الهدهد.. الطائر الذكي

عزيزي الإنسان… لا شك أن طيورًا كثيرة من بنات جنسي حدثتكَ عن قدرة الله تعالى في خلقه، ومن ثم عن عجائب صنعه وبدائع حكمته التي تجلت في أجسامها. كان ينبغي أن أكون أوّل المتحدثين في هذا الشأن، لكوني واحدًا من الطيور التي ذكرها الله تعالى في قرآنه. نعم، تم ذكري في القرآن الكريم مع النبي سليمان عليه السلام: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾(النمل:20-28).
يا لها من صورة مبهرة وبيان معجز! تُرى لماذا تحدث كتاب مقدس كالقرآن الكريم عن الطيور، واختارني أنا بالأخص في الحديث مع نبي عظيم كسليمان عليه السلام؟! ما دمنا نؤمن بأن لله حكمة في كل شيء، إذن يجب أن نفكر ونتدبر في هذه الآيات ونستخرج منها الجوانب التي تتعلق بيومنا الحاضر أو مستقبلنا الآتي. إذا لاحظْتم، استخدمتُ تعبير “أن نفكر”، وذلك لأن الأحكام القطعية، يُحتمل أن تكون عائقًا في الوصول إلى المعلومات الأكثر صحة ودقة، كما يمكن أن تكون هذه الأحكام سببًا في انْخداعنا بعلمنا البسيط الضحل. لأنه إذا اتضح مع الأيام أن القرآن الكريم المعجز بكل كلماته، يشير إلى علوم ومكتشفات جديدة أكثر دقة وأشد التصاقًا بالواقع، أكون قد وضعتُ نفسي في موقع حرج بإطلاق أحكام قطعية، لذا يجب في هذا المقام أن أستخدم “منطق الطير” بدقة فائقة.
و”منطق الطير” مصطلح ورد في مطلع القصة التي ذكرتها الآيات السابقة: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾(النمل:16-17).
على الرغم من أن بعض التفاسير ذكرت بأن سليمان عليه السلام كان يعرف جميع لغات الطيور، فإنه من الملفت للانتباه أن القرآن الكريم استعمل مصطلح ﴿منْطِقَ الطّيْرِ﴾ دون “لغة الطير”. فالمفسر الكبير العلامة التركي “أَلْمالِلِي محمد حمدي يازِير” (1877-1942م)، يذكر بعدَ شرح طويل أن “المنْطِق” من “النُّطْق” وهو لغة الطير، ولكن هذه اللغة لا تنحصر بالأصوات التي تخرج من الفم فحسب، بل هي لغة تعرب عنها الأصوات والتصرفات معًا… ثم يضيف منطلقًا من هذا المفهوم فيقول: “إن سليمان عليه السلام لم يتوقف في معرفته بلغة الطير عند حدود الأصوات والتصرفات فحسب، بل تجاوزها إلى المنطق الذي يشكل أساس تلك الحواس”. وهذا الفهم في حقيقة الأمر، لا ينحصر بسيدنا سليمان عليه السلام وحده، فنحن أيضًا مهيّؤون لفهمه واستيعابه، ولكن بشرط أن ندرسه بحق، ونبحث عنه بجدية لامتناهية.

منطق الطير

بمنطق الطير لدي، يمكن أن أتناول المعاني التي استخرجتُها من العبارات والتحاليل أعلاه من عدة زوايا:
أولاً، تم التركيز على أن “الطيران” أمر يحتاج إلى تعمق في العلم ودقة في الدراسة والبحث، وأن سيدنا سليمان عليه السلام وُهب علم المبادئ الميكانيكي الذي يمكّننا من الطيران، وعرف كذلك قدرة الرياح على الرفع في الهواء، والخصائص الفسيولوجية والتشريحية التي تلعب دورًا أساسيًّا في الطيران والتحلق في السماء.
ثانيًا، أعتقد أن في: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، إشارة إلى أهمية الثروة البالغة في الدول؛ فوجود الطير مع الإنس في جيش سليمان عليه السلام، لفت انتباهٍ إلى القوات الجوية أي الطائرات. وجميعكم يعرف مدى أهمية المراقبة من الجو والتحرك السريع في التجسس والاستطلاع.
أما القسم الذي يتعلق بي في السورة؛ فيمكن أن نفهم من قوله سبحانه: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ أن على رجل الدولة أن يقوم بتفتيش الجيش وكافة مؤسسات الدولة حتى أصغر فردٍ فيها. ويعتريني العجب حين أقرأ قوله تعالى: ﴿فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾، كيف عرف سليمان عليه السلام أفراد جيشه العظيم بهذه الدقة، وكيف انتبه إلى غياب جَدِّي الهدهد بنظرةٍ واحدةٍ في هذا الجيش الجبار!؟ ربما كان سيدنا سليمان عليه السلام ينوي أن يكلف جَدِّي بمهمة، وعندما افتقده سأل عنه. وربما كان سليمان عليه السلام قد أدرك أن الله سبحانه وهبنا القدرة على كشف مواطن الماء، فأراد أن يكلف جَدِّي بالكشف عن هذه المواطن. فكما نقل الطبري والبيضاوي من علمائكم؛ أن سليمان عليه السلام كان قد نزل بجيشه في مكانٍ قريبٍ من صنعاء اليمن، فلم يجد ماءً، فبحث عن جَدِّي الهدهد ليستكشف له مواطن الماء.
ولعلكم الآن ستسألونني عن حقيقةِ قابليّتي في الكشف عن مواطن الماء؟ أخشى إنْ أجبتُكم، أن أفسد “سرَّ التكليف” في هذا الأمر. فعندكم المختبرات والمعاهد والجامعات، ويمكنكم البحث والدراسة في هذه القابلية حتى تصلوا إلى الجواب الشافي والوافي. ولكن يكفي أنْ أقول لكم، إنه من أجل البحث عن الماء في باطن الأرض، ينبغي عليكم -أولاً- أن تدرسوا هيكلية سطح الأرض، وتطلعوا على شكل انحدار طبقاتها من الجو. وإنْ سألتم عن السبب في اختيار سيدنا سليمان عليه السلام جَدّي من بين جميع الطيور، أقول: لأنه يملك قدرة خاصة في الكشف عن الماء في باطن الأرض. وهو أمر عظيم يهتم به اليوم علماء “الجيولوجيا المائية” من بين علمائكم في الجيولوجيا ويعملون بجدٍّ في هذا المجال.

حكمة الآيات

عندما افتقد سيدنا سليمان عليه السلام جَدّي الهدهد قال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ وأعتقد أن المقصود من ذلك، وجوب الاستئذان من القائد عند مفارقة الجماعة ولو كان ذلك في سبيل عمل نافع صالح لها، بالإضافة إلى أن التسيب والخروج عن الطاعة يستوجب العقوبة في سبيل بقاء الجماعة متماسكة. ويستفاد من هذه الحادثة أيضًا، أنه يمكن للفرد أن يتصرف بغير إذن قائده، اغتنامًا لفرصةٍ لا يمكن معها الانتظار، وأن على القائد أن يتصرف بما تقتضيه العدالة وينصت إلى الأعذار التي يبديها المخالف قبل إنزال العقوبة به. أما عقوبة “الذبح” -في اعتقادي- يمكن أن تنفّذ عند الخيانة العظمى التي تستهدف الأمة كلها، أو تستهدف النيل من قوتها مع جيشها، كالتجسس وإفشاء الأسرار العسكرية للعدو، والفرار من الزحف، والنفير العام للجيش. وهذا التهديد في رواية أخرى، سببه أن جَدّي كان قد تخلف عن نوبته في الحراسة.
وفي الآيات (22-266) نرى جَدّي الهدهد في دفاعه عن نفسه، يبيّن لرئيس الدولة الموضوع الهامّ الذي شاهده ووقف عليه. وهنا أيضًا دروس وعبَر ينبغي لنا الوقوف عندها، فنرى في البداية، تصرف سيدنا سليمان عليه السلام العادل مع رعيته، فكل فرد يمكن أن يتحدث معه في راحة تامة، وبهذا العدل استطاع جدّي الهدهدُ أن يقول له: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾؛ فهو يريد أن يقول له “على الرغم من أنك رئيس دولة، فإن لقوتك وقدرتك حدودًا، فهناك بلدان لم يبلغها سلطانك، ولم تعلم عنها شيئًا بعدُ… لقد اكتشفت بلدة سبأ وأمعنت البحث في واقعها، وتوصلت إلى معلومات أكيدة عنها أضعُها بين أيديكم. لأن المعلومات التي تقدَّم إلى الدولة ينبغي أن تعلو على الشبهات. كما أننا نرى أيضًا أن جَدّي الهدهد عندما حاول شدّ اهتمام سيدنا سليمان عليه السلام بالحديث عن غنى بلقيس ملكة سبأ وثرائها، وعن عرشها وعظمته، فإنه عليه السلام لم يُبْدِ أيّ اهتمام بذلك، حتى إذا شرع في الحديث عن شركهم وعبادتهم للشمس، راح سليمان عليه السلام يستمع إليه بدقة ويبدي اهتمامه بالأمر، لأن تبليغ المتمرغين بأوحال الشرك والكفر والانحراف، ودعوتهم إلى الهداية والإيمان بالله واتباع أمره، هي مهمة الأنبياء الأولى.
ولكن لم يصدّق سيدنا سليمان عليه السلام جَدّي الهدهد مباشرة، بل عامله كالمتهم ووضعه تحت الاختبار؛ حيث لم يعتمد على الأخبار التي جاء بها، ووضع احتمالَ أنْ تكون كذبة من الهدهد لتبرير غيابه، ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾. ويبدو هنا جليًّا التركيز على وجوب التريث في الحكم على مجتمع بأكمله بناءًا على خبر واحد. ثم أراد سيدنا سليمان عليه السلام استكشاف الموقف، فاستعمل جَدّي الهدهد كساعي بريد: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، لكنه لم يكن كالحمام الزاجل الذي يستخدم لتبليغ الرسائل فقط؛ لأن سيدنا سليمان عليه السلام طلب من جَدّي، الابتعاد قليلاً وانتظار ما سيحدث… فهي مهمة استطلاعية يريد من خلالها أن يعرف ردود أفعال مملكة سبأ للأوامر التي تحملها الرسالة، وعليها يتوقف تصرفه معهم وإستراتيجيته بما يقتضيه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإما أن يختار الاستعداد للحرب، وإما أن يبادئهم بالحسنى ويرسل لهم الهدايا لعلهم يتعظون. ولذلك كان يولي أهمية كبيرة لما سيقوم به جَدّي من استشعارٍ عن بُعْد واستطلاع.
أيها الإنسان المحترم، كنت أنوي -كباقي أصدقائي الحيوانات التي تحدثت قبلي- أن أتحدث عن حُسْنِ الخِلْقة التي فطرني عليها ربي، وتجليات أسمائه الحسنى في بنياني، لكني وجدت القرآن الكريم يتحدث عني في هذه القصة، فارتأيتُ الوقوف عندها وتقديم وجهات نظري حول معانيها. وبيان القرآن الكريم المعجز، لابد من تفسيره في كل عصرٍ بما يحمله ذلك العصر من علم ورُقي. وقد تحدّثتُ قدْر فهمي وبمنطق الطير لدي. لعله يخرج منكم مَن هو أشد علمًا مني، ويقدم لكم تفسيرًا أقرب للفهم وأكثر إقناعًا. فأنا لا أدعي الحقيقة، بل أحاول الاقتراب منها، والموضوع مفتوح للمكتشفات الجديدة، وربما استطعتم أن تفهموا ألسنة الحيوانات كسيدنا سليمان عليه السلام وتفهموا عنها الكثير. هذا وإن بديع الزمان سعيد النورسي يشير إلى الاستفادة من طير الزرزور في مكافحة الجراد. وكذلك يوجد في الطيور الأخرى طاقات فطرية، لعلكم تجدون سبُل الاستفادة منها مع مرور الأيام.
ومما يجدر ذكره هنا، أنه ورد ذكري في “التلمود” باسم “ديك البيان”، وورد ذكري في التوراة بين الطيور التي لا يؤكل لحمها. أُعْرفُ باسم جاويش الطيور بسبب عرفي الطويل الذي يعلو رأسي. وعلاوة على مجرى التنفس، أستطيع تنفس الهواء من مجرى الطعام من منقاري بسبب شكله الأنبوبي الخاص، وبذلك أتمكن من إصدار أمواج صوتية مُرْتعِشة كأنها تصدر من المِرْنان. أعيش في مصر والحبشة (أريتريا والصومال وإثيوبيا) وأنغولا والشرق الأوسط وتركيا وجنوب أوربا الشرقية. أقوم بهجرات موسمية قصيرة. أحتضن (5-8) بيضات أضعها في نهايات الربيع في مدة (15-17) يومًا.
وعلى الرغم من أني لا أبدو مختلفًا في مظهري الخارجي عن سائر الطيور إلا بشكل منقاري وعرفي فوق رأسي وألواني، فإنني أعتقد بأنه ينبغي عليكم البحث في قدراتي على السمع والبصر والشم والقدرات المودعةِ في دماغي، فضلاً عن الدراسات البيولوجية والبيئية، وذلك انطلاقًا من قصتي في القرآن الكريم. وهذه وظيفتكم باعتباركم عبادًا منحكم الله نعمة التفكير والتدبر. لذا عليكم أن تفكروا في الحكمة من ذكر قصتي في القرآن الكريم، وأن تتأملوا وتفكروا في خلق السماوات والأرض في كتاب الكون المنظور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.