قد يغوص الباحث في أعماق الفكر، وقد يتجول في أضيق أزقة العلم ويحيط بها… وقد يسعى أيضًا إلى فكّ أعقد المسائل المؤرقة، مستعينًا في كل هذا بقدراته العقلية، وإمكاناته المادية المتوفرة، والمراجع العلمية المتاحة… لكنه وفي نهاية مطافه قد ينتج نتائج جافة، باهتة، قصيرة الأمد، وغير مؤثرة في الإنسان إلا قليلا. إن انطفاء جذوة الاحتراق من أجل قضية أو من أجل أمة أو وطن أو دين، من أهم الأسباب التي تجعل المعرفة الإنسانية مسطحة غير دافعة للفعل… هنا يغدو المرء ملزمًا بإعادة دراسة موقفه تجاه ما يقرأ، من الناحية الأخلاقية، والعلمية، والشرعية، والحضارية، ودراسة القابلية الذهنية تجاه ما يقرأه، وإلا فإنه يلعق الإناء من الخارج… فالقرآن الكريم كمنهج حياة، مركز على القابلية الذهنية عند الإنسان (السمع، البصر، الفؤاد… إلخ) من أجل إعادتها إلى صحوتها، ومن أجل استعادة نشاطها الإيماني.
فلطالب العلم -مثلا- مسؤوليتان لا يمكن تجاوزهما، الأولى مسؤولية شرعية إيمانية لا يمكن التغافل عنها وإهمالها، تفاديا لأن تؤول كل الجهود إلى إضافة لحبر جديد، وأعمال أخرى بعيدة كل البعد عن حقيقة الحياةة وحقيقة الإنسان. أما الثانية فهي المسؤولية المعرفية العلمية، يحاول فيها أن يزداد علمًا واكتسابًا وفعالية.
بعض الإشكالات في القراءة الفكرية
1- القراءة دون اعتبار السياق الزماني والمكاني: هي من الأمراض الخطيرة التي تصيب المشتغلين بالفكر، إذ تتجلى أعراضها في التحليلات النظرية البعيدة عن الواقع، والتي يصعب -بل يستحيل أحيانًا- تطبيقها واقعيًّا، لأنها أخلت بأمر مهم وهو “وجوب اعتبار الإحداثيات الزمانية والمكانية” للظاهرة المدروسة.
2- إشكالية “غوغل” (البعد عن الكتاب): هي إشكالية عامة، يعاني منها جلّ المشتغلين بالعلم حاليًّا، إذ إن طريقة التعامل مع محرك البحث “غوغل” تعكس وبصفة كبيرة الفوضى المنهجية، والتشوش الفكري الذي يعانيه مرتادو الشبكة العنكبوتية عبر العالم. ودليل ذلك انقطاع حبل التفكير في فهم الكثير مما يحيط بنا من ظواهر وأحداث، وغياب الحفر المعرفي الحقيقي في المؤسسات التربوية… إذ نجد أن موقف إنسان واحد، قد ينتشر ويصبح -بدون تمحيص علمي معرفي- موقفًا للكثيرين، بدافع التقليد أو بدافع الفوتوغرافية المتلقية -كما يصطلح عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري.
3- القراءة الانطباعية: وتتمثل في قراءة القرآن الكريم، أو الكتب الفكرية، أو الشرعية أو غيرها، من أجل البحث عما يلائم هوى القارئ وميولاته، وأفكاره الشخصية، فينتهي بفعل هذه القراءة الانطباعية إلى مجموعة أحكام مجتزئة مختزلة.
من هو “المفكر”؟
حين يجهل الإنسان تعريف شيء ما ولا يعلم كنهه، فإنه بطبيعة الحال، لا يستطيع أن يوظفه في حياته توظيفًا سليمًا.
من هذا نلاحظ أن الكثيرين يطلقون صفة المفكر على من لا يتصف بها، أو يسحبونها عن من يتمثل صفاتها. من أجل هذا سنوضح فيما يلي أهم صفات المفكر.
• امتلاك النسق: إذ إن المفر هو الباحث الممتلك لنسق معرفي فكري متواصل غير منقطع، ظاهر في جميع أبحاثه وأعماله العلمية، بإشكالاته الأساسية والمحورية التي يسعى المفكر من خلال أعماله أن يجيب عنها من شتى الزوايا والمجالات.
• القلق المعرفي الحضاري: أي أن الباحث يعيش في قلق معرفي، وهَمّ حضاري تدور كل أبحاثه حولهما، فوجب بهذا أن يكون حاملاً لمسؤولية أخلاقية إيمانية علمية يسير وفقها.
• الحركية بين الفكر والفعل: وفي تعبير متفرد للأستاذ علي عزت بيوجوفيتش، يبيّن أن انتفاء هذه الحركية بين الفكر والفعل، هو بالضرورة انتفاء لصفة أساسية من صفات الإسلام.
• امتلاك شخصية المربي: إن البعد التربوي في خطاب المفكر أو في أبحاثه وأعماله العلمية، مهم جدًّا، لأنه يصبغ أعمال المفكر بالمسؤولية التربوية والحضارية.وفي كل هذا وجب اعتبار المركب الحضاري الذي ولد فيه وعاش ونشأ هذا المفكر، واعتبار الوعاء الحضاري الذي يميزه عن غيره.
ثنائية الروح والمادة بمنظار “بيوجوفيتش”
تاهت الإنسانية -ولا زالت- بين ثنائية الروح والمادة، أو العقل والقلب. فكثير ممن كان يظن أن اقتصار العيش وإقامة الحضارة على أحدهما، دون اعتبار الآخر، أنتج نتائج مشوهة غير كاملة، فإما أن تكون مادية بحتة لا تعتبر للإنسان مكان ولا قيمة، وإما أن تكون روحية مغرقة في البعد عن الواقع، سابحة في فضاءات عالم خيالي، لا يعتبر السنن الكونية ولا النُّظم العلمية.
لكن المفكر علي عزت بيوجوفيتش يؤكد من خلال كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، أن الإسلام أتى ليجمع بين الروح والقلب، من أجل إنسان يعيش حياة متوازنة غير مختلة. فيقول المفكر بيوجوفيتش أنه ” لا يمكن في الإسلام، أن تحمل نفسٌ مطمئنة، بدنًا متسخًا”.
وفي حديث الأستاذ المربي علي عزت بيوجوفيتش عن المعايير الأساسية في بقاء الأمة حية تنبض عروقها بدماء الفعالية والتوازن، يورد معيارًا على شكل مصطلح منحوت وهو “المسجد مدرسة”؛ أي التحام المسجد بالمدرسة وهو ما يحيلنا إلى ما يذكره في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” مرارًا وهو التوازن بين العقل والقلب. فالمسجد يذكي الروح الإيمانية عند المسلم، والمدرسة تغرس فيه حب المعرفة والسعي لاكتسابها، والجمع بينهما في كل آن، وفي كل حركة وسكنه من تمام الإيمان.