المسلم وإعلام الآخر.. بين “السماع” و”الاستماع”

رغم أن اللغة العربية أغنى لغات العالم بالمفردات، إلا أنها لا تحتوي -في الراجح- على ما يسمى بـ”الترادف”. فمع وجود كلمات يُقال إنها مترادفة، إلا أن هناك فروقًا دقيقة بينها، مثل كلمتي “السماع” و”الاستماع” الواردتين في عنوان هذه المقالة.

رغم أن اللغة العربية أغنى لغات العالم بالمفردات، إلا أنها لا تحتوي -في الراجح- على ما يسمى بـ”الترادف”. فمع وجود كلمات يُقال إنها مترادفة، إلا أن هناك فروقًا دقيقة بينها، مثل كلمتي “السماع” و”الاستماع” الواردتين في عنوان هذه المقالة.
فمع التشابه في المعنى العام بينهما، إلا أن “السماع” يتجه إلى الفعل الذي تقوم به جارحة الأذن، وبجانب هذا المعنى يضيف “الاستماع” حضور العقل وإصغاء القلب. ولذلك طالب الله تعالى المؤمنين بـ”الاستماع” إلى القرآن: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الأعراف:204)، وخاطب الله كليمَه موسى عليه السلام بقوله: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(طه:13). وتمتاز العربية بأن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى؛ فـ”الاستماع” أكبر مبنىً وأهم معنىً من “السماع”.

خطورة الإعلام

مع أن القرآن كتاب هداية لكل زمان ومكان، إلا أنه احتوى على مبادئ كثيرة من العلوم والآداب والفنون، ومن ذلك الإعلام.
فقد كان كل الرسل أصحاب بلاغ مبين، إذ كانوا أصحاب فصاحة وبيان، ربَّاهم الله سبحانه وتعالى على عينه، واصطنعهم لنفسه، وسلَّحهم بكلامه البليغ ووحيه الفصيح. ولما كان المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين فقد كان ملك الفصاحة الذي أدهش أرباب البيان، وصار كتابه الكريم أبلغ الكتب، ونزله الله باللغة العربية لفصاحتها، فمن معاني العروبة: الإبانة والفصاحة. وقد نزل القرآن بالعربية حتى يسهل فهمه وعقله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(يوسف:2)، ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(فصلت:3).
ولما كان موسى عليه السلام قد أصيب بلثغة في لسانه أثناء صغره، فقد ألهمه الله أن يطلب جَبْرَ هذا النقص بأخيه هارون عليه السلام، كما قال تعالى على لسانه: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾(القصص:34).
وفي هذا إشارة بليغة إلى أهمية الإعلام في الدعوة وخطورته البالغة، حيث يمكن أن يصل إلى حد التجريف وقلب الحقائق وتغيير القناعات، بل ونفخ الروح في الأوهام والأكاذيب.
ويسجل القرآن مثالاً بارزًا في هذا السياق في قصة موسى عليه السلام ذاته؛ فقد سلَّط فرعون أجهزة دعايته للقول بأن موسى ساحر، حتى استقر ذلك في عقول الناس من كثرة التكرار.
وحتى بعد أن رأى هؤلاء، المعجزات الباهرة الدالة على نبوة موسى، بما فيها آيات العقوبة لهم كالجراد والقمل والضفادع والدم، فقد ظلت عقولهم غير الواعية مزروعة بمسألة السحر المتهم بها موسى عليه السلام. ولهذا فإنهم عندما أرادوا استعطافه ليرفع عنهم العذاب وادَّعوا قبولهم دعوته، قالوا له كما سجل القرآن ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾(الزخرف:49)، وهذا يبين خطورة الإعلام والدعاية والإشاعة، حيث يمكن أن يصل الأمر إلى حد تجريف العقول!

سماع الأذى

من المؤكد أن الآخر الديني أو الحضاري ليس قطعة واحدة متجانسة في كل شيء، بل هو عوالم متعددة مختلفة. وإذا كان القرآن قد عدّ اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإنه قد قال عنهم: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾(آل عمران:113)، ومن باب أولى غيرهم، ولاسيما النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا، وخاصة في هذا العصر الذي برزت فيه الكثير من التيارات الإنسانية والمؤسسات المدنية.
لقد قرر القرآن وأكّد: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾(آل عمران:186). وقد سمع المسلمون وسيسمعون أذىً كثيرًا يطال كلياتهم الخمس: دينهم، نفوسهم، أعراضهم، أموالهم، عقولهم.
وقبل ذلك وبعده، فإن منهم من تقوَّلوا على الله بغير علم، فزعموا أنه أمرهم بالفحشاء وقالوا “إن الله فقير”، ورموه بالبخل، وزعموا أنه اتخذ ولدًا، ورموه بكل نقيصة: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾(الإسراء:43).
أما الأنبياء فقد اتهموهم بالسحر والكهانة والشعر، وبأنهم من المسحّرين، واتهموهم بالافتراء والكذب على الله، بل ورموهم بالزنا، وتطيَّروا بهم، وتقاسموا بالله على إيذائهم، وحاربوهم بكل صنوف الحرب والإيذاء.
ولكنْ هل كل ما جاء من الآخر هو إيذاء وحرب؟ وهل نتعامل مع مخرجات إعلامه بذات الطريقة؟

المسلم “سَمَاعٌ” أم “استماعٌ”؟

وفي هذا الزمن يتكرر الأذى ويتكثف ضد مقدسات المسلمين، ويتولى الإعلام الغربي كِبَرَ ذلك تحت مبرر حرية الرأي تارة، ومحاربة التخلف تارة ثانية، ومحاربة الإرهاب تارة أخرى.
ولكن الواقع يقول، إن إعلام الآخر -ولاسيما الإعلام الغربي- يحتوي على مساحة واسعة للحرية والحوار، واحترام حقوق المسلمين، والدفاع عن حرياتهم ومقدساتهم، إضافة إلى وجود ما يمكن التعاون عليه من مشتركات إنسانية، وما يمكن اقتباسه والانتفاع به مما تزخر به الحضارة الغربية من جواهر نفيسة وثمار يانعة.
إن أكثر المسلمين المعاصرين، منقسمون بين من يغلق كل الأبواب والنوافذ بحجة عدم سماع الأذى وعدم السماح للغزو الثقافي بالتسلل إلى حصون المسلمين، وبين من يفتحون الأبواب على مصارعها والنوافذ على آخرها، بمبرر الاقتباس والتفاعل الحضاري، فانغلق القسم الأول وانجرف القسم الآخر.
لهذا فإننا بحاجة ماسة إلى العودة المتدبرة للقرآن، فإنه وحده من يمتلك الرؤية العقلية المتوازنة التي يمكن أن تُنقذنا من تقليد الآخر والذوبان فيه أو الانغلاق عنه وعدم اقتباس النافع المفيد منه.
إن المسلم أشد ما يكون حاجةً لتربية عقلية تمنحه الميزان الذي يزن به كل شيء، سواء كان راكدًا من بقايا السلف أو وافدًا من الحضارة الغربية، فيأخذ ما هو حسن ويتجنب ما هو قبيح، وتعطيه الغربال الذي يُفرز الغثَّ ويستبقي الثمين، بل يميز بواسطته بين أفضل الخيرين وأسوإ الشرين، فيأخذ الأفضل ويرفض الأسوأ.
ولهذا جعل المولى عز وجل من أهم صفات المؤمنين “القولية”: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(الزمر:18)؛ وهذا يعني أن الفكر الإسلامي معنيٌّ بإيجاد “مستمعين”، لا “سمَّاعين”، كما قال تعالى عن الصنف الآخر: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(التوبة:47).
فالاستماع العقلي إذًا هو طبيعة المؤمنين، والسماع الجارحي هو ديدن المنافقين ومن لا حَظَّ لهم من المعرفة المفيدة والوعي النافع.

وسائل وأساليب صناعة “الاستماع”

يزخر إعلام الآخر بجبال ضخمة من المعلومات والأخبار والشائعات تتراوح بين النفع والضر، ولابد من غربلتها عبر عدد من الوسائل والأساليب، كما توحي بذلك النصوص القرآنية، ويمكن إجمال أهمها في النقاط الآتية:
1-التّلقِّي العقلي والاستماع بجارحة العقل: أكد القرآن أن السمع النافع هو الذي يقترن بالعقل الواعي، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرهق نفسه في محاولة هداية بعض الناس من دون جدوى: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ﴾(يونس:42)، وقال: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾(النمل:80).
ولهذا حذّر الله المؤمنين من هذا الداء الوبيل فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾(الأنفال:21)، وأكد بأنه لا يستفيد من الآيات -أيًّا كانت- إلا من فتح سمعه وقلبه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(ق:37).
ويتضح هذا الاقتران بين السمع والعقل حتى في حديث الكافرين يوم القيامة عن أنفسهم، إذ يتندمون قائلين: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(الملك:10).
وعندما اشترك عدد من المسلمين في تناقل حديث الإفك الذي رماه المنافقون كقذيفة لتمزيق عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، بيَّن القرآن مكمن الخلل في هؤلاء فقال: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾(النور:15)؛ فقد تلقوه بالآذان ونقلوه فورًا إلى الألسنة فكأنهم تلقوه بألسنتهم مباشرة. ولو نقلوه إلى العقل كمرحلة وسيطة، واستخدموا -مثلاً- القياس العقلي على ذواتهم؛ لرفضوه وردوه، كما قال تعالى: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾(النور:12)، فكيف لو استخدموا سائر الإمكانات العقلية في ضوء الواقع الوضيء للصحابة الكرام، وأمهات المؤمنين، ولاسيما عائشة الصَّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما.
2-التحلِّي بالعلم والتسلُّح بالبراهين: في مثال حديث الإفك الآنف الذكر، وقع بعض المسلمين في شراك المنافقين بسبب التلقي باللسان لا بالعقل، والتقوُّل بدون علم، كما قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾(النور:15).
ولهذا لابد من توفير المعلومات، وتوضيح الحقائق، وإبراز الوثائق والأدلة والبراهين؛ حتى لا تتشابه على الناس البقر، وحتى لا يستطيع أحد أن يذرّ الرماد في عيونهم!
ولابد من إذابة مساحيق التجميل عن الأوجه القميئة والمضامين القبيحة؛ حتى لا يقع العامة ضحية لها، مثل المصطلحات الجميلة التي تطلق على أمور قبيحة، كالغزو الذي يطلق عليه استعمارًا، والخمور التي تسمى مشروبات روحية، والتغريب الذي يُطلق عليه تحديثًا، وهكذا.
ومن المهم في هذا السياق أن يتم تفكيك الضلالات وتفنيد الشبهات التي يطلقها الأعداء دون البقاء في خانة الردود، بحيث يتم الرد الحكيم: زمنًا، ومكانًا، ومقدارًا، وأسلوبًا.
لقد اهتم القرآن بالرد على الشكوك والشبهات والضلالات، ولهذا وردت كلمة “قل” في القرآن ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة، وهي تُلقِّن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول للناس، وأكثرها وردت في مثل هذه السياقات.
3-الإعادة إلى المنهج النبوي وأصحاب التخصصات: عند انعدام العلم في مسألة ما من المسائل التي يقع بها الهجوم والتحدي والاتهام من قبل الآخرين، لا ينبغي الارتجال والتخبط، بل العودة إلى المنهج النبوي وأصحاب العلم والدراية، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(النساء:83).
وقد عظَّم الله أصحاب الخبرة بصورة عامة فقال تعالى: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾(فاطر:14)؛ لأنهم أصحاب دراية وافية بتخصصاتهم.
ويشتد هذا الأمر في الإعلام، لأن الغرب يمتلك صناعة إعلامية ضخمة تتربع على خبرات دقيقة ووفيرة في علوم عدة تتجاوز الإعلام إلى علوم النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها… مما يُمكِّنهم من التعرف على ثغرات المسلمين وخِلالهم، والتسلل منها إلى الداخل.
4-إبراز تهافت الدعايات المضادة: في الحروب الثقافية والنفسية التي يتعرض لها المسلمون من قبل متطرفي بعض الثقافات الأخرى، تمتلئ أفكارهم ودعاياتهم بتناقضات كثيرة، ينبغي أن يركز عليها الذين يتصدون لها بعلم، لإثبات تهافتها من خلال هذا الأسلوب العقلي الذي يجعل بعضها ينقض البعض الآخر، وكعادة المبطلين في كل زمان ومكان، فإنهم كما قال عنهم القرآن: ﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾(ق:5)، أو كما خاطبهم مباشرة بقوله: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾(الذاريات:8). وما علينا إلا اكتشاف هذه التناقضات وإبرازها للعيان.
5-الارتقاء بالردود في المبنى والمعنى: في الرد على إسفاف الآخرين، ينبغي أن تكون الردود حكيمة وحصيفة، ولاسيما أن أغلب غير المسلمين لا يعرفون عن الإسلام إلا الصورة المشوهة التي رسمها مستشرقون في القرون الوسطى؛ لتشويه صورة الإسلام في أذهان شباب أوروبا حتى لا يدخلون فيه، وتعززها الممارسات السيئة لكثير من المسلمين أفرادًا وجماعات ودولاً في هذا الزمن!
وقد أصَّل القرآن لموضوع صناعة “القول” بصورة عامة وفي مشاهد عدة من الحياة، حيث أمر -مثلاً- بأن يكون القول: ﴿قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾(البقرة:235، النساء:5-8، الأحزاب:32). ﴿قَوْلاً سَدِيدًا﴾(النساء:9، الأحزاب:80). ﴿قَوْلاً بَلِيغًا﴾(النساء:63). ﴿قَوْلاً كَرِيمًا﴾(الإسراء:23). ﴿قَوْلاً مَيْسُورًا﴾(الإسراء:28). ﴿قَوْلاً لَيِّنًا﴾(طه:44).
وجعل من صفات المؤمنين: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾(القصص:55)، ونلاحظ أن الإعراض يكون عن اللغو وليس عن الشخص، وهذا ينقلنا إلى نقطة جديدة.
6-الموضوعية والانضباط المصطلحي: ونبدأ من حيث انتهينا في النقطة السابقة، فإن إعراض المسلم يكون عن اللغو وليس عن الشخص، أي عن العمل الخاطئ الذي ينبغي أن تتجه إليه وحده الكراهة، كما قال تعالى على لسان لوط عليه السلام وهو يخاطب قومه الذين جمعوا بين الكفر والشذوذ الجنسي:
﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾(الشعراء:168)؛ فالمسلم موضوعي، يتجه بحبه أو كرهه إلى القول لا إلى قائله، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(الزمر:18)، مما يتيح له أن يكون منصفًا، حيث يستطيع رؤية محاسن من يكره ومساوئ من يحب، إضافة إلى استفادته من إيجابيات خصومه: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
ولأهمية هذا الأمر، أمر القرآن بالعدل في القول: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾(الأنعام:152).
وأما الانضباط في استخدام المصطلحات فيقلل من الخطأ، ويزيل اللبس، ويُبعد الإنسان عن الوقوع في فخّ التعميم، ويجعله معتزًّا بثقافة أمته، كما فعل القرآن عندما نهى عن اتباع المصطلحات المتشابهة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾(البقرة:104).
7-معرفة طبائع الناس وحقائق الحياة: إن هذه المعرفة تمكِّن المسلم من التأثير على الآخرين، والاستفادة من نقاط قوتهم كأفراد وكمجتمعات.
ومما يجب معرفته في سياق وسائل الإعلام، حب الإنسان عامة للصورة، لدرجة أن مسلمين من قوم موسىعليه السلام بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر بمعجزة، وبعد أن رأوا في الشاطئ الآخر أُناسًا عاكفين على أصنام لهم قالوا: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾(الأعراف:138)، بل وقال صفوة هؤلاء وهم مع موسى عليه السلام في جبل الطور: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾(النساء:153)، مما يؤكد خطورة الصورة، وأهمية التقنية فيها لإيجاد إعلام رسالي راقي، كما يفعل أبناء تيار الخدمة في تركيا اليوم.
8-تحلية المجتمع بشتى أنواع الخيرات: إن استزراع المعروف في أي مجتمع، واتساع دائرة الخير فيه، يساعد الناس على فهم الحقائق، ويقلل من الشبهات ويجفف منابع الفتن، ويساعدهم على وضع النقاط على الحروف، ولهذا قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾(الأنفال:23)، وعن المؤمنين في المقابل قال عز وجل: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾(الحج:24). وهذا ما ينبغي أن يجند نفسه من أجل تحقيقه الإعلام الإسلامي، حتى تعم الفائدة أبناء المجتمعات الإسلامية جمعاء.
9-استشراف المستقبل ومعرفة المآلات: كان رسول الله كقائد جماعة وزعيم دولة، يمارس إعلامًا راقيًا بكل شروطه وضوابطه، ومن ذلك قدرته على فهم الناس وطبيعة المجتمعات، والتنبؤ بما يمكن أن ينشأ من إعلام مضاد قد يشوِّه الرسالة في أذهان البعض. ولذلك -وعلى سبيل المثال- لم يقتل عبد الله بن أبي رغم أنه اقترف ما تسمى في هذا العصر بجريمة الخيانة العظمى، وقاد طابورًا خامسًا للإرجاف تارة، والتآمر مع أعداء الأمة تارة أخرى، وعلَّل صلى الله عليه وسلم الامتناع عن قتله بقوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “دَعْهُ، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه” (رواه البخاري).
ومن ثم ينبغي على الإعلامي المسلم أن يراعي ذلك في عمله كله، ولاسيما في التعامل مع الآخر. وبهذا كله يرتفع المسلم من دركات “السماع” ذات الأبواب المخلوعة، إلى درجات “الاستماع” ذات الأبواب الآلية التي تعرف متى تنفتح ومتى تنغلق.

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.