 1981 إلى 1984 سكنًا عاديًا يجمع الطلاب لحين من الدهر ثم يفرقهم الزمن في دروبه، ولكنه كان جودًا إلهيًا علينا نحن الذين منَّ اللّٰه علينا بمرافقته طيلة أربع سنوات من الدرس والتحصيل، لتستمر محبتنا إلى أن نلتقي بمنّ اللّٰه ورحمته في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
كانت هذه الغرفة مدرسة حقيقية للإبداع الأدبي والتربية والتزكية والتحصيل العلمي، لم نكن ونحن ننتسب إلى شعبة الدراسات الإسلامية، أن تحدنا حدودها وحدود مقرراتها، فقد أقنعتنا سعة نظر الأخ فريد -رحمه اللّٰه- وحبه للعلم، أن التكوين الجامعي حقل مفتوح لا تحده حدود. فكنا نختار من حصص الدكاترة ما تطمئن له أنفسنا ونزداد منها علمًا، فلا يكاد يمر علينا أسبوع من الدراسة، إلا وقد درسنا حصة من الفكر الإسلامي عند الدكتور حسن حنفي في شعبة الدراسات الإسلامية، وحضرنا حصة للتاريخ عند الدكتور محمود إسماعيل في شعبة التاريخ والجغرافيا، وحضرنا حصة علم النفس مع الدكتور بنحدو في شعبة الفلسفة، واستمتعنا باللغة العربية من معينها عند الدكتور عبد اللّٰه الطيب، وحصة النحو عند الدكتور فخر الدين قباوة في شعبة اللغة العربية، وعرجنا على كلية الشريعة لنحضر حصة التفسير البياني عند الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ يوم الأحد صباحًا، قبل أن نعود إلى غرفتنا لنضع هذا الرحيق المختوم من المعارف على طاولة النقاش والدرس، مع كؤوس الشاي التي لا تخلوا منها جلسة.
وبين الفينة والأخرى كان فريد -رحمه اللّٰه- يختفي عنا وهو بيننا، فيجلس القرفصاء فوق سريره كأنه جالس على تل رملي في صحراء أرفود (البلدة التي وُلد فيها فريد ونشأ) صامتًا مركّزًا لا يشعر بما حوله ولو كان مدفع الثكنة العسكرية التي كان لا يفصلها عن حيّنا إلى بضع أمتار، وكان الجند يتدربون فيها على إطلاق مدافعهم بين الفينة والأخرى، فتمتلكنا الرهبة من عظم ما نسمع. فكنا نوقن أن ناموس الشعر أو القصة قد تلبسه، فلا نكلّمه ولا نزعجه كي لا نحرم أنفسنا من الاستماع بعد ذلك، إلى أبيات شعر غاية في الإبداع أو قصة غاية في التصوير والإتقان أو مقال أدبي ساخر من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها الأمة الإسلامية. وكنتُ ألحظ في محياه قلق الكتابة، فإذا استلقى على ظهره بين الفينة والأخرى، ورفع الدفتر ينظر إليه مستمتعًا بما كتب من الفقرات قلنا: قصة، وإذا قفز من مكانه وغيّر جلساته وكأنه لا يرتاح لوضعية واحدة في الجلوس قلنا: قلق الشعر، وإذا انطوى على نفسه واستوى على كوعه قلت: مقال ناقد للأوضاع فهي مسببة للانطواء، وثقل حملها يتطلب الاستواء على الكوع، ووضع الرأس بين راحة اليد، فيكون ما يكتب كذلك.
وقد كنت -شهد اللّٰه- أعرف بنفسيته وهو يكتب، وكنت أول من يقرأ عليه في الغرفة ما كتب إذا كتب. وأحيانًا يحس أنه في حاجة إلى مزيد من الهدوء ومناقشة ما يكتب، فيدعوني إلى أن نخرج سويًا إلى خارج أسوار الجامعة، فنجلس على هضبة مطلة على مدينة فاس العتيقة بمنظرها الساحر، فندخل في نقاش علمي وفلسفي عميق لا يخرجنا منه إلا أذان الصلاة. فكان -رحمه اللّٰه- يفتح في فهمي أخاديد من الأسئلة لا زلت أبحث عن أجوبتها في مدرسة الحياة إلى الآن، وقلق السؤال هو مفتاح الإبداع.
وأغلب ما كتب فريد -رحمه اللّٰه- من إبداعات في هذه الفترة لم ينشر إلى الآن، وبعض نقاشاتنا وجدت أثرها بعد ذلك في قناديل الصلاة، وكشف المحجوب، والبيان الدعوي وغيرها مما كتب بعد ذلك بسنوات. وعلى غير العادة، كان في بعض الأحيان لا يكتب في دفتره الخاص، وإنما يطلب كتاب أحدنا ليسجل فيه بعض إبداعاته فيما يشبه رسائل خاصة للمعنيّ بالأمر، أو إبداعًا أدبيًا يخصه به هدية وعربون محبة، وكان فريد لا يهديك إلا إبداعًا أو تمرًا.
فكانت هذه القصة مما خصني به، وأنا أخص بها مجلة “حراء”، لأن فريدًا -رحمه اللّٰه- كان يخصها بحب خاص، وأحس أنني أستشيره الآن وهو في مرضاة ربه فيجيبني موافقًا: حسنًا فعلتَ… رحمك اللّٰه أخي فريد وأسكنك فسيح جنانه.