لا يختلف عاقلان حول أن أمة المسلمين عانت في القرون الأخيرة من حالة ضعف أسلمتها إلى غثائية، هذه الغثائية دفعت بها في القرن المنصرم إلى ذيل القافلة الحضارية للبشرية. ومنذ عقود وهي تمر بمرحلة صحوة، تحاول من خلالها أن تعاود النهوض الحضاري المعهود عنها بالأمس والمنشود اليوم.
في هذه المقالة نطرح عددًا من المقاربات والمقابلات الجامعة بين تشابه المبنى والمعنى في إطار تكوين المشروع النهضوي المنشود لتقدم هذه الأمة نحو المكانة اللائقة بها في المضمار الحضاري، وتتكون المقالة من ثلاثة عناوين:
امتلاك النظَّارة الفكرية المناسبة
حتى يغادر المشروع الحضاري الإسلامي مربع الصحوة العاطفية إلى ساحة النهوض العقلاني، يتوجب عليه أن يمتلك النظّارة الفكرية المناسبة التي تجعله يدرك الفروق بين الألوان، ويستطيع الفرز في الأشياء المتقاربة في الشكل والمختلفة في المعنى، حتى تكون تحركاته سديدة وقراراته رشيدة، ولاسيما في الموقف من “الاجتهاد” ومن “التعدد” ومن “الآخر الحضاري”.
في إطار الاجتهاد ينبغي أن يفرق بين “نفحات” العقل و”لفحات” الهوى، بين “منحة” التفكير العقلاني المنضبط بالحقائق الشرعية أي المقاصد، وبالحقائق الكونية أي السنن والنواميس والمفضي إلى “التجديد”، وبين “محنة” إطلاق العنان للهوى المجرد من كل ضابط، والمنفلت من عقال اللغة والأصول، والموصل إلى “التبديد”.
ينبغي التفريق بين “السدود” المانعة للعقل من أي تفكير وبين “الحدود الضابطة” لطاقته في النظر والفكر والتجديد، حتى يخلو من الأهواء ويتطهر من الشهوات ويتخلص من الشطحات، وبحيث يتركز جهده في عالم “الشهادة” دون عالم “الغيب”.
ويجدر به أن يفرق بين “نعمة” النص المقدس و”نقمة” التقليد للاجتهادات البشرية الغابرة التي أكل الدهر على أكثرها وشرب، حتى لم تعد تسمن ولا تغني من جوع التخلف المعاصر، فـ”الدين” تنزيل إلهي؛ أي مطلق، أما “التديُّن” فهو كسب بشري؛ أي نسبي. وينبغي التفريق بين “الالتزام” و “التزمت”؛ فالالتزام مفروض، والتزمت مرفوض، مع أن الفرق بينهما في “المبنى” قد يبدو بسيطًا، لكنه كبير جدًّا في “المعنى”.
وفي إطار التعدد الإسلامي، ينبغي التفريق بين تعدد “الآراء” وتعدد “الرايات”، بين تعدد “البرامج” وتعدد “المناهج”، بين تعدد “التكامل” وتعدد “التآكل”… فالأول ينتمي إلى منطقة المتغيرات وهو تعدد سائغ وممدوح، أما الآخر فهو تعدد في منطقة الثوابت وهو من التفرق المذموم.
إن التعدد في منطقة الثوابت مرفوض، لأنه يُشِيع ثقافة “التباين” ويُشَيِّع ثقافة “التعاون”، ولأنه يوزع أسباب “الاختلاف” ويقضي على أواصر “الائتلاف”.
وفي إطار التعامل مع الآخر الحضاري وعلى رأسه الغرب الذي يقود القافلة الحضارية للبشرية جمعاء في هذا العصر، ينبغي للمشروع الإسلامي أن يفرق بين التفاعل الحضاري والغزو الثقافي، بين اقتباس “التكنولوجيا” واستيراد “الأيديولوجيا”، بين التسامح والتخاذل، فالموقف الأول “فضيلة” والآخر “رذيلة” بالمقياس الشرعي والعقلي والواقعي.
ويتوجب التمييز في هذا السياق بين الاستفادة “المشروعة” من الآخر وبين التبعية “الممنوعة”، بين التقدم المنشود والحداثة المنبوذة، بين التميز “المفروض” والانغلاق “المبغوض”، بين المعروف المحتّم والولاء المحرّم.
المزاوجة بين “القيم” الربانية و”القيام” السببـي
إن الوصول إلى عمارة الأرض كطريق عبور إلى السماء للفوز بالجنة يجعل من المحتَّم في هذا الدين العظيم المزاوجةَ المتزنة بين سائر شؤون “المعاش” وسائر شؤون “المعاد”، فلا “انفصام” بين دين ودنيا، ولا “انفصال” بين دنيا وآخرة.
ولإيجاد الفاعلية في صناعة الحياة، ينبغي بناء “الإرادة” في الفرد وبناء “الإدارة” في المجتمع، وينبغي امتلاك إرادة “الدعوة” وإدارة “الدولة”. لابد أن يكون المسلم الفاعل، بنعومة “الحرير” وصلابة “الحديد”، بحيث يتعامل مع المسالمين بوداعة “الحَمام” ومع المحاربين بقوة “الحِمام”.
لابد أن ينطلق لدراسة “الفيزياء” من “الفيزيقيا”، وأن يمتلك أزِمَّة “الكيمياء” وصولاً إلى الكمال البشري الممكن، وأن يجمع بين “صفاء التصور” و”نقاء التصوف”، وأن يعمل على تزكية الأرواح والأشباح في آن واحد، وأن يهتم باكتساب الأخلاق والأرزاق، وأن يوائم في شخصيته بين طبائع “العُمَّال” وخصال “العُبَّاد”.
وفي عمله هذا، يتحتم عليه أن ينطلق من “نصوص” الكتاب و”فصوص” الحكمة، وأن يهتم بتنمية القلوب والقوالب، وأن يلتزم بـ”السنن النبوية” و”السنن الكونية”، وأن يعيش دومًا في بحبوحة تجمع بين “ثروة الأفكار” و”ثورة الأذكار”، بين رفرفة الروح واستقامة الجوارح، بين “إقامة الصلاة” للخالق و”إدامة الصِّلات” مع الخلق، بين تجميل “المباني” وتحسين “المعاني”.
المؤمن الفاعل هو الذي ينطلق للأعمال من العلوم، ويستطيع ضبط “الأفعال” وفق إيقاعات “الأفكار”، يجمع في تكوينه بين إتقان فقه “الأولويات” وإتقان صناعة “الآلات”، يوائم بين “الثقافة” و”التقانة”، لا تمر محطة حياتية دون أن يتزود منها، حتى ولو كانت الأفراح والأتراح.
المؤمن الحق يزاوج بين النقل والعقل، ولذلك يمتلك بوصلة الفكر الرشيد والفعل السديد، ويوائم بين متطلبات العقل والأكل، بين التزود من الشعائر والشطائر، يهتم بإيجاد الأمن “النفسي” عبر الإيمان “العميق”، والأمن “الحسي” عبر العمل “الدقيق”، ويهتم بتمتين الضمائر والعمائر وبتنظيم المشاعر وتوحيد العشائر، وكذا بإشعال المصابيح؛ سواء كانت مصابيح “الهداية” أو مصابيح “الإنارة”، لأن فقهه يمنحه القدرة على تفعيل الشرع في الشوارع.
المؤمن الحق يتميز بالفاعلية في التفاعل الخلاق مع “الأيديولوجيا” و”التكنولوجيا”، ولذلك تجده في معركة تهذيب “النفس” كما تجده في معركة تكرير “النفط”، فهو لا يملّ من تصفية نفسه من الشوائب كما لا يكلّ من تصفية النفط من مشتقاته، تجده حاضرًا في مجال “التربية” العقلية وفي سياق “التعبئة” العاطفية، وهو لا يفرق بين حفظ “سور القرآن” والمحافظة على “أسوار الأمة”، لأنه دائم الشعور بأنه على ثغرة من ثغور الأمة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تربوية أو اجتماعية أو ثقافية أو عسكرية.
المؤمن الحق يصنع الحياة ويعمر الأرض بفاعلية، عندما يهتم بتشييد الجوامع والجامعات، وبابتناء المدارس والمتارس، وبإعلاء المآذن والمداخن، وبتفعيل المحاريب والمحاريث، وببناء المنارات والمطارات، وبتطوير الشرائع والمشاريع، وكذلك بتوسيع “البيادر” وابتكار “المبادرات”…
سرّ فاعلية المؤمن؛ أن عبادته في محراب “الحياة”، وليست فقط في محراب “الصلاة”، ومن ثم فهو لا يفرق بين تطوير التشريع وتطوير التصنيع، لا يفرق بين “صوامع المساجد” و”صوامع الغلال”، ولا بين “أعمدة المساجد” و”أعمدة الكهرباء”، وهو شديد الحرص على ملء “الأشواق” بمحبة الخالق وتعبئة “الأسواق” بكل ما ينفع المخلوقات.
وكما أن المؤمن شديد المحافظة على “أوراده” الروحية، فهو شديد المحافظة على “أوردته” الجسمية، حيث تتعانق الروح مع الجسم، ويتوحد المبنى مع المعنى، فلا مجال لدهون الغفلة و “كوليسترول” الرتابة في حياته، وإذا حضرت فإنه يذوِّبها بالتذكر والاستغفار.
والمؤمن الحق يعتزّ بلغة القرآن، ولهذا فإنه يحافظ على “القواعد النحوية” من الغزو الثقافي كما يحافظ على “القواعد العسكرية” من الغزو الحربي، ويجتهد في تطوير “المشتقات اللغوية” كاجتهاده في تطوير “المشتقات النفطية”، وينظر إلى “النحاة” كما ينظر إلى “الدعاة”، لأن اللغة هي إحدى روافع أيّ أمة نحو الأوج الحضاري، فكيف بلغة القرآن؟!
المؤمن الحق هو لبنة متينة في الجدار الحضاري لأمته، لأنه مهتم ومهموم بكل ما يوصل هذه الأمة إلى المعراج الحضاري من روافع وقنوات، بما في ذلك “القنوات المائية” التي توزع الحياة إلى الأرض اليباب و “القنوات الفضائية” التي توصّل صوت الإسلام إلى كل بيت في هذه المعمورة حتى تتحقق نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا المضمار، وقبل ذلك “القنوات الروحية” التي تحمل دعوات المؤمن إلى سدرة المنتهى في لمح البصر.
وهو مهتم ببناء السفن التي ترتاد هذه القنوات، سواء كانت “السفن البحرية” أو “السفن الفضائية”، فلا يفرق بينهما وبين “سفن النجاة” من عذاب الله! ولا يفرق في هذا المضمار بين بناء حاملات “الطائرات”، وبناء “الطيارين” إلى الله الذين يعرجون إليه بفضل جناحي العلم والإخلاص. ولا يفرق كذلك بين صناعة الصواريخ العابرة للقارات والسهام العابرة للسماوات، ولا يفتأ يعمل باجتهاد من أجل إتقان قواعد الإطلاق لهذه الصواريخ، وإصلاح قلوب الإطلاق لتلك السهام.
تعبيد طريق النهوض الشامل
من أجل الوصول إلى ذروة التقدم الحضاري، لابد من تعبيد الطريق إلى القمة بمجموعة من الأسباب والمقدمات الضرورية لذلك، وهي من “المتن” العبادي وليست من “الهامش”. إن إيصال الإسلام إلى عقول وقلوب الناس، يحتِّم على أهل الدعوة والتربية أن ينطلقوا مما هو “كائن” إلى ما يجب أن “يكون”، مع ما يقتضي ذلك من إبراز “التيسير” واستبعاد “التعسير”، ومن تقديم “التبشير” على حساب “التنفير”، وتقديم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، والحرص في هذا السياق على إشاعة ثقافة “التناصح” والابتعاد عن أساليب “التفاضح”، وأن يظل الناصحون “دعاة لا قضاة”، بحيث يتعاملون مع الناس بحرصِ وتسامح “الدعاة” لا بصرامة وحِدِّية “القضاة”.
ومن أجل نمو المشروع الحضاري الإسلامي، ينبغي أن يوصِل حبل فِكْرِهِ بنهر “التجديد”، مع تجفيف مستنقع “التقليد” الراكد، أي أن من الضروري بمكان، رفع بيارق “التفكير”، وحتى يتحقق ذلك، لابد من تنكيس رايات “التكفير”.
لقد أمرنا الله بالدخول إلى الإسلام من كافة الأبواب عندما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(البقرة:208). وحتى يتحقق “شمول” الإسلام، لابد من تقليم أظافر “الشمولية” التي تنافس الله في خصائص ألوهيته في كثير من مجالات الحياة.
ومن أجل تحقيق “الجهاد” الشامل في حياة الأمة، لابد من إطلاق العنان لـ”الاجتهاد” في كافة العلوم والمعارف وسائر التخصصات. ومن أجل إبراز “خصائص” الإسلام الذاتية، لابد من مراعاة “خواص” سائر الشعوب ووضع مميزاتها الاجتماعية الحسنة بعين الاعتبار، فلا تعارض بين خصائص الإسلام وخصوصيات الشعوب.
إن شمولية الإسلام، تتطلب من المسلم أن ينقل عبادته من “محراب الصلاة” إلى “محراب الحياة”، وليتحقق ذلك يتعين عليه الخلاص من أسْر العادات، وأن يعي ويتذكر أنه يتقلب دومًا بين أطباق العبادة وصفوفها في سائر الساعات وشتى التصرفات ومختلف الظروف: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام:162)، وبهذا فإنه يحتسب الأكل مثلما يحتسب الصيام، ويحتسب الصمت كما يحتسب الكلام، ويحتسب النوم كما يحتسب القيام، وبالمثل يحتسب الضحك كالبكاء، والفرح كالترح، والغنى كالفقر، والرفاه كالتقتير، والتمتع بالطيبات كالصبر على النوائب… فلقد علّمنا القرآن، أن الله سبحانه وتعالى ابتلى نبيه سليمان عليه السلام بالمُلْك والتمكين كما ابتلى موسى عليه السلام بالاضطهاد والكيد، وابتلى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأمرين.
إثبات الوجود يتطلب تطبيق الحدود الإسلامية
ومن أجل أن تعود الأمة إلى “المكانة” التي تليق بها، ينبغي استثمار “إمكاناتها” كروافع للوصول بها إلى تلك المكانة التي تحقق وجودها وشهودها الحضاريين. لكن إثبات “الوجود” يتطلب تطبيق “الحدود” الإسلامية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأخلاقية والتشريعية، بمعنى “مقاربة” سائر الأوامر وعدم “مقارفة” شتى النواهي.
عندما تفعل الأمة ذلك، تكون قد حققت “وحدانية” الله في حياتها، وبذلك تتحقق “وحدتها”. فلا وحدة بدون وحدانية ولا سيادة بدون استقلال الحاكم الكوني بالتشريع والتوجيه.
وبالطبع، فإن عودة الإسلام إلى مكانته اللائقة به لا تتحقق بالمعجزات، بل بوثبات الرجال الذين يتخرجون من محراب الصلاة ليعملوا في صناعة الحياة، وهؤلاء هم “الفوارس” الذين يتوجب استخلاصهم بمحاربة “الفيروسات” التي تسرق الرجولة، تاركة الأفراد مجرد ذكور.
ومن أجل إقامة “الدولة” التي تحتكم إلى الإسلام وتحكم به، لابد من تقوية صروح “الدعوة” التي يحسن أبناؤها فقه الإسلام ويجيدون تجسيده في حياتهم ويتقنون عرضه بسلوكياتهم. فإن إقامة دولة الله في القلوب والأعمال أكبر ضمانة لإقامة دولة الله في حياة الناس.
ولا يستطيع أي مجتمع أن يبني مداميك قوية “للتنمية” ما لم يتخلص من “التعمية” التي يمارسها الاستبداد، سواء كان فكريًّا أو سياسيًّا، وسواء انتمى أصحابه إلى السلطة الدينية أو إلى السلطة الزمنية. ولا ينبغي أن ينسى أحد في هذا السياق، أن امتلاك “الحقيقة المطلقة” من حق الله وحده، وبالتالي فلا “قطيعة” ولا أحكام “قطعية” في التعامل مع المنتسبين إلى هذا الدين إلا عندما يتعلق الأمر بالأحكام “القطعية” التي صارت محل اتفاق الأمة بالفعل، ودخلت ضمن دائرة المعلوم من الدين بالضرورة.
وفي الأخير، لا يصح نسيان “المآل” عند تجميع “المال”، وينبغي الحذر من السقوط من علياء “عمارة” الأرض إلى هاوية “عبادة” الدنيا، والحذر من الانزلاق من قمة “التعامل الظاهري” مع الناس، إلى وهدة “الرؤية السطحية” التي تدرك الشكل دون المضمون وتركز على الاسم دون المسمى.
وعند قراءة الأحداث، لا ينبغي الخلط بين الحذر وبين التفسير التآمري مع إدراك خطورة القفز من “التفسير” إلى “التبرير”، وخطورة الانغماس في “الآني” على حساب “الآتي” أو الالتفات عن الحاضر إلى الماضي.