صدأ القلوب

أتى على الأمة حين من الدهر لم تعد فيه شيئًا مذكورًا، وأصبح الإنسان فيها -إلا من رحم ربي- يعيش جفافًا ملحوظًا وقسوة بارزة. قد تدمع العين على صورة دامية أو يخفق القلب على حال سائب، لكن هل هذا إلا إحساس عابر من هول اللحظة، لينجرف الجميع في دوامة من الغثائية والعبثية التي تموِّه مجموعة من الحقائق والأنظمة والقواعد، وتتحكم الفوضى واللاهدف والجحود في مفردات الحياة الفردية والجماعية للمسلم، تثقل ظهره وتحرف سلوكه وتوجهه إلى مزيد من السقوط والتردي. ويظل البحث عن أسباب الغوص في هذه الهاوية المريعة يسكن كل مهموم بما يلمسه من معاناة الأمة من جهل عميق بأساسيات دينها الذي قامت عليه، وببعد مهول عن تمثيله وفهم رسالته، وتخلف عن الانضباط بمنهجه الشرعي والأخلاقي، وتفاوت بين الممارسة والسلوك وبين القيم الإنسانية، وما يراه من ارتفاع وتيرة التحديات بمختلف توجهاتها، وعلى اختلاف أنواعها، وشراسة الحرب المعلنة عليه، ومن استمراء الهوان والاستسلام.

أتى على الأمة حين من الدهر لم تعد فيه شيئًا مذكورًا، وأصبح الإنسان فيها -إلا من رحم ربي- يعيش جفافًا ملحوظًا وقسوة بارزة.

ولعل افتقاد الإنسان بصفة عامة في هذا الوجود لقيمة من أرقى القيم الإنسانية، وتمييعها وإلباسها لباسًا لا يمت بصلة إلى معانيها ودلالاتها، جعلت الحياة برمتها تفقد معنى وجودها ومغزى خلقها. هذه القيمة هي الحب. فالحب من القيم السامية التي جعل الله فطرة الإنسان تهفو إليها، وجعلها سبحانه أساس العلاقة التي تربط بينه وبين عبده من جهة، وبين الأفراد والجماعات من جهة أخرى. لكن للأسف فقد جفت ينابيع المحبة من القلوب، وامتلأت بأعشاب الغفلة والنفور والقسوة والحقد الكراهية، والعجز عن محبة الذات لنفسها فضلاً عن محبة غيرها. بل فقدت هذه القيمة لب مفهومها وطبيعة وجودها، وانحرفت إلى مسارب الشهوة والمصلحة. ولم تعد تعبر عن مفهومها الكوني من حيث هي تجربة وجدانية تساعد الإنسان على نسج علاقات رائعة ينعم في ظلها بالأمان والاستقرار والتساكن: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾(البقرة:165). وقد آن الأوان لتنقية هذا المفهوم، والعودة به إلى مجرى ينابيعه، كي تشتد وتيرة الإيمان، وتُرقق القلوب ويجلى صدؤها. آن الأوان أن يعتصم المؤمن بحب الله، وأن يجعل هذا الحب مشكاة تنير فكره وعقله ووجدانه، ودواء ناجعًا لعلل الروح والجسد.
كيف يتغلغل الحب في سويداء القلوب؟ وهنا نسأل: ألا نحب الله ونحن نتوجه إليه خمس مرات في اليوم، ونمنع النفس عن الطعام والشراب في الصيام ونتصدق ونحج؟ لكن سؤالاً آخر يفرض نفسه على المؤمن: هل يتغلغل هذا الحب في سويداء القلوب، ويسري نديًّا في شرايين الممارسة والسلوك، ويرقى بالعلاقات في مدارج السمو اللائق بالإنسانية؟
رغم الهجمات الشرسة التي تتعرض لها الأمة، سواء بطريقة مباشرة من خلال الاحتلال، أم بطريقة غير مباشرة من خلال المحاولات المستمرة للتشكيك في مرجعيتها وقيمها وأصالتها وثقافتها، فإن هناك عددًا من المبشرات التي بدأت تهل على الأمة، وتقدم لها بعض التوازن والثقة، واسترجاع القدرة على المواجهة والصمود والتحدي. وهي مبشرات تكشف أن الأمة بدأت تستيقظ من سباتها، وتدرك السبيل الصحيح المؤدي إلى النهضة والعزة. ولكي لا يظل هذا الإدراك واقفًا على حدود المعرفة فقط، يجب أن يمس الممارسة السلوكية للفرد. وبمعنى آخر، هذه المبشرات يجب أن تكون حافزًا على نبذ أسباب الهوان والوهن، وتتحول معانيها إلى سلوك فاعل في حياة المسلم اليومية، بحيث تصبح نفسه تحاسبه على التفريط في مقومات المضي في سبيل النهوض والعزة والكرامة وفرض الحق والاحترام.
ولعل قيمة الحب، من أبرز القيم التي فقدت معانيها في حياة الإنسان بصفة عامة، وتشوهت مفاهيمها في العقل والوجدان، وارتبطت بكل ما يؤدي إلى الإسفاف والابتذال والزيف والآثام… وكان من نتيجة ذلك أن فقدت الحياة مغزى وجودها كله، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). ولن يتحقق مفهوم العبادة، إلا برابط الحب بين العبد ومولاه، وتسليمه ناصيته له طواعية واختيارًا وحبًّا، وإنما يجب أن يكون متغلغلاً في الفؤاد والوجدان ليفيض في شرايين الممارسة والسلوك، ويرقى بالعلاقات في مدارج السمو اللائق بالإنسانية.
ونظرة عابرة إلى الإنسان في المجتمعات الإسلامية، تكشف الفصل المهول بين إعلانه الحب لله -من خلال تنفيذ شعائره الدينية التي يقوم بها كل يوم- وبين تفعيل مقاصد تلك الشعائر في حياته وسلوكه وعلاقاته، ليطفو إلى السطح الجفاف والغلظة والتباغض والتحاسد… وتغرق تلك المجتمعات في التنافر بدل التآلف، والقسوة بدل الرحمة، والبخل بدل البذل والإنفاق المعنوي قبل المادي. وبالتالي لا يستطيع المسلم التبشير -من خلال نفسه- بالقيم الحقيقة والفاعلة، سواء في مجتمعه أو في أي مجتمع آخر، كما يفقد مصداقيته وعوامل تأثيره. وإذا عدنا إلى القيمة الأولى التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنه قام بالمحبة الخالصة والمؤلِّفة بين القلوب، والمسعفة على التآخي والعطاء. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على قيمة الحب، وحثهم على إشاعتها وتحقيقها عبر وسائل وممارسات مختلفة، لأهميتها في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية وفي توحيد القلوب وتآلفها، أو تعارفها وتعايشها وتفاهمها، ولدورها في إعطاء الأمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن والدسائس، وتقوم كل العلاقات والممارسات على أساس من الحب؛ حب الله، حب نبيه، حب الخير، حب الناس… وكانت شخصيته صلى الله عليه وسلم التي تفيض حبًّا ورحمة، مثلاً أعلى يهدي المجتمع الوليد إلى تنـزيل القيم الإنسانية التي جاء بها أو رسخها في واقعه وسلوكه. كما كانت الأحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه البخاري)، تسري ندية في حياته، ليشتد البناء ويقوى وترتفع هامته. فأين نحن من هذا الحب في مجتمعاتنا؟!