سطعت أنوار البـــِشر بالجزائر المسلمة لبًّا وروحًا، الثائرة ذاكرة وتاريخًا، والعثمانية نفَسًا وعبقًا، فانبلج بها فجر صادق بعد أن حلّ بها ثلة من أعلام الهدى، قادمين إليها من أفق ممتد من “جاوة” إلى “مراكش” ومن “طنجة” إلى “جاكرتا”… حاملين إلى “الجزائر” أفكارهم وإشراقاتهم، مشاركين إياها آمالها وأحلامها، بأشواقهم القلبية والروحية؛ يعبّون بفيض علمهم وطِيب حلمهم، طالبَ العلم والباحثَ عن الحقيقة توجيهًا وتعليمًا وترشيدًا… فاصطبغت أيام مؤتمر “فلسفة البناء الحضاري” عند “مالك بن نبي” و”فتح الله كولن” وأوراقُه وأفكارُه بهذه الروح، وتلظّت بذلك ندوة “حراء” الفكرية بجذوة الإيمان الوازع، والعلم النافع، والعمل الرافع.
في قاعة “كوسموس” برياض الفتح بالجزائر العاصمة أمسية “الثامن عشر” من نوفمبر 2012، غصّت القاعة بالحاضرين، ورفلت الجُموع في سماء الفكر والروح، وألقت في أفلاك الحكمة والفطنة، متعلمة ومتتلمذة: لنتاج فكري مصطلٍ من قبس الأستاذ “فتح الله” دارسين ومحللين، مقلّبين ومُنقّبين عن أسباب الانطلاق، وقواعد الانعتاق؛ فكانت سياحة فكرية حقَّة مع الدكتور “سليمان عشراتي” من جامعة وهران (الجزائر)، والذي استكشف بنظره الثاقب “هندسة الحضارة”، و”تجليات العمران في فكر فتح الله كولن”، ونظَم بلُبّه وعقله مقومات “الانبعاث الحضاري في فكر الأستاذ فتح الله”، فانتظمت هاتان القراءتان الفكريتان كتابَين وَليدين نشرتهما “دار النيل” في القاهرة، فكان اللقاء فرصة للتعريف بالكاتب والمكتوب.
من “تَعز” أسّ الحضارة وعزّ الإسلام، أطل الأستاذ “فؤاد البنا” إطلالة فكرية سَنية، إذ بثّ أشجانه وحبه لوطنه الثاني الجزائر، آخذًا الحضور في سباحة معرفية، وملاحة وجدانية في؛ عبقرية الأستاذ فتح الله.. بين قوارب “الحكمة” وشواطئ “الخدمة”، فأخذ الألباب بحلمه، وفتَن الحضور بحبه ولبه… أتبع الدكتور “محمد باباعمي” المدير العام لمعهد المناهج بالجزائر هذه العبر والعبرات: قاصًّا حكاية كتابين، وفكرتين، وآهتين، وأنتين: أنة حب لوطنه، وآهة وجْد لفجرٍ وليد لأمته، وفكرة انبعاث لجيله، باحثًا عن عصارة الترياق، وخلاصة المعنى في طريق الحضارة والتمكين. فانسابت المعاني رقراقة في قِمطر أول عنوانه “البراديم كولن”، وانجلت بعد ذلك أمارات “أطبّاء المعنى” و”جُند الإدراك” وشروطهم وخصائصهم في كتابه الثاني؛ “أرباب المستوى.. حضور معرفي في فكر الأستاذ فتح الله كولن”… فكانت “ندوة حراء ” في الجزائر بذلك عقيقةً معرفية دسمة لكتُبٍ مواليدَ، تعانق فيها العقل والإيمان، والفكر والوجدان في سماء “الجزائر”.
على مائدة فكر متبصّر أصيل فرشها عالمان صنوان، ومفكران أخوان، لم يلتقيا ولم يجتمعا، لكنّهما معينَ القرآن تشرَّبا، ومن جذوة الحبيب المصطفى اصطلَيا، ومن فيض الحكمة الحضارية غرِفا… إنهما عالمان غريبان عن بعضهما موطنًا وجسدًا، إلا أنهما يمثلان في ذاكرة الأمة الحِصْن والحَرَم، وفي صرح البناء الحضاري الشامة والمَعْلم، وفي ساح ترشيد الفكر والفعل الهامة والعلَم… على هذه المائدة فكِهت أرواح وقلوب كانت عطشى، وأفئدة لغد أفضل صارت ظمأى، فكان لها محراب الأستاذ “مالك بن نبي” وجذوة الأستاذ “فتح الله كولن” “الصفا والمروة” والمروى.
افتتح الدكتور “طاهر حجار” رئيس جامعة الجزائر المؤتمر بكلمة ترحيبية بضيوف “الجزائر”، معتبرًا المؤتمر لبنة في فهم فكر الأستاذين “مالك بن نبي” و”فتح الله كولن”… إثرها أسرى بنا الأستاذ “مصطفى أوزجان” المستشار لمجلة حراء، إلى معارج “الفكر الحضاري”، مؤكدًا أن بُنيانه لا يستقيم إلا بعجن طينة “إنسان جديد” يُشرق بيديه فجر وليد؛ وفي هذا المسلك السديد يجتمع الشيخ “عبد الحميد بن باديس”، والشيخ “محمد البشير الإبراهيمي”، والأستاذ “فتح الله كولن”… ولم تنقض أنفاس الجلسة العلمية الأولى قبل أن تفيض بشهادة حيّة للدكتور عمار طالبي رئيس المجلس العلمي للجزائر العاصمة، معبّرًا عن رفقة طيبة للمفكر مالك بن نبي -رحمه الله- في سنوات خلت، ترسمت من خلالها تقاسيم وملامح ذاك الرجل المتقد فكرًا، السامي جَنانًا رغم انتكاسات الزمان والمكان، وضعف الإمكان.
توالت الكلمات والأوراق البحثية خلال اليومين تترى، تسيح في ملكوت الفكر، وتجول في سلطنة القلوب، من مقاربة مقارِنةٍ بين الأستاذ “مالك بن نبي” والمفكر “ابن خلدون” للبروفيسور “بروس لورونس” من “الولايات المتحدة الأمريكية”… إثر هذه المداخلة تحدثت الدكتورة “فريدة بلفراق” من جامعة “الجزائر” عن الهم الحضاري والتوتر الذي صبغ فكر الأستاذ “مالك بن نبي”…
ورفل بالحضور الدكتور “عبد الحميد مدكور” من “مصر” حين تحدث عن أثر العقيدة في فكر العالِـمين “ابن نبي وفتح الله”، وشفّت عَبَرات الدكتور “مدكور” خلال حديثه، عن شخصية العالم الأواه الحليم… كما حملنا الدكتور محمد باباعمي إلى سماء الخلق الحليم محورًا للدين والحضارة، في ورقة عنونها بـ”محورية الأخلاق في البناء الحضاري، عند مالك بن ني وفتح الله كولن”… وقد أمتع بدوره الدكتور “سمير بودينار” من جامعة “محمد الخامس” بالمغرب الحضورَ بحديثه عن تقفي أثر الحكمة الحضارية في فكر العلَمين… وتطرق الدكتور “سليمان الدقور” إلى موضوع “الصلات والعلاقات” وأثرها في البناء الحضاري، متحدثًا عن محورية مواجهة “الجهل”، و”الفقر”، و”الفرقة” في فكر الأستاذ “مالك وفتح الله”… وقد نقشت مداخلة الأستاذ “رشيد هَيْلماز” ذاكرة المؤتمرين حين ألِق بحديثه عن موقع السيرة النبوية في فكر الأستاذ “فتح الله”، وكيف أن “الأستاذ” يؤكد على دراسة “فلسفة السيرة” قصد استنباط “القواعد الكلية” في البناء الحضاري عوض الإخلاد إلى قراءة سيرة “المصطفى” صلى الله عليه وسلم بمنهج وصفي، واعتبارها سردًا لأحاديث ووقائع تاريخية متناثرة…
وقد شرّف المؤتمر حضور عدد من كبار العلماء والمرشدين، وحاملي لواء العلم والحلم، من أقطار ممتدة من المعمورة، من “البوسنة والهرسك” إلى “السودان”، ومن “نيجيريا” إلى “أربيل” العراق.
لقد كان مؤتمر “فلسفة البناء الحضاري”، مرآة تعكس فيض المحبة في القلوب وتناغم العقول، وينِمُّ -في الوقت نفسه- عن فجر جديد يلوح في الأفق.
لقد خلّف اختتام المؤتمر وحشة وغربة في الأنفس والألباب، إلا أنها ستستحيل -لا ريب- روضًا وسندسًا بدوام الازدياد المعرفي، وتوجيه الطاقة، وترشيد الفكر والفعل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) شارك في إعداد المادة العلمية: هيئة التحرير بفيكوس.