ثابت بن أقرم.. شهيد التواضع والجهاد

واحدٌ من الشهداء والمجاهدين الذين فضلوا أن يعيشوا في صمت، متخلّقين بخلق التواضع والصلاح، إنه ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن العجلان البلوي، كان سبّاقًا إلى الجهاد في سبيل الله. ثبت في سجل سيرته أنه شهد غزوات بدر وأُحد والخندق وكل غزوات الرسول ﷺ، ناهيك عن قيامه ببعض المهام النضالية والفدائية، إذ وجّهه الرسول ﷺ أميرًا على سرية مقاتلة إلى “الغمرة” وهي إحدى نواحي نجد، وقد أبلى البلاء الحسن، وقدم أورع صورة للجهاد والاستبسال، فأُصيب بجروح خطيرة، حتى حسب البعض أنه مات في هذه الموقعة، لكن الألطاف الإلهية شاءت أن يعيش مجددًا ليواصل مسيرة الكفاح في سبيل إعلاء كلمة الله وإحقاق الحق وبناء مجتمع مسلم يضمن للإنسان كرامته.

شكّلت معركة “مؤتة” منعطفًا حاسمًا في تاريخ الدولة الإسلامية الفتية، إذ جعلت المسلمين في مواجهة قوية ضد إمبراطورية الروم ذات الجيش المجهز بالعتاد والمكوّن من الألوف، والحقيقة أنه لم يسبق للمسلمين أن خاضوا مثل هذه الحرب من قبل، وقد حدثت في السنة الثامنة للهجرة وخلالها سقط ثلاثة من كبار قادة المجاهدين المسلمين: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وثلاثتهم كان الرسول ﷺ قد عقد لهم لواء القيادة على التوالي، فلما استُشهد زيد حمل اللواء جعفر، وبعد استشهاده هو أيضًا، حمل اللواء عبد الله بن رواحة، وما إن سقط من يده – بعد استشهاده هو الآخر – حتى تلقّفه ثابت بن أقرم ورفعه عاليًا، دفاعًا عن شرف الإسلام وتثبيتًا لجنده، ثم ما لبث أن خاطب رفاق السلاح قائلاً: “يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم للقيادة”، فقالوا له: “أنت!” لكنه مدفوعًا بتواضعه الجم الذي لم يكن يسمح لنفسه بأن يُخايلها الكِبر والشهرة والتباهي، رفض وقال: “ما أنا بفاعل”، والتفت فإذا بخالد بن الوليد على مقربة منه، فناوله اللواء مخاطبًا إياه: “أنت أعلم بالقتال مني!” فتسلم خالد اللواء ورضي المجاهدون بقيادته.

إن هذه الواقعة تُبرز المنزلة الهامة التي كان يتمتع بها ثابت كمجاهدٍ قائد، وما إقرار المناضلين له كحامل للواء إلا دليل على ذلك، لكن تواضعه حال بينه وبين تسلم مقاليد القيادة، خاصة وهو يعلم أن رجلًا كسيف الله المسلول خالد بن الوليد كان الأحق بها. ظلّ ثابت بن أقرم ثابتًا وصامدًا في ميادين القتال، كل همه أن يواصل نضاله لنصرة الإسلام، دون جلبة أو رياء أو تفاخر، مهتديًا بالقبس الرباني الوارد في قوله تعالى: “فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ”[سورة النجم، الآية: 32].

إن ثابت بن أقرم وإخوانه من المجاهدين الأولين، كانوا يبتغون وجه الله، ولذلك انخرطوا في الجهاد في سبيله، فلم تُغرِهم الحياة الدنيا ولا صرفتهم عن إدراك المعاني السامية للجهاد من بذل وتضحية وفداء، أمنيتهم الوحيدة هي نيل شرف الشهادة في سبيل الله، يقول سبحانه وتعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ”[سورة التوبة، آية: 20].

أما عن الأسباب التي أدّت إلى نشوب غزوة “مؤتة”، فتتلخص في المضايقات والاستفزازات التي كانت تصدر عن الروم في حق المسلمين، وذلك من قبيل الهجوم على القوافل التجارية المتجهة نحو الشام بهدف النهب والسلب، لكن النقطة التي أفاضت الكأس تمثّلت في تجرؤ ملك بصرى الشام المدعو شرحبيل بن عمرو الغساني (وإمارة الغساسنة كانت تابعة لحكم الروم) على قتل الرسول الموفد من طرف النبي ﷺ، الحارث بن عمير الأزدي رحمه الله، كرد على رسالة رسول الله التي دعاهم فيها إلى الإسلام، وقد شكّل هذا التصرف الأرعن ضربًا وخرقًا للمواثيق المعمول بها آنذاك بين الأمم، إذ كان يُحرَّم قتل الرسل. ولما بلغ الأمر إلى رسول الله ﷺ اغتم غمًا شديدًا، فأمر بتجهيز الجيش للدخول في حرب مع الروم، فكان قوام هذا الجيش المشارك في غزوة مؤتة قرابة ثلاثة آلاف مقاتل، في مقابل مئتي ألف مقاتل من جيش الروم، وأثناء توجيه الرسول ﷺ لمجاهديه إلى أرض المعركة، قام عليه أفضل الصلاة والسلام بعقد الراية لثلاثة من الصحابة الأجلاء، يتناوبون عليها كما ورد في الحديث الذي رواه أبو قتادة الأنصاري عن النبي ﷺ، حيث يقول: “إن أُصيب زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن أُصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة” (الصحيح المسند).

تابع الصحابي الجليل ثابت بن أقرم نهجه القويم المستند إلى قيم الوفاء والتواضع والتضحية، غير ناكثٍ بما عاهد الله عليه من بذل للروح والنفس في سبيل الدفاع عن حوزة الإسلام، ولذلك كان من السبّاقين إلى محاربة أهل الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فانضم إلى الجيش المسلم المتوجه إلى اليمامة لقتال أعداء الله، فكتب له الله الشهادة وهو يقوم بمهمة استطلاعية، وكان قاتله طليحة بن خويلد الأسدي، وجاء في “الإصابة”: “قال عمر لطليحة بعد أن أسلم: كيف أحبك وقد قتلت الصالحين، عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم؟ فقال طليحة: أكرمهما الله بيدي، ولم يُهِنِّي بأيديهما”.

رحم الله ثابتًا رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته.