من سياسة إطفاء الحرائق إلى التخطيط الإستراتيجي المؤيَّد

سؤال من أخي الباحث عن الحقيقة، ممَّا جاء فيه:

“قد وصلنا في قراءة “النور الخالد” إلى فصل “الأمانة” من صفات الرسول -صلّى الله عليه وسلم-، وكان رائعًا في استجلاء جوانب الأمانة والحث على تمثُّلها في حياة المؤمنين المعاصرين، وشباب “الخدمة”، وبخاصة في الفقرة الأخيرة منه. وإنَّا لَنشعُر دومًا بأهمية هذه التوجيهات، ونتصوَّر أنها لو كانت بحقٍّ ديدن المسلم لاستمرَّ نور الرسول -صلّى الله عليه وسلم- نهرًا من الخيرات لا ينقطع،ولَتَعلَّم العالمون العاملون من المسلمين كلَّ ما يزيح هذه الأباطيل والأضاليل التي نتخبط فيها”.

ثم قال، وهو من أرباب الهَمِّ وأصحاب الهمَّة، لا خفر الله له ذمَّة:

“لقد أحسستُ أنَّ فقه الأمانة -كما قدَّمه الأستاذ فتح الله- كافٍ لأن يُسهم بقوة في حلِّ هذه الإشكالات، ويحمل المسلمين إلى تمثُّل دينهم، ويرقى إلى المطلوب منهم أن ينجزوه للعالَم ولأنفسهم، نسأل الله أن يلهمنا ذلك”.

“أقول هذا أخي محمد ونحن نعيش -والأسى يملأ الجوانحَ- خلافات وشقاقات وقلاقل تُدمِي القلوب وتقضُّ المضاجع، ذلك مع عجزنا عن احتواء أزمة التعايش في أوطاننا… فلا نزال في حيرة من أمرنا: كيف نُقنِع الأطراف بالتفطُّن إلى المكايد، ليتجنبوا الوقوع في الفخاخ، ويقفوا في وجه المتربصين؟! فالكل يرى الحق إلى جنبه مقصورًا”.

“أخي محمد، معذرة وقد شغلتُك بهذا، ولكنه واقع أُمَّتنا، وما لنا بدٌّ من السعي في إصلاحه قدر مستطاعنا، ولن نصل إلى ذلك إلا بالنُّصح والتناصُح، فاشفوا الغليل برأي منكم حصيف، يدَّخره الله لكم سببًا للفلاح، ومَن أحسَنُ عملاً ممن سعى في رأب الصدع وجمعِ الكلمة، فجزاكم الله خيرًا، وجعلكم مفاتيح لكلِّ خير… والسلام”.
الجواب من عَيِيٍّ قاصرٍ مِثلي… وربي الرحمنُ هو الأعلم والأحكم:

الجواب من عَيِيٍّ قاصرٍ مِثلي… وربي الرحمنُ هو الأعلم والأحكم:

أستاذي وحبيبي، سلام وتحية تقصُر عن حملها الرواسي… مِن أخ لك لم تلده أمُّك، وصديقٍ لك معترف بقدرك مقصِّر في حقِّك… أخيك الأصغر محمد.

بعد حِلٍّ وترحال مسترسل من تونس إلى سلطنة عمان، ثم إلى المغرب الجار ذي القربى، متجوِّلين بين مدنه العديدة الجميلة، ها قد حططتُ الرحال، وتنفسَّت الصعداء، ثم جلستُ لأُوفِيَ بوعدي لك، أن أكتب جوابًا لكتابك السالف، مستعينًا بالله سائلاً لطفه وسنده ورحمته.

أخي اللبيب، سألتَ عن “أمر عظيم” في “أمر عظيم” هو حال أمتنا هنالك في رَبْع من ربوع بلاد الإسلام الفسيحة، وهو ذات الحال في أكثر من قُطْر وبلد من أقطار المسلمين وبلادهم، الفُرقة، وضيق الأفق، والفتن الرخيصة، والأيادي الخفية، والأحلام الخفيفة.

ولـِي في ذلك -والله أعلم- مِمَّا أنا فيه، ومن بعدِ تشرُّب فكر الأستاذ فتح الله، ومعايشة أنفاس “الخدمة” مشرقًا ومغربًا، لي في ذلك رأيٌ، لعلَّ فيه بعضَ الصواب، وإلا فارْمِ به أرضًا ولا تلتفت إليه أبدًا، وهو أنَّ إدارة الأمم، والمجتمعات، والجماعات، والمؤسَّسات، والهيئات… لا تكون إلا في مستوى المسؤولية، والخطورة والأهمية التي نعطيها لها، فإنْ نحن أمددناها بعُشْر وقتنا وطاقتنا لم تُعطِنا إلا العُشْر، وإن نحن سلَّمناها النصف قابلَتنا بالنصف، وإن جُدنا بالكل فإننا -بحول الله- نجدها تسخو علينا بكل ثمارها ولا غرو.

الصراحة والصواب والنصح تحتِّم علينا مجتمعةً، أن نعترف أننا ندير اليوم وضعية معقَّدة، ومصيرًا مجهولاً، وسفينة موَّارة تَرنَّحُ بها الأمواج يَمنة ويَسرة، ومجتمَعاتٍ تفور وتغلي، وهيئات شاخت واهترأت، نَقودها -أو كأننا نقودها في ما يبدو- بكثير من الهمِّ، وببعض الجهد، وبقليل من التخطيط والتنظيم، والتوافق والعمل الجماعي، والبحث المنهجي.

لكأنَّ المهمَّ هو أن نكون، لا أن نكون كما يجب أن نكون، هذه هي عقدة المسألة.

إن نصف الرِّجْل هنا ونصفها هنالك، ونصف اليد هنا ونصفها الآخر هنالك، ونصف العقل لهذا ونصفه الثاني لذلك، وبعض القلب لهؤلاء والبعض المتبقي لأولئك… لا يصنع التغيير ولا يُرتجى من شطره بزوغ الفجر الجديد.

أخي وحبيبي، لو سألتُ عنك أين أجدك؟ فإني -ولا ريب، وهذا من أمارات كرمك وسخائك وحبك للخير وابتغائك الرضا والقبول- إذا سألتُ عنك، فسأجدك في كل مكان، لكن للأسف لن أجدك في أيِّ مكان، فأنت في الجامعة وأنت في الجمعية، وأنت في المدرسة أو أنت في الشركة، وأنت في الحيّ وفي الحزب، وأنت متجوِّل عبر المدن والبلدان، وأنت حامل هَمِّ القريب والبعيد… وهذا كله -وايْم الله- صبر واجتهاد وأجر ومثوبة.

لكن أين الخلل؟

الخلل هو أنك لم تُعطِ أيَّ مَهَمَّة حَقَّها ومستحَقَّها، ولم تَهَبْ لأيَّ رسالة جميعَ مَلَكاتك ومواهبك وطاقاتك… فلا العلم والتحقيق العلمي وجد منك “الباحث المرتقَب”، ولا المجتمع والمؤسَّسات وجدت منك “المتفرِّغ الدائم”، أي إن منطق “إطفاء الحرائق” بات هو سيد الموقف، وهو صاحب القول الفصل فيَّ، وفيك، وفيه، وفينا جميعًا.

أمَّا ما وصفته بالمشكلات والقلاقل، في حيِّزك وفي كثير من حوز بلاد المسلمين اليوم، فهو جرح غائر عميق لا شفاء منه إلا على أيدٍ متوضئة خبيرة تصل الليل بالنهار جلوسًا وتخطيطًا وتنفيذًا، لتأتي بما يلزم في إجراء ما يشبه “العملية الجراحية المخِّية أو القلبية”.

فهل يا ترى يتسنى للطبيب العامِّ أن يقود هذه المهمَّة الشاقَّة الخطيرة؟!
ألا تجد أخي أننا اضطُرِرنا رغَبًا ورهَبًا، وبفعل جريان الأحداث فينا، على وقع “مُكرهٌ أخاك لا بَطَل”، اضطُررنا إلى أن نتحول إلى “أطباء”، لكن في “الطب العامّ” لا المتخصِّص، وعجزنا عن تحقيق الخرِّيتية الضرورية للنهوض بالأمم والمجتمعات.

فأين الحلّ إذن؟

الحَلُّ هو أن نَصدُق ربَّنا ونَصدُق دينَنا ونَصدُق أمَّتنا ونَصدُق أنفسَنا… ثم نغلق على أنفسنا أيامًا طوالاً لنصوغ “مخطَّطًا استراتيجيًّا شاملاً” قابلاً للتنفيذ مع نيَّة التنفيذ، مخطَّطًا يجمع إلى الغاية الوسيلةَ، وإلى الأهداف الواقعيةَ، وإلى التوكُّل والاستسلام المطلق لله الامتثالَ لأمره والعملَ بمقتضى سننه وشِرعته.

لعل المناصب والوظائف تتبدَّل جرَّاء هذا الاختيار الصعب، بل لعل كثيرًا من المكتسبات المادية والدنيوية والمعنوية يُضَحَّى بها، ولعل ما يشبه التوجيه النظامي يكون هو المحدِّد، ولعلّ القَدَر يجمع بين ثُلَّة مِنَّا في “مركز -أو مراكز- للتفكير الدائم المتواصل”.

قد نجوع في هذا السبيل، ولكنا لا نغادر، وقد نغرق فيه ولكنا لا نساوم.

أخي، ما كنت أدعو إليه لسنوات مضت، بصوتٍ مبحوح خافتٍ قاصر لقصوري، ما كنت أنادي إليه نظريًّا بلا نموذج سابق مع عجز مني حقيق، الذي كنت أبحث عنه هائمًا عاشقًا… ها اليوم أجده عمليًّا ماثلاً في الواقع، أجده في نهضة تجديدية جادة ضمن دوحة “الخدمة” وجنَّتها، نهضةٍ لا تعرف العفوية ولا تؤمن بالأشباه والأمثال والنظائر، هي إلى السماء وإلى ربِّ الأسباب متوجهة قاصدة حثيثة، وهي على الأرض وضمن دائرة منظومة الأسباب عاملة ناصبة كادحة، معتقدة أنَّ ذلك من تمام التوكُّل على الله، سِمَتُها “الرَّبَّانيةُ” مع “الرُّبَّانية” مقترنتيْن بـ”الفتح” ثم “الضَّمّ”.

فهل نحن كذلك؟

لا شك أننا مؤهَّلون لذلك في دائرتنا القريبة والبعيدة، ولكن وا حسرتاه، نحن كذلك بالقوة لا بالفعل، بالتمنِّي والرجاء لا بالعزم والحزم… لذا، فلا أملَ يُرتجى من نقص وتقصير مع القدرة على الكمال والتمام. هذا -ولا ريب- ما تجده في قلبك أخي وحبيبي، وهو ما أجده مَطلعَ كل شمس ومغرب كل شمس.

فلنكُن إذن صادقين، “والله يحبُّ الصادقين”، ثم لنكُن مع الصادقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وذلك هو الفَلاح المبين: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).

أخي وحبيبي، يحلو لي أن أُهدِي إليك وإلى كل صادق أمين من أمثالك، النَّصَّ الذي أشدت به في رسالتك، وهو جوهرةٌ من جواهر “النور الخالد”، ففيه تحت عنوان “يا براعم الأمل” نقرأ:

“أجل، ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين وإقامتها في الدنيا مرة أخرى، فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالَم الغارق في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظلَّلت بأوراقها وأزهارها كلَّ الأرجاء.

كانت كلُّ كلمة لأُمَّتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر، وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة، والتخلُّص سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم، يأمله من يعيش فوق التُّراب ومن هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد -صلّى الله عليه وسلم-، وهو يتجول بروحانيته بينكم، ويربت على أكتافكم ويبتسم لكم وإن كنتم لا ترونه أو تحسُّون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة في ما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا، انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تَرَبَّع أجدادكم من قبل. ولكن لا تنسوا أبدًا أنَّ شرط الوصول إلى هذه النتيجة وإلى هذه الذروة، مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.

فإن كنا نريد أن نكون أمَّة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمة، ونلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازُن الدولي -حيث إننا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن”.

أخي وقُرَّة عيني، تحياتي إليك وإلى المرابطين من أحِبَّتي وأساتذتي ورفقائي، من يعرفني ومن لا يعرفني مِمَّن معك، والسلام عليك وعليهم جميعًا.

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.