يتطرق هذا المقال إلى الكيمياء الحية والفيزيولوجيا النباتية عند البذرة، ويتناول دورة الحياة من التطور والنمو عند النباتات ذات الأوعية (Les Plantes Vasculaires)، وكذلك فيزيولوجيا علم وظائف الأعضاء (Physiologie des Plantes) مع الارتباط الوثيق بين جميع المراحل منذ الإنبات إلى النمو، مرورًا بالتطور ومنتهيًا بالازهرار، وكذا شروطه و مراحله الفيزيولوجية والبيولوجية الدقيقة التي يمر بها حتى الإخصاب وإنتاج الثمار بما فيها من بذور، والتي بدورها تنبت لإغلاق الدورة الحية عند النباتات ذات الأزهار (Plantes à Fleurs).
قبل التطرق إلى هذه المراحل بكل دقة، يجب في أول الأمر أن نعرّف بكلمة “بِذرة”: وهي كل شيء نباتي يمكنه بعد إعطائه الشروط الخارجية الملائمة، أن يبذر أو يزرع. وقد يدخل في هذا التعريف كل من البذور (Graines)، والدرنات (Tubercules)، والفواكه الجافة (Fruits Secs)، والتي يكون الجنين بداخلها قد وصل درجة من درجات الإنضاج، والتي هي متغيرة بتغير الأجناس والأنواع.
الإنبات عند عالم وظائف الأعضاء أو العالم التجريبي، يتميز بخروج الجذرة الجنينية (Radicule) أو الجذرة المستقبلية من الأغلفة التي تحيط بالجنين، أما الباقي من ظهور الأوراق والجذع فهي من قِبل النمو والتطور مع تعقيداته وارتباطاته… ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾(ق:9)، ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾(النمل:60)،
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾(لقمان:10).
الإخراج، يتميز بظهور النباتات الفتية على سطح الأرض ونقول إن البذار ترتفع (Semence Lève)، هذه المرحلة التي تكون فيها النبتة الفتية ذاتية التغذية، ويكون الجنين متقدم التطور؛ هي مرحلة جد متقدمة وهي انبثاق أو بروز البذار (Emergence de la Semence)، ويسميها القرآن الكريم في جميع آياته ذات الصلة بـ”الإخراج” مما يتوافق تمامًا مع المصطلح العلمي العالمي وبجميع اللغات: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾(السجدة:27)، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:22)، ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ﴾(إبراهيم:32)، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99)،
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الأعراف:57).
أنزلنا الماء بقدر حسب تفسير ابن كثير؛ الله سبحانه وتعالى أكثر نعمه على عباده، وهذه النعم لا تعد ولا تحصى. في إنزاله الماء من السماء بقدر، أي حسب الحاجة وهنا يكمن أحد الإعجازات الكبرى في عملية الإنبات، لأن الله تعالى في كتابه الحكيم وفي جميع الآيات المذكورة يقرن الإنبات بالماء وفي هذه الآية بـ”قدر”. ومن هنا أثبت العلم الحديث أن عملية الإنبات جد معقدة وتبدأ بالتمييه وامتصاص الماء من طرف البذرة، مما يجعلها تنتقل من حياة بطيئة جدًّا إلى حياة نشيطة، مما يجعل الجنين يخرج من سباته ويبدأ في التنفس بطريقة نشطة، ومن ثم يبدأ التطور وتتكون الأعضاء.
إن وضعية الجنين وشكله وتركيبته جدّ معقدة ومتغيرة من جنس لآخر ومن فصيلة لأخرى، مما يعني أن خروج الجنين من البذرة عبر الغلاف الذي يحيط به، هي بذاتها متغيرة حسب مميزات الجنين. وتبقى العوائق التي يعبرها الجنين والتي تتكون منها هذه القشرة، متكونة غالبًا من الأجزاء الصلبة والطبقات البارانشيمية للغلاف الزهري والوريقات.
مراحل الإنبات والأطوار المختلفة للإنبات
طور التبليل (Imbibition)؛ وهو الطور الأهم في إنبات البذور، فبدون هذا الطور لا يمكن للجنين أن ينمو ويعطي نبتة. أما كمية الماء لتبليل البذرة والضروري لنموها، مرتبط بالطبيعة الخصوصية للبذرة، وهذه التجارب على بذور الزيتون ونتائجها الميدانية، تبين مدى هذا الارتباط. فعند بذرة ذات المخزون الزيتي أو الدهني، 150% من ارتفاع الوزن الطري للبذرة، ناتج عن تبليلها الضروري للإنبات. هذا ويمكننا استنتاج أن كل تربة لها أو تتوفر على نسبة نهائية للماء (Limite)، ولا يمكن الإنبات إذا لم تتوفر هذه النسبة أو القدر من الماء على الأقل، من هنا يمكن أحد المفاهيم العالمية المتعلقة بالنقطة التذبل الدائمة الابتدائية (Point de Flétrissement Permanent Initial).
وقد ربطت الآية الكريمة في إعجاز معجز، بين الماء والإنبات، فالماء شرط ضروري وأساسي للإنبات، وقد تظل البذور أو الحبة في التربة سنوات عدة لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ العملية العجيبة المعجزة؛ عملية الإنبات التي يجريها أطفالنا بوضع الحبوب والبذور فوق القطن المبلل بالماء، وهم لا يدركون أنهم يقومون بعملية من أعقد العمليات الحيوية في عالم النبات والكيمياء الحيوية… ولقد تحدى الله سبحانه وتعالى بهذه العملية المشركَ به، أن يقوم بمثلها بعيدًا عن أسباب الله في خلقه من جنين حي وماء به كل شيء حي.
فإذا سقط الماء على البذرة أو الحبة، تشربت الماء بفعل قوى التشرب والقوى الأسموزية، والعلاقات المائية للنبات ذات القوانين الرياضية الدقيقة والمعقدة، والتي كان يرهقنا فهمها أثناء دراستها، والتي ما زالت ترهق طلاب الدراسات العليا عند تدريسها لهم… وضع الله سبحانه وتعالى هذه القوى في غلاف الحبة أو قصرة البذرة، فإذا كان الغلاف غير منفذ للماء، لا يصل الماء إلى الجنين داخل الحبة أو البذرة فتفشل عملية الإنبات.
وقوله تعالى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾(المؤمنون:20)؛ فحسب بعض المفسرين منهم ابن كثير، ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ يعني: تعطي الدهن. والتعبير القرآني اللغوي: ﴿تَنْبُتُ﴾ هي العملية و﴿بِالدُّهْنِ﴾ هي الوسيلة التي بواسطتها تحصل هذه العملية. هذه التفاسير هي صائبة وصحيحة، لأنها تفاسير علمية حسب المعلومات العلمية المتاحة في عصر هؤلاء المفسرين. في سورة “المؤمنون” يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾؛ أي بالمخزون الدهني عند الزيتون وهو من المزيوتات. وهذه الحقيقة العلمية لو قالها أشهر العلماء قبل عام 1965م، لاتُّهم بالجهل والفشل، لأن الغليوكسيزوم (Glyoxysome) بداخل الخلية، لم يكن اكتشف بعد في ذلك الزمن، وهو المنطقة التي تتدهور فيها هذه الدهنيات لإنبات الزيتون، وهي حقيقة علمية منذ عام 1965م فقط.
الإنبات عند المزيوتات
هذه البذور عند المزيوتات تحتوي على كمية من المخزون الدهني قبل الإنبات يبلغ 250 مغ، أي مما يساوي 70% من الوزن الطري.
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه النباتات ذات المخزون الدهني، لها خاصياتها الفيزيولوجية والأنزيمية لاستعمال المركبات الدهنية فور دخول الجنين طور الإنبات والنمو عكس الحبوب، مثلاً هذه الأصناف، لها خاصيتها في استعمال المركبات السكرية والبروتينية في نمو الجنين وتطوره، وعكس ذلك الخضروات التي تستعمل البروتينات لإنبات البذرة وبالضبط الجنين.
هذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة إلا في القرن الماضي، وعملية الإنبات المعقدة لم تكن معروفة فيزيولوجيًّا، وحتى المواد المخزونة في البذرة والتي يستعملها الجنين في طور الإنبات لم تكن معروفة ومدروسة.
هذه الحقائق العلمية التي يتفرد بها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، تؤكد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4).
العملية تبدأ بأكسدة المواد العضوية المخزنة في داخل البذرة التي سوف تستعمل من طرف الجنين. في هذا الطور يبدأ الجنين في الدخول في الإنبات بطريقة نشطة، ويبدأ في التنفس التصاعدي في الأيام الأولى للإنبات والنمو. واستعمال الدهون في الإنبات، يعطي الجنين أحماضًا دهنيةً سهلة الاستعمال تدخل في طور الاستقلاب (Phase du Métabolisme)، وهذا الإنبات هو كلي بالدهن وليس بمادة أخرى، وهذا من الإعجاز القرآني والعلمي في الآية: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾.