في يومين من أيام إسطنبول المشمسة الصحوة، ووسط عبق التاريخ المجيد الذي أوحى به المكان “مركز الفرات الثقافي” بالقسم الأوروبي من إسطنبول، وفي حضور لافت لكوكبة عظيمة هائلة من علماء الأمة الإسلامية من تركيا ومن خارجها، وبمتابعة كثيفة لطلاب وطالبات العلم، ضاق عنها المكان فاضطروا إلى إكمال المتابعة عبر شاشات كبيرة خارج القاعات، أطلَّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بهديه من قلب “حراء” التركية الناطقة بلغة أفصح العرب ليبعث في القلوب والأرواح “أملاً جديدًا”، في أن القرن الحالي والقرون القادمة ستولي وجهها شطر هَدْي خير العباد صلى الله عليه وسلم.
ففي يومي السبت والأحد الموافقين للتاسع والعاشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2010، جرت فعاليات مؤتمر دولي عنوانه “هَدْي خير العباد” بتنظيم مشترك بين مجلتي “حراء” و”يني أوميت” (الأمل الجديد) من قلب إسطنبول العاصمة التاريخية لتركيا، دعتا إليه علماء ومفكرين من أعلام الفكر الإسلامي من تركيا وخارجها منهم: مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور علي جمعة، ورئيس الشؤون الدينية في تركيا الأستاذ الدكتور علي بارداك أوغلو، والأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، والأستاذ الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية.
في هذا الجو المعطر بأريج النفحات النبوية، افتتح القارئ التركي ذو الصوت الشجي “رضا كوناي”، فعاليات المؤتمر بأواخر سورة الفتح وأوائل سورة الحجرات، معلنًا من خلال البيان القرآني المعجز أن محمدًا رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم وأن اللّٰه أرسله ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ﴾ وأنه لا تقديم
﴿بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ﴾.
وفي هذا الإطار الروحاني المشرق، حيّا الدكتور “أركون جابان” رئيس تحرير مجلة “يني أوميت” جموع الحاضرين ورحب بهم في بلدهم الثاني تركيا. وأوضح في كلمته؛ أن المجلة قد نظمت في الصيف الماضي مؤتمرًا بعنوان: “القرآن الكريم والحقائق العلمية” دعت إليه لفيفًا من علماء الأمة الإسلامية ومفكريها، ثم يأتي هذا المؤتمر اليوم ليمثل نوعًا من التكامل مع المؤتمر السابق، لأن هَدْي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان التفسير الحي لكتاب اللّٰه عز وجل، وحياته التي عاشها بأحداثها وحوادثها؛ نموذجًا مثاليًا تستطيع البشرية أن تجد فيه العلاج الناجع لأدوائها، والحل الأمثل لمعضلاتها إلى أن تقوم الساعة.
وبفصاحته المعهودة وأدائه العذب الرائق، استهل المشرف العام لمجلة “حراء” السيد “نوزاد صواش” كلمته متمثلاً بأبيات شعرية مشهورة تنم عن براعة الاستهلال، حيث وقعت موقعًا حسنًا استعذبتها الآذان وطابت بها النفوس:
للّٰه قوم إذا حلوا بمنزلة**حل السرورُ وسار الجودُ إن ساروا
تحيا بكم كلُ أرضٍ تنزلون بها**كأنهم في سماء الأرض أقمارُ
لا أوحش اللّٰه ربعًا من زيارتكم**يا من لكم في الحشا والقلب تذكارُ
ثم حيّا الحضور من تركيا ومن جميع أنحاء العالم وزفّ إليهم بشرى صدور “حراء” كل شهرين من أوائل العام القادم 2011 للميلاد. والجدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى التي تعقد فيها “حراء” مؤتمرًا لها في إسطنبول، بالرغم من تنظيمها لمؤتمرات تعريفية كثيرة في العديد من العواصم العربية والإسلامية.
ثم توالت الكلمات الافتتاحية من كلٍّ من الأستاذ الدكتور “راشد كوجوك” عميد كلية الإلهيات بجامعة مرمرة، والأستاذ الدكتور “شرف الدين كولجوك” الرئيس الثاني لوقف الديانة التركية، والأستاذ الدكتور “علي بارداك أوغلو” رئيس الشؤون الدينية في تركيا، وفضيلة الأستاذ الدكتور “أحمد عبادي” الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، الذي افتتح كلمته بصلاة خاشعة على الحبيب المصطفى، ومناجاة خاضعة للمولى عز وجل وجلت منها القلوب فظهر أثرها في الجفون، وأوضح في كلمته أن النبي بشرٌ عبدٌ للّٰه مثل البشر، غير أنه اصطُفي بعلم اللّٰه ليوحى إليه، وأن التأسي في القرآن المجيد يتم بالنظر إلى النبي المثال فبالنظر إلى الحال ثم العمل على الانتقال من الحال إلى المثال، ثم أردف “أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحدة القياسية الشاهدة التي تمثل حالة السواء في المجال الإنساني، والتي بالنظر الواعي إليها، يتم التعرف على الاختلالات التي في هذا المجال جمعًا وأفرادًا. بذلك يحصل إمكان العمل على ردها إلى حالة السواء.. وتلك نعمة من اللّٰه جلَّى.. حتى إذا تمت إفادة الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها بدورها تصبح وحدة قياسية على الصعيد الاجتماعي والحضاري، يمكّن التعرّفُ عليها من التعرّف على الاختلالات في هذه الأصعدة، ومن ثم يمكن التعرف على ما يلزم من العمل لردها إلى حالة السواء.
كما كان لافتًا للنظر، الحضور القلبي والروحي للأستاذ العلامة “محمد فتح اللّٰه كولن” من خلال كلمته التي ألقاها نيابة عنه مقدم البرنامج. فقد عبر عن أسفه لغيابه عن الحضور، وقدم خالص شكره لكل رجال العلم والفكر والخدمة الإيمانية، وكل من أسهم في عقد المجلس العلمي والعرفاني الذي يتم فيه تناول هَدْي روح سيد الأنام، ومفخرة الإنسانية والمرشد الأكمل وفريد الكون والزمان عليه أكمل التحايا. وأوصى بوجوب العودة إلى المنابع، والتغذي من مصادرنا الذاتية التي يمثلها الكتاب والسنة، حيث أحرزت الأمة في تاريخها موقعًا تغبط عليه فصارت قدوة للأمم في ظل تمسكها بهذا النظام الإلهي خاصة في جيل الصحابة. ونبه إلى خطورة الابتعاد عن تلك المنابع أو تقديمهما بشكل لا يليق بسموهما الروحي والأخلاقي.
ثم استعرض فضيلة الإمام العلامة الأستاذ الدكتور “علي جمعة” مفتي الديار المصرية في المحاضرة الافتتاحية “هدي النبي في التعايش مع الآخر”، حيث أوضح أن حياة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اكتنفتها أربع مراحل هي: العهد المكي، والعهد الحبشي، والعهد الأول والثاني في المدينة المنورة، وأن بقاء المسلم في أي مجتمع مّا، لا يخرج عن هذه النماذج الأربعة، ومن ثم ينبغي علينا أن نستفيد استفادة تامة من كل هذه النماذج، باعتبار أنها التصرف الذي ارتضاه اللّٰه عز وجل كتطبيق معصوم لمراده في هذه الأرض؛ كما أكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع التعايش مع الآخرين رغم اختلاف ظروفهم وأحوالهم وعقائدهم، وأن على المسلمين استلهام الدروس والعبر من حياته، والاستفادة من نظرته إلى الآخرين والأحداث، وإدارته للدولة وحياته التعبدية. ومع أن الموضوع في إطاره فقهي يغلب عليه طابع الاستدلال النقلي والعقلي، إلا أن الحضور قد رصدوا أكثر من مرة حبًّا جارفًا وعشقًا والهًا لقدوة السالكين وقرة عين العارفين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فضَحه لؤلؤ رطب ترقرق في مآقي فضيلته، فأذكرني ذلك قول الإمام الشافعي: فقيهًا وصوفيًا فكن ليسَ واحدًا… وما ذلك على فضيلته بغريب.
ثم بيّن الأستاذ الدكتور “خير الدين كارامان” في المحاضرة الافتتاحية الثانية، أن موقف أهل السنة والجماعة الذين يشكلون العمود الفقري للمسلمين، والذين يمثلون الإسلام بوجهه الصحيح، يظهر -بحقٍ- مرونتهم في إقبالهم على الحوار مع المجموعات الإسلامية الأخرى ومع غير المسلمين، أو إقبالهم على الحوار مع الإنسانية جمعاء. كما أكد على ضرورة قراءة السيرة النبوية مع الأسرة يوميًّا ولو لمدة قصيرة.
ثم تتابعت الجلسات في اليوم الأول، كل ينهل من معين بحر النبوة الذي لا ينضب على حسب طاقته؛ فقد تم تناول جهوده صلى الله عليه وسلم في تثبيت دعائم عقيدة التوحيد، وفقه القدر من منظور النبوة، ثم هديه في الحكم على اعتقاد الآخرين ووصمهم بالكفر والإضلال وبيان منهجه المعتدل في هذا الجانب. كما تم تناول هديه في العلاقة بين الفرد والدولة، وهديه في التعامل مع أصحاب الديانات والثقافات الأخرى.
وهكذا انتهت جلسات اليوم الأول في الروض الأنف للحبيب صلى الله عليه وسلم مع شعور غامر؛ بأن روح الحبيب المصطفى تضيء الزمان والمكان، وجال بالأذهان طيف خياله، وتشخص للأبصار جمال صورته، كل على حسب استعداد روحه وصفاء قلبه، فمنّا من رآه أبًا يربت بيدٍ حانيةٍ على ظهره، ومنّا من رآه رئيسًا حاكمًا يسوس رعيته بالعدل والمساواة ويتعامل مع الآخرين بالحكمة والسياسة، ومنّا من رآه مرشدًا هاديًا يأخذ بأيدينا من مهاوي الضلال وأودية التخبط إلى جادة الطريق، ومنّا من رآه حكيمًا يحل أعقد المستعصيات في فترة وجيزة، ويقدم وصفة علاج ناجعة لمريض كاد يشرف على الموت فأنقذه بعدما أعيا الأطباء واستيأسوا من حالته، ومنّا من رآه كل ذلك أو يزيد.
وفي مساء تلك الليلة عقد المنظمون أمسية حاشدة، ضمت نخبة هائلة من أساتذة وعمداء كليات الإلهيات وشيوخ وأئمة المساجد الكبرى بتركيا وبعض الضيوف العرب.. تخللت تلك الأمسية، أحاديث حول أهمية عقد ذلك المؤتمر بإسطنبول ودلالات ذلك، والدور الذي تلعبه تركيا في تحقيق عالمية رسالة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ونشر حقائق الإيمان والقرآن وتبليغ النور المحمدي الأعظم، إلى كل مكان تشرق عليه الشمس أو تغرب، من خلال فتح المدارس وإنشاء المؤسسات التربوية، وتقديم صورة حضارية مشرقة عن الإسلام وأهله. كما عبر المتحدثون من عمداء الكليات، عن سعادتهم لالتقائهم بهذه الكوكبة العظيمة من علماء الأمة الإسلامية، وشكروا المنظمين على إتاحة هذه الفرصة للتواصل معهم عن قرب.. وآب الجميع إلى مأواه مغتبطًا بهذه المناسبة السعيدة.
ثم استأنف الجميع في صبيحة اليوم التالي التوافد إلى مائدة الرحمن في ضيافة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث أطر الجلسة الأولى فيها فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبادي، وقدم الأستاذين العالمين الجليلين فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وفضيلة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي. وبعقلٍ نقي وقلبٍ تقي أفاد فضيلة الدكتور البوطي، أن الأمة باختلاف مذاهبها وفرقها واختلاف عصورها، متفقة على “وجوب الاتباع وتجنب الابتداع”، وإنما وجه الاختلاف الذي تسرب بينهم يدور حول تفسير الاتباع وضوابطه، وحول معنى الابتداع والمراد به والذي يقوم على دلالات لغوية وأسس بيانية لم تكن كلها محل اتفاق من علماء العربية؛ مما انبثق عنه نشوء الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية، وطبقا لهذا الأساس ومع انتفاء أي دور للعصبية النفسية أو العوامل الخارجية في هذه الاجتهادات لا يمكن لتلك الفرق أو المذاهب المختلفة أن تفقد هويتها الإسلامية، أو أن ينظر إليها على أنها تمارس في اجتهاداتها نوعًا من الشذوذ. بخلاف ما لو استدعى الاجتهاد الجانح عن أهل السنة والجماعة خروجًا صريحًا على ما ينص عليه القرآن، بعبارة لا تحتمل التأويل أو على ما تواتر من حديث رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم بشكل يستعصى على التأويل، فضلاً عما يكمن وراءه من عصبية ذاتية أو دعم خارجي، وضرب أمثلة متنوعة لكلا الاجتهادين.
وبحماسته المعهودة وعقله الموسوعي نحى الدكتور الزحيلي باللائمة على أعداء الإسلام من الخارج والداخل، الذين يحاولون التخلص من السنة النبوية الشريفة، إما بإنكارها بالكلية أو بالتجزئة فيها، بعد ما يئسوا من التشكيك في القرآن الكريم لإعجازه، وذلك في عرضه الذي قدمه بعنوان “السنة النبوية الشريفة بين التجزئة والشمول”. ثم أفاض في بيان حجية السنة النبوية الشريفة ومكانتها من التشريع الإسلامي، وساق العديد من الحجج والبراهين النقلية والعقلية التي لا تقبل النقض على وجوب التمسك بسنة خير العباد، وأوضح عددًا من أوجه خدمة السنة النبوية المباركة لكتاب اللّٰه عز وجل؛ ليكون في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم توالت الجلسات تتناول كل محاضرة فيها غصنًا من الدوحة النبوية الغناء، وتبرز جوانب العظمة في الدعوة وصاحبها الذي تمثلت في شخصيته صلى الله عليه وسلم كل جوانب الحياة. حتى إذا أناخ المؤتمر راحلته في الجلسة الختامية، داخل الجميع حزن شفيف؛ لسرعة انقضاء هذين اليومين القدسيين المباركين، وبكى من كان يمنعه الحياء من البكاء، ووقر في النفوس والأذهان أن اتباع هدْي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحل الوحيد للمّ الشعث ورأب الصدع، وأن الإكثار من ذكر اللّٰه ولزوم مراقبته، وتغذية القلب بمحبته، والمثابرة على ذلك يذيب الأنانيات ويقضي على حظوظ النفس وشهواتها ويجعل الأمة كلها لحمة واحدة، لأنها لا تلتقي إلا على رضا اللّٰه ومحبته.
لقد تعلمنا في هذين اليومين أنه لا يمكن الانجذاب نحو النبي لكي نروم اكتمال اتباعنا له إلا إذا أحببناه، وإذا أحببناه احترقنا بأنوار العشق، وإذا احترقنا بأنوار العشق انجذبنا، وإذا انجذبنا اقتربنا، وإذا اقتربنا تأدبنا، وإذا تأدبنا ازددنا اقترابا، فازددنا عشقا، فازددنا احتراقا، فازددنا حزما وجدية لا ينفرط عقد ذلك، إلا بلقاء اللّٰه تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99). بهذه الكلمات المباركات أسدل المؤتمر ستاره، ولَمْلَمَ العلماء والباحثون أوراقهم التي نشروها لينفحوا المكان والزمان، بعطر سيد الأكوان والأزمان، واستعدت القاعة لتطفئ أنوارها مؤذنة بنهاية محتومة لكل بداية، وغادر الجميع المكان تتجلى في قلوبهم أنوار محبته، وتشرق في أرواحهم شمس عشقه، ولسان حالهم يقول:
فليت اليوم فيه كان دهرا**وليت العمر مد له فطالا.