في افتتاحية هذا العدد من مجلة “حراء”، نقف عند مفترق جوهري في مسيرة الفكر والحضارة، حيث تتقاطع قضايا الإنسان، والهجرة، والنهضة، مع قضايا الذكاء الاصطناعي، والتسامح المؤسسي، والتحولات المعرفية والقيمية في عالم سريع التغير.
في قلب هذا العدد، يتجلى المقال الرئيس الموسوم بـ”الرحلة المباركة” للأستاذ “فتح الله كولن”، كدعوة صريحة إلى الهجرة الكبرى؛ لا بمعناها الجغرافي فقط، بل بمعناها القلبي والروحي أيضًا. فالهجرة بمفهومها العميق هنا، تعبّر عن ثنائية الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، وعن قدرة الإنسان على الانتقال من أنانية النفس إلى رحابة الرسالة، ومن ضيق الذات إلى سعة الإيمان والخلود.
هذا ويَعرض العدد، أبعادًا فكرية وعلمية معاصرة، أبرزها العلاقة المتشابكة بين الذكاء الاصطناعي والقيم الأخلاقية. ففي مقاله “الذكاء الاصطناعي وعلاقته بالقيم والأخلاقيات”، يطرح “ناصر أحمد سنه” أسئلة العصر حول العلاقة بين التكنولوجيا والضمير، أما “عبد العظيم أحمد عبد العظيم” في مقاله حول “رحلة المهاجرين من مكة إلى الحبشة”، يعيد للذاكرة الهجرة باعتبارها أعظم تحول في مسار البشرية.
فالعلم في هذه العدد، ليس مفصولاً عن القيم، والأدب ليس غريبًا عن الرسالة، والتاريخ ليس حكاية فقط بل مرآة للواقع. فمن خلال مقال “المنهيدن الكبِد المنظف للمحيطات” لـ”صابر عبد الفتاح المشرفي”، و”البريون.. اعترافات كائن ميت” لـ”صهباء بندق”، و”رحلة عبر أجنحة الفراشة” لـ”سريعة سليم حديد”، يتبين للقارئ أن التفكر العلمي هو المفتاح الذهبي لفهم الذات الإنسانية والكون بشكل دقيق.
ولا يغيب البعد التربوي عن هذا الحضور الفكري؛ فمقال “الانتباه في التعليم” لـ”عبد الرؤوف توتي بن حمزة”، ومقال “الطفل وبناؤه النفسي” لـ”أحمد محمد القزعل”، يؤكدان أن التربية هي بناء الإنسان علميًّا ومعرفيًّا من جانب، ومن جانب آخر إصلاح هذا الإنسان من حيث عالمه الداخلي. ويبرز أيضًا البُعد الجمالي من خلال استحضار الفن كقيمة إنسانية راقية، كما في مقال “المعادن بين الفن وحرفة الإبداع” لـ”رضا إبراهيم محمود”، حيث يلتقي الحس الجمالي بالمهارة التقنية في إطار ثقافي رفيع.
أما الجانب المعرفي الأدبي، فينفتح على تحليل دقيق للرواية كأداة نهضوية، وذلك من خلال قراءة في كتاب “عودة الفرسان” لـ”خالد فهمي”، التي تجسد سيرة الأستاذ “فتح الله كولن” كوثيقة حضارية تنسج من الخيال والألم والتاريخ نداءً إلى استئناف المسيرة الإصلاحية.
إن “حراء” في عددها الجديد هذا، لا تكتفي بأن تكون مجلة تُقرأ، إنما تسعى لأن تكون مشروع فكر يُعاش؛ يطمح أن يجعل من كل قارئ مهاجرًا إلى آفاق أوسع من الفهم، وأعمق من التجربة، وأكثر صدقًا في حمل الأمانة. والله المستعان.