المعادلة الصعبة بين الحرية والمسؤولية

يعد الفيلسوف “جون ستيورات ميل” واحدًا من الفلاسفة الذين حاولوا تحديد متى يحق للدولة التدخل في حياة الأفراد الشخصية، وخلال القرن التاسع عشر كانت السلطات الأوروبية تحفز المفكرين على تحديد حقوق المواطنين وسلطات الدولة، وهذا ما دعا الفيلسوف “ميل” إلى تحديد متى يكون تدخل السلطات في حياة الأفراد الشخصية مشروعًا، ومتى لا يكون تدخلها مشروعًا في كتابه المعنون بـ”الحرية”، والأفكار التي طرحها في كتابه كانت ضمن الأفكار التي ساعدت في صياغة القوانين الحديثة في عديد من الأمم. وإذا أردنا البدء بالحديث عن أفكاره عن الحرية والحكومة، فلا بد -في هذا الصدد- من التركيز على جانب الإيذاء النفسي، وعدم عصمة البشر، والمسؤولية الاجتماعية.

لقد حدد الفيلسوف “ميل” آليتين لمشروعية تدخل السلطات في الحياة الفردية للشخص، الآلية الأولى مبدأ الإيذاء، والآلية الثانية مبدأ النفعية.

1- مبدأ الإيذاء

ويعني أن للدولة الحق المشروع بالتدخل في حياة الفرد الشخصية إن كانت أفعاله تؤذي الآخرين وتضر بهم، وكان هذا الضرر رغمًا عن إرادة الآخرين. وهكذا، نلاحظ أن الدولة لا يمكنها التدخل إذا قام الشخص بإيذاء نفسه أو إيذاء الآخرين بموافقتهم، ونجد أن هذا المبدأ يمثل حدًّا مانعًا مطلقًا لتدخل السلطات في أفعال الأفراد الخاصة غير المضرة بالآخرين.

2- مبدأ النفعية

وهو يعني أن تدخل الحكومة في حياة الأفراد الشخصية يكون مشروعًا إذا كان الفعل الشخصي يؤدي إلى نتائج ضارة، وهنا يتوجب على الحكومة أن تقوم بإجراء تحليل عن مدى منافع الفعل وأضراره، وفي حالة ما كان التدخل الحكومي سيؤدي إلى ضرر أكبر من ضرر الفعل الشخصي للفرد، حينها يجب على الحكومة الامتناع عن التدخل.

وهكذا يتبين لنا الفرق بين الآليتين؛ ففي مبدأ الإيذاء نجد أنه مبدأ عام، بينما الآلية الثانية -وهي مبدأ النفعية- يحتاج إلى تقييم كل حالة على حدة وبصورة فردية، لمعرفة مدى مشروعية التدخل الحكومي من عدمه.

وإذا أردنا تفعيل مبدأ الإيذاء، فمن الأهمية بمكان عدم التوقف عند المبدأ والتقدم خطوة أخرى لتعريف الأفعال التي تشكل إيذاء.. وكلما اتسعت حدود التعريف زادت حالات تدخل الحكومة في الأفعال الشخصية للأفراد.. وبوجه عام فالإيذاء البدني وتدمير الممتلكات، من أنواع الإيذاء المتفق عليها اجتماعيًّا والمقبولة لدى “ميل” أيضًا، ولكن تظل لدينا مسائل عالقة حتى نفهم مبدأ الإيذاء كما يجب.. فهل يدخل الإيذاء النفسي في نطاق مبدأ الإيذاء أم لا؟ هل يعد الامتناع عن الفعل إيذاء؟ وهل هاتان الحالتان تستدعيان التدخل الحكومي أم لا؟

الإيذاء النفسي

هل الشعور بالتوتر، أو الضيق، أو أن يعيش الشخص إيذاء نفسيًّا خلال أفعال يقوم بها فرد آخر، يدخل ضمن مبدأ الإيذاء أم لا؟ إذا قبلنا أن التوتر أو الضيق من فعل الآخرين إيذاء، فسنكون قد وسعنا مفهوم الإيذاء، وبالتالي وسعنا نطاق تدخل الدولة في حياة الأفراد وأفعالهم الشخصية. ولكن الفيلسوف “ميل” لا يعتبر الضرر النفسي أو الضيق من فعل شخص، داخلاً في نطاق مبدأ الإيذاء، حيث يرجع هذا، إلى اختلاف القيم والمبادئ لمختلف الأفراد داخل المجتمع؛ ومثالاً على ذلك، إذا كان هناك شخص لا يحب اللون الأزرق لسبب ما، وشخص آخر يرتدي اللون الأزرق، فشعور الكاره للون الأزرق والغضب والضيق الذي يتملكه، يعدّ ضررًا نفسيًّا لا يقبل “ميل” أن يكون داخلاً في نطاق مبدأ الإيذاء.

ومثال آخر مشابه لهذا، هو الضيق والتوتر الذي يشعر به شخص ينتمي للفكر الديمقراطي تجاه أقوال شخص مؤمن بالفكر الجمهوري، فالضرر النفسي هنا ينبغي ألا يدخل ضمن مبدأ الإيذاء، لأن الحكومة حينها ستضطر إلى التدخل في حياة الأفراد المخالفين لأفكارِ وأيدلوجيات الأطراف القوية داخل الدولة.

خلال القرن التاسع عشر كانت السلطات الأوروبية تحفز المفكرين على تحديد حقوق المواطنين وسلطات الدولة، وهذا ما دعا الفلاسفة إلى تحديد؛ متى يكون تدخل السلطات في حياة الأفراد الشخصية مشروعًا ومتى لا يكون.

و”ميل” في كتابه يقول: “إذا كنا لا نريد تبنّي منطق الاضطهاد بأن نعطي الحق لأنفسنا في اضطهاد الآخرين لأننا على صواب والآخرون على خطأ، يجب علينا أن نحترس من إقرار مبدأ يؤدي لأضرار فادحة”.. وما يفعله هنا، هو وقف استخدام مبدأ الإيذاء حتى لا يتم استخدامه في فرض اعتقاد أو مبادئ شخصية على الآخرين.. ويقرر أن فرض الأفكار والمعتقدات على الآخرين أمر خاطئ، لأن الفرد منا، لا يحب أن يجبر على اعتقاد لا يريده. بالإضافة إلى أن “ميل” يعتقد بعدم عصمة البشر فيما يتعلق بما يعتقدونه أو يفضلونه. وإذا تحدثنا عن موقف شخص وقناعاته في مناقشة ما، فهناك دائمًا احتمالية الخطأ. والاعتراف بعدم العصمة ليس متعلقًا بالتواضع فحسب، ولكنه تقرير حقيقي وواقعي لفهم محدودية الطبيعة البشرية.

والحقيقة أن فكرة عدم عصمة الإنسان ومحدودية معرفته، مسألة يتفق عليها عديد من الفلاسفة والمفكرين مع “ميل”، ومن هؤلاء “سقراط” و”سعيد النورسي”؛ ففي كتاب “الجمهورية” يقتبس “أفلاطون” من أقوال سقراط: “بالنسبة لي فكل ما أعلمه أنني لا أعلم شيئًا”، ونفس الأمر يعتقده سعيد النورسي ويقرره في كتاب “رسائل النور”؛ حيث يقرر عدم عصمة البشر ويُرجع المعرفة الحقيقية لله وحده، ويظهر هذا واضحًا في استخدامه للنص القرآني في بداية ونهاية جميع فصول كتاب “الكلمات”.. وهكذا يبدأ “النورسي” عمله بالاعتماد على ما يعتبره المصدر الحقيقي للمعرفة وينتهي بنفس المصدر المعصوم.

ونجد أيضًا الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبيس” يتضامن مع موقف “ميل” ويناقش المسألة في كتابه “Leviathan” (السفينة الضخمة)، حيث يقول: “لا تفعل بالآخرين ما لا ترضى أن يفعله الآخرون بك”، هذه القاعدة يمكن اعتبارها قاعد ذهبية، فهي تقصر التفاعل الاجتماعي بين الأفراد على ما يقبلونه لأنفسهم ويتفاعلون مع الآخرين وفقا لذلك. وبالتطابق مع هذه القاعدة الذهبية يقرر “ميل” أن فرض وجهة نظر شخصية على الآخرين أمر خاطئ وغير مقبول، وأن شعور الآخرين بالغضب أو التوتر النفسي لعدم موافقة الآخرين لوجهة نظرهم، لا يعدّ إيذاء معتبرًا يخول للسلطة حق التدخل في أفعال الأفراد الشخصية.

الامتناع عن الفعل

يرى “ميل” أن الامتناع عن الفعل يعد نوعًا من الإيذاء حالةَ ما كان الامتناع عن الفعل يؤدي إلى إيذاء سلبي، وفي هذه الحالة يكون تدخل السلطة مشروعًا. فالحكومة من حقها أن تحاكم رجل إطفاء أدى إهماله -أو امتناعه عن العمل- إلى احتراق مبنى ما. ولكن وعلى الرغم من ذلك، فإن إقرار الامتناع عن الفعل وإدراجه تحت مبدأ الإيذاء، يمثل خطرًا على الأفراد. فالإنسان لا يستطيع إلا القيام بأفعال محدودة داخل الزمن الواحد، ولكن ذلك، أدى إلى توسع سلطات الدولة القضائية في أحقية تدخلها في حياة الأفراد الفردية. وهذا ما يستدعينا أن نتساءل، كيف يقوم “ميل” الذي كما يظهر من أعماله أنه يريد تقليص تدخل الدولة في حياة الأفراد الشخصية، بتضمين “الامتناع عن العمل” كسبب يدعو الدولة للتدخل في حياة الفرد؟ والحقيقة أننا نجد الإجابة التي نبحث عنها في أفكار سقراط التي طرحها أفلاطون في كتابه “الجمهورية”، فتعريفه للمجتمع العادل هو أن يقوم كل فرد من أفراد هذا المجتمع بوظيفته الاجتماعية، ومن هنا يمكننا اعتبار التحرك الصحيح يكون وفقًا لما أقره المجتمع كفعل لازم، أو كوظيفة اجتماعية يقوم بها الشخص طبقًا لما يمليه الضمير عليه ووظيفته الاجتماعية.. وهكذا يكون “الامتناع عن الفعل” فعلاً ظالمًا، الأمر الذي يخول الدولة التدخل لاستعادة العدالة الاجتماعية.

بالنسبة للأشخاص، فالمسؤولية غير الرسمية غالبًا ما تكون أوسع وأوثق من المسؤولية الرسمية، ويعتمد هذا، على الدين والثقافة والمبادئ التي يتبناها الفرد، وإن كان الامتناع عن الفعل قد لا يتطلب تدخل الدولة، إلا أن المسؤولية غير الرسمية أو الأخلاقية، تلعب دورًا هامًّا داخل المجتمع

ولكن من ناحية أخرى، إن كان “الامتناع عن الفعل” ليس داخلاً في نطاق مسؤولية الشخص الاجتماعية، فحينها لن يعد “الامتناع عن الفعل” جريمة تدعو لتدخل الدولة؛ فمثلاً امتناع عامل الإطفاء عن وقف الحريق يعد عملاً ظالمًا يدعو الدولة للتدخل، لأن عامل الحريق امتنع عن أداء وظيفته الاجتماعية المسؤول عن أدائها، أما إن صدر هذا الفعل من شخص عادي لا يعمل في الإطفاء، فإن “امتناعه عن الفعل” لن يعد فعلاً مناقضًا للعدالة، لأنه لا يدخل في نطاق مسؤولياته الاجتماعية.. ولكن “ميل” يتجاوز وصف الفعل بأنه عادل أو ظالم كما فعل سقراط، وينظر للفعل من منظور المسؤولية القانونية للفرد.

فرجل الشرطة مسؤول عن إيقاف الجريمة، والوالدان مسؤولان عن رعاية أطفالهم.. وهكذا، تقرر كل أمة مسؤوليات الفرد القانونية وفقًا لما تقره من قوانين، وعلى سبيل المثال، فالدول الأوروبية -كفرنسا وألمانيا- توجب على المواطنين مساعدة الأشخاص الذين يواجهون خطرًا، ولكن هذه الوظيفة الاجتماعية في إنقاذ من يواجهون خطرًا أو في حاجة للمساعدة، لا تعد وظيفة اجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية بكل تأكيد، فغالبية الأفراد داخل الولايات المتحدة أول شيء يقومون به هو الاتصال بالسلطات المعنية بالمساعدة، ويحاولون تقديم المساعدة الأولية، لكن هذه المساعدة التي يقومون بها، ليست واجبة عليهم طبقًا للقانون. كل دولة، تقوم بتحديد المسؤوليات الاجتماعية التي تطلبها من مواطنيها، فبعضها تتوسع في مفهوم المسؤولية والبعض الآخر يقللها.

وبالنسبة للأشخاص، فالمسؤولية غير الرسمية غالبًا ما تكون أوسع وأوثق من المسؤولية الرسمية، ويعتمد هذا، على الدين والثقافة والمبادئ التي يتبناها الفرد، وإن كان الامتناع عن الفعل قد لا يتطلب تدخل الدولة، إلا أن المسؤولية غير الرسمية أو الأخلاقية، تلعب دورًا هامًّا داخل المجتمع. فعلى سبيل المثال، هناك مسؤولية أخلاقية على الأبناء برعاية آبائهم لا سيما كبار السن، ولكن إن لم يقم الأبناء بهذه المسؤولية الأخلاقية لا يحق للدولة التدخل، وفي النهاية فالحكومة لا تملك الحلول المطلقة لكل المشاكل الاجتماعية، كما أن المسؤوليات الأخلاقية تختلف من دولة لأخرى ومن دين لأخر ومن ثقافة لأخرى.

لذلك فالحل البديل والفعّال، هو تعليم القيم والآداب الاجتماعية، ووفقًا للمبادئ التي وضعها “ميل” لعمل الحكومة، فعلى الحكومة يقع دور عقد المؤتمرات والفاعليات لمناقشة المشاكل الاجتماعية والإيذاء النفسي والمسؤولية الاجتماعية.. فالحكومة يمكنها أن تحل مشاكل اجتماعية معينة، لكن لا يمكنها حل جميع المشاكل الاجتماعية، ولذلك اقترح “ميل” على الحكومات -في وقته- أن تكون مسؤولية الحكومة الرئيسية؛ إحلال التعايش السلمي داخل المجتمع بين الأيدلوجيات المختلفة التي يتبناها الأفراد، أما ما يتعلق بمشاكل المسؤولية الأخلاقية، فعلى المجتمع أن يهتم بإيجاد الحلول المناسبة لها.

(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن الإنجليزية: صالح القاضي.