المآذن العثمانية.. رشاقة وبساطة وسموق

المئذنة تعلن التوحيد وتشرئبّ إلى السماء، تريد الانعتاق من الأرض إلى السماء، من المادة إلى المطلق… فالمئذنة تعطي السموق وترتفع إلى أعلى لتأكيد هذا الرمز.
في هندسة المئذنة قمة التجريد، وكأنها تبغي -بالتماس مع السماء- الوصل والاقتراب.
فالمئذنة عنصر معماري مرتبط بالزمان والمكان… فسموق المئذنة مستوحى من سموق النخيل -أروع الأشجار وأكثرها ثباتًا- وهذا السموق مؤثر لإمكانية سماع صوت المؤذن في الفضاء الكوني.
الأذان سمعيًّا مرتبط بالعمارة… ويتآلف الاثنان من أجل رسالة التوحيد مرتبطين برحلة الشمس اليومية ما بين مشرق ومغيب، وفجر وغسق، وسحر وشفق… وبالتالي مواقيت الصلاة هي لحظات كونية من الأزل إلى الميعاد… رحلة كونية نحن فيها نسجد ونقترب.
انظر لمآذن جامع السلطان أحمد والسليمانية بإسطنبول في صعودها المستمر ومعراجها الصامت… إن فكرة الصعود دائمًا كانت تشغل أرواح المسلمين؛ الصعود إلى اللامتناهي، إلى الأعالي… وهذا لا يأتي إلا بارتقاء الروح وعلوها.

وفنيًّا وبالنظر إلى مراحل تنوع أشكال المآذن، أشعر دائمًا أن الطراز العثماني وهو أحدث تلك الطرز التاريخية، أكثرها نضجًا وبساطة. فبينما ينتقد البعض المآذن العثمانية الطراز مقارنة بالمآذن الأخرى، مرددين: إنها أبسط في شكلها، ولا تحتوي على التفاصيل العديدة، والثراء الذي تحمله المآذن المملوكية مثلاً؛ أنا أرى العكس… لأن بساطة المآذن العثمانية هو ميزتها وتفردها على مآذن العصور السابقة لها… فهي أقرب إلى بساطة الدين الإسلامي بلا تعقيد واستغراق في التفاصيل… لذلك هي أسهلُ شكلِ مئذنةٍ يمكن تنفيذه في وقتنا الحاضر.
ولذلك أرى فلسفة تعميم بناء المآذن على الطراز العثماني الذي تنتهي فيه قمم المآذن بمخروط (شبيهه بالقلم الرصاص) مطلوبة للأسباب التالية:
• بساطة تنفيذها وقلة التكلفة ماديًّا (مقارنة بالمآذن المملوكية مثلاً).
• يسهل تنفيذها في أحجام صغيرة مع عدم إخلالها بالشكل الجمالي. فالمآذن المملوكية -على سبيل المثال- لا يصلح تصميمها إلا في المقاسات الكبيرة من المآذن.
• بساطة شكل المآذن العثمانية، وهي أقرب لمفهوم التجريد الإسلامي البسيط، لا تحتاج إلى الكثير من الزخرفة.
• الشكل الأسطواني لبدن المئذنة -وهو الغالب على النمط العثماني- يجعلها لا تعترض التيارات الهوائية، وكأن الهواء ينزلق من عليها ولا يصطدم بها، وبالتالي تكون أكثر ملاءمة وثباتًا. لذلك ترى الكثير منها نحيلة وفارعة في الطول بلا خشية من عوامل الرياح وتيارات الهواء البيئية.
• الشكل المخروطي الذي تنتهي به قمم تلك المآذن الرشيقة العثمانية، أكثر تأكيدًا ووضوحًا لفكرة العروج إلى السماء، والإشارة إلى الواحد. فالأشكال الأخرى من قمم المآذن، مثل الخوذة المتكئة على عنق، لا يتضح ولا ينجلي فيها معنى الإشارة كالشكل المخروطي العثماني البسيط.
• إن المآذن العثمانية الجادة، الواقفة كالحراس الساهرين على حماية دينِ وثقافةِ إمبراطورية، وَرِثت خلافةَ أكبر عقيدة حكمت أركان المعمورة. وبهذا الشكل المثلث أو النهايات الهرمية لتلك المآذن -وهي تصعد إلى السماء- كانت رسائل صامتة بالغة الاحترام والمهابة أيضًا.
إن فكرة الصعود والالتقاء في نقطة إلى أعلى، لهي أكبر معنى إسلامي شكلي يمكن أن يجسده الفن. فالمآذن مثل السارية أو العلم، فهي إشهار للبناء وتمييز له حتى ولو لم تُستخدَم للتأذين في العصر الحالي، مع وجود مكبرات الصوت.