فتن كقطع الليل المظلم، وكأنها تلك التي حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “بادروا بالأعمال فتَنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا” (رواه مسلم).
وها هي اليوم أمتنا تواجه محنًا شديدة، وشدائد قد تكون غير مسبوقة. وها هي فلسطين تدفع ثمنًا باهظًا من الدماء والأرواح والاستقرار والأمان، ويدفع أطفالها حياتهم جوعى، وتترمّل نساؤها وتُثكَل على مدار الساعة، دون صريخ لهم أو منقذ. وها هي اليمن والسودان وليبيا ولبنان وغيرها من بلاد المسلمين ما زالت تنزف دون ثمن، بينما الدماء النازفة كلها دماءٌ مسلمة. محن تتوالى وتتكرر حتى تعبت قلوب البسطاء، وتساءل كثيرون من خلف دموع عاجزة: إلى متى ما تعانيه الأمة؟ إلى متى هذا الوهن؟ إلى متى تتوالى هذه المحن؟ إلى متى هذا الهوان؟
سنن الله في المحن والابتلاءات
ومن سنن الله تعالى أن يختبر عباده؛ ليُثبِت لهم الصادق من الكاذب في إيمانه، فيقول تعالى: “الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”(العنكبوت: 1-3).
وفي قصة خباب بن الأرت ما يوضح لنا تلك السنن الربانية في خلقه، فعن خباب رضي الله عنه قال: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيُوضَع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه” (رواه البخاري).
والمسلم الصابر مأجور على صبره وثباته وصدقه مع ربه تبارك وتعالى. والفرج مقرون بالابتلاء، حيث يقول تبارك وتعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”(الشرح: 5-6).
فقد جعل الله عز وجل مع كل عسر يسرين، ومع الشدة فرجًا. وعلى المسلم أن يتمسك بإيمانه منتظرًا فرج الله، مع العمل على رفع البلاء والخلاص منه، حتى ولو بالهجرة وترك أرض الظلم، مصحوبًا بوعد الله عز وجل: “وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً، وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا”(النساء: 100).
متى تنتهي المحن ويتنزل النصر؟
وبما أن الشدائد سنة من سنن الحياة، فإن نهايتها أيضًا سنة من سنن الله، وذلك مما يجدد الأمل والطمأنينة في نفوس المسلمين. فمن خصائص الشدة والمحنة:
1- أنها ليست دائمة: فإنما هي فترة اختبار وتنتهي.
2- أنها اختبار من الله: مأجور من يتجاوزها ودينه آمن في قلبه، وهي اختبار للتمايز ورفع درجات المؤمنين الثابتين، كما في قوله تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ”(العنكبوت: 2).
3- أن الابتلاء من علامات محبة الله لعبده: وعلى قدر الإيمان يكون البلاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم” (رواه الترمذي).
4- أن الأمور في الدنيا متقلبة: فليس بعد الشدة إلا الفرج، كما قال تعالى: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا”(يوسف: 110).
5- أن الفرج مقرون بالصبر: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يُسرًا” (رواه أحمد والترمذي).
مواقف المؤمنين مع كل شدة
ينبغي للمؤمن أن يتعلم من تاريخ السابقين من الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين في كل زمن، فقد قال الله تبارك وتعالى: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ، وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ”(يوسف: 110).
قال ابن كثير رحمه الله: “يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عند ضيق الحال، وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات”.
وباستعراض طريق الحق منذ عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، فلن نجد أبدًا أن هناك حقًّا انتصر عبر طريق مفروش بالورود، وإنما ينتصر الحق برجال مستعدين لبذل النفس قبل المال والوقت. فالمعارك الكبرى قد تزلزل العقول والقلوب، كما وصف الله حال المؤمنين في غزوة الأحزاب بقوله: “إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا”(الأحزاب: 10–11).
لقد أحاطت محنة شديدة بأهل الإيمان في المدينة، حيث حُوصرت المدينة وفيها رسول الله ﷺ ومن معه من المؤمنين. ومع ذلك، فقد كان للمؤمنين موقف الثبات وتصديق موعود الله تبارك وتعالى، فقالوا وسط المحنة: “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا”(الأحزاب: 22).
فجاءهم نصر الله وتأييده: “وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا” (الأحزاب: 25).
وقال تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”(البقرة: 214).
الاختبار قائم إلى يوم الدين
الاختبار الإلهي قائم للمسلمين كأمة، وللمسلمين كأفراد إلى يوم الدين؛ قائم بالهزائم والمحن والشدائد، قائم في مواجهتهم لتلك المحن، وبذلهم الجهد للخروج منها وتجاوزها، قائم في تبليغهم لكلمة الله، وحملهم للأمانة بقوة، وسيرهم بها في الحياة لهداية الناس.
كما أن الاختبار قائم في نصرتهم للمستضعفين، وتأييدهم للمظلومين، ودعمهم للمكلومين، وإغاثتهم للمحتاجين. فالمسلمون في اختبار مستمر، حتى في حال نصرهم وعزتهم ورفعتهم، قال تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”(آل عمران: 173–175).
إنه الشيطان، يُخوّف أولياءه دومًا، أما المؤمن فيتوكل على ربه، وهو موقن بوعد الله: “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”(الطلاق: 3)، “إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”(آل عمران: 160).
الشدة تستلزم الصبر مع العمل على إزالتها
والمسلم أمام المحن ليس سلبيًّا؛ لا يكتفي بانتظار الفرج، ولا يسلم نفسه للهموم، معتقدًا أن سنن الله تستوجب السكون والسكوت، بل عليه أن يتبع جميع السبل المشروعة لرفع الظلم، وبناء النفس، وتأهيلها للقيادة والريادة، وعدم الخضوع أو الاستسلام.
إنه مدعو للعمل، والتربية، وصناعة جيل يحمل الرسالة ويؤمن بقضية أمته، ويدفع في سبيلها من جهده وعقله وقلبه، موقنًا أن النصر آتٍ، وأنه جند في قافلة التغيير، لا متفرّج في مشهد الانحدار.
عليه أن يتعاون مع إخوانه في نصرة الحق وأهله، مستحضرًا قول النبي ﷺ: “تَرى المؤمنين في تَراحُمهم وتوادّهم وتعاطُفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى” (رواه البخاري).
فلِتَنفض الأمة عنها غبار الكسل والضعف واليأس، ولتستعصم بحبل الله المتين، ولا تركن لإملاءات الشيطان، فإن الحق منتصر، ما دام وراءه رجال يحملونه بإيمان ويقين وثبات.