اشتهر بأنه خفيف الظل، خفيف الدم، خفيف الروح… يطلق النكتة فتستجيب لها نفوس الحاضرين، ويضحكون منها بشدة مع أنه في العادة لا يضحك… فهذه هي طبيعته وسجيته والفطرة التي فطره الله عليها.
ومع لطفه ودماثة خلقه، إلا أنه لا يُخفي بين الحين والآخر شعوره بالألم، حيث يسارع إلى وضع يده على بطنه بطريقة لا شعورية.
راجع الطبيب، فشخص حالته على أنها اضطراب في الجهاز الهضمي وفي القولون بخاصة. طلب منه الطبيب أن يقتصر على الخضار المسلوقة والفواكه ومقدار قليل من طعامه المعتاد ولكن بدون دسم. وحين رأى القدر الضئيل من الطعام الذي لابد من الاقتصار عليه، ضحك من كل قلبه وقال بصيغة تجاهل العارف:
– هذه الأشياء قبل الأكل أم بعده يا دكتور؟!
وكان هذا يعني أن من رابع المستحيلات أن يقبل هذه الوصفة التي تحرمه الطيبات… فهو رجل أكول بطبعه، يجد في الأكل لذة، ويسوقه إليه نهم شديد. فمن حقه إذن، أن يتضايق من هذه الحمية التي ما أنزل الله بها من سلطان -كما يقول- وكان يردد:
– إن أجدادي أصيبوا بالأمراض لقلة الغذاء وعدم تنوعه، أما الآن وقد أصبح الغذاء الصحي المتنوع في متناول اليد، فيأتي الطبيب ليمنعني عن ذلك؟!
فكان كلما أقبل على التمر والرطب يقول:
– كل شيء أُمنع منه إلا “مسامير الركب”.
كان يحب تناول المَنْدي كثيرًا ويردد قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾. الحمية هي آخر ما كان يفكر بها، لذا لم يلتزم بأوامر ونصائح الطبيب، بل كان يسخر بينه وبين نفسه من أولئك الذين يحرمون طيباتٍ أحلَّها الله… وكان يغالط في الأمر، ويخلط الجد بالهزل، رافضًا موضوع الحمية من أوله إلى آخره. ولأنه لم يزل في صحة وعافية في الظاهر -على الأقل- فإن مَنْعه من الأطعمة التي يحبها، محاولة فاشلة مكتوب عليها الإخفاق منذ البداية.
كانت نكته وضحكاته لا تحلو في كثير من الأوقات إلا على مائدة الطعام، إذ كان -والحق يُقال- يضفي على الطعام بهجة، ويفتح الشهية بحديثه وطرائفه العذبة.
مضت عدة أشهر وتأكد لديه أن تركه للحمية عمل خاطئ مهما حاول أن يجادل ويماري في ذلك. وراجع طبيبه مرة أخرى بخجل، لأنه خالفه في كل ما طلبه منه، فتقبَّل الطبيب منه ذلك، بعد ما بيّن أنه غاضب منه على تصرفه، وضربه عرض الحائط بكل تعليماته. زاد الطبيب (في العيار) حين خوَّفه من خطورة زيادة الكسترول، وأراه النتيجة المتوقعة لحموضة المعدة ولزيادة نسبة السكر… إلى آخر قائمة الاحتمالات الصعبة التي وضع نفسه في بداية الطريق الذي ينتهي بها. وأخيرًا قال:
– هذه صحتك أنت وليست صحتي أنا، وجسمك أنت وليس جسم إنسان غريب، وهو مع كل ذلك أمانة استرعاك الله إياها.
رفع إليه عينين كليلتين قائلاً:
– والحل يا طبيب؟
– الحل أن تلتزم بالحمية.
– لكنني لا أستطيع.
– إذن، أقترح أن تبقى هنا في المستشفى أربعة أيام على الأقل، حتى تأخذ فيها علاجًا للظواهر المرضية التي عندك، ثم ننظم لك طريقة طعام الغداء والعشاء والإفطار.
قرر أن يقبل بهذا الاقتراح قبل فوات الأوان، فدخل إلى المستشفى. ولأن حالته لا تستدعي أن يظل على السرير دائمًا، فقد وجدها فرصة أن يتعرف على أكثر من صديق في المستشفى، يتسلّى معهم أو يسلّيهم… وهذا ما كان يحصل -غالبًا- يراهم في المصلى، ويجلس معهم بعد الصلاة يتحدثون… وغالب حديثهم شيء معتاد من تاريخ المرض لكل واحد منهم، لكنه سرعان ما يغير الموضوع إلى شيء آخر، إلى موضوع فيه طرافة وعذوبة. ولذا كان في كل مرة يحصد عددًا من المعجبين المتلهفين لتعليقاته وحكاياته الممتعة.
ومضى اليوم الأول محالفًا الضجر من الحمية، حيث كان يتأفّف من حرمانه من لذائذ الطعام التي عادة ما يضعف أمامها.
وازداد تأفّفه وضجره في اليوم الثاني، وعند مجيء اليوم الثالث، شعر بالحسرة على الطعام ولذائذ الأكل التي ليس له منها حظ ولا نصيب.
كان يردد:
– إلى متى؟ هذا شيء لا يطاق… يا ناس دعوني مع المشويات والحلويات، فإذا متّ فقولوا عني، إنني قتيل المشويات والحلويات!
لم يعد يقدر على إخفاء ألمه وتحسره وهو يرى موزّع الطعام يدور بعربته على الغرف كل يوم ثلاث مرات، ليعطي المرضى أطباقًا من الأطعمة الشهية، ولكن ما إن يأتي دوره حتى يناوله نصف رغيف خبز مع سلطة خضرة قليلة، وتفاحة في بعض الأحيان. هذا كل ما يناله من تلك العربة المملوؤة بما لذّ وطاب.
وفي هذا اليوم (اليوم الثالث لبقائه في المستشفى)، قادته خطواته إلى الطابق الأرضي الذي يوجد فيه المرضى الذين أصيبوا بالكسور… نزل إلى قسم العظام وكان مسؤول التغذية قد وزع عليهم وجبة الغداء، ولأن الكسير تُعطى له وجبات عالية القيمة الغذائية فقد هاله ما رأى:
– لحم، أرز، أوصال، كباب، مرق، خبز، فواكه…
أرسل ضحكة كعادته، ثم خاض بالحديث معهم… خاض معهم في أحاديث طريفة… ووسط حديثه الهازل قال:
– ليتني أنكسر حتى آكل مثل أكلكم.
ضحك بعضهم، وتأثر بعضهم الآخر، لأنه تمنى الشر لنفسه… قالوا له:
– يا شيخ، هذه أشياء لا يُمزح فيها، احمد الله على العافية.
فقابلهم مازحًا:
– المهم أن أتناول مثل هذا الطعام الفاخر ولا أبالي بشيء آخر.
ومع أنه قال ذلك مازحًا، إلا أن القدَر كان له بالمرصاد، فتحقق ما تمناه على نفسه بعد أمد ليس بالبعيد.
وأخيرًا جاء يوم مغادرته المستشفى، خرج وقد خفّت عليه كثير من الآلام التي دخل من أجلها. بقي بعد خروجه من المستشفى عدة أيام، فإذا به يُصاب بحادث وتنكسر قدمه اليسرى، فيعود إلى المستشىفى نفسه، فتتجبَّر قدمه وترفع على السرير شأن الحالات المشابهة لحالاته.
وفي هذه المرة فقط، سمح له الطبيب أن يتناول من أنواع الغذاء ما كان ممنوعًا.
والطريف أن عددًا من المرضى الذين زارهم عند دخوله الأول للمستشفى، قد دُهشوا لعودته، فيما كان بعضهم يعتب عليه ويقول:
– فهل وجدتَ الطعام يساوي أن تتمنى هذه المصيبة؟!
اعتصم بالصمت… إذ كان سكوته هذا، أبلغ من كل جواب يُردّ.