الخنافس ودورها الفعال في التوازن البيئي

تعتبر الخنافس أنجح الكائنات على سطح الأرض؛ لأنها تتلاءم مع أي بيئة، فالبعض منها له القدرة على امتصاص الرطوبة من الجو بواسطة أجنحتها لتحتفظ بمياهها، مما يجعلها تسير في الصحراء حيث الرطوبة نادرة، وبعضها تستطيع العيش تحت الماء لأنها تخزن الهواء بأجنحتها. ويوجد أنواع من الخنافس تعيش على روث البهائم أو أجزاء معينة من النباتات والحيوانات الميتة.
الخنافس إما سوداء أو بنِّية اللون، وكثير منها لونه أحمر أو أزرق أو أخضر أو خليط من الألوان. وقد أثبتت التجارب أنها أقوى حشرةٍ في العالم بشكل خاص، وأقوى حيوان في العالم بشكل عام؛ وذلك لقدرتها على سحب كتل ضخمة تزيد عن وزنها بما يقارب الـ1141 مرة، وهذه القدرة الكبيرة لا نجدها في الكائنات الحية الأخرى. هذه القدرة تساعد الخنفساء على القيام بتلك المهمات الصعبة بجسمها الصلب وقوائمها القوية المتينة. وللخنافس حاسة شم قوية جدًّا تساعدها على تمييز الحشرات الأخرى على مسافات بعيدة في بعض الأحيان، وعلى إيجاد الطعام لها ولصغارها. تتمتع الخنافس بعينين كبيرتين، وقد تكون لها في بعض الأحيان عين ثالثة في أعلى رأسها، ولكن حاسة النظر ليست شديدة الأهمية بالنسبة لها.

بعض أنواع الخنافس

الخنافس من أكثر الحشرات انتشارًا على الإطلاق، فقد أحصى العلماء ٣٠٠ ألف نوع منها تقريبًا. وهي حشرات صلبة ذات أرجل قوية وتستطيع العض، ويبدو بعضها مخيفًا في شكله.. يغطي أجنحتَها التي تطير بها زوج آخر من الأجنحة الجلدية لوقايتها، ولذلك تسمى هذه الحشرات “غمدية الأجنحة”. وفي هذه الأنواع العديدة تجد مختلف الأحجام والأشكال والألوان، بعضها يحمل أشواكًا قرنية الشكل تسمى خنفساء “وحيد القرن”. ولخنفساء الوعل الأوروبية فكوك قوية تشبه قرون الوعل، وهي تحارب بوحشية، كما أن هناك نوعًا أمريكيًّا يسمى “الخنفساء القارصة”. وكثير من الخنافس يتمتع بدروع لامعة تلمع كالذهب أو تحلل الضوء الواقع عليها، وتظهر في ألوان متعددة، وبعضها منقّط كالفهد أو مخطط كالنمر، ويشيع بينها اللونان البني والأسود. وتبدو الخنافس الخضراء في صورة جميلة، ولكن تفوقها حسنًا الخنافسُ الزرقاء، والأنواع الكبيرة منها مبرقشة. وثمة خنفساء البلياتشو (المهرج) في جزر الهند الغربية، وسُميت بهذا الاسم لأن عليها علامات غريبة من لون أحمر وأبيض وأسود.
وتعد خنفساء “الدفن” بمثابة حانوتي عالم الحشرات، فهي عندما تجد حيوانًا ميتًا ولو كان يكبرها حجمًا -مثل فأر مثلاً- تبدأ عملها على الفور وتحفر الأرض تحته مباشرة، حتى يسقط في الحفرة وينهال عليه التراب. وهناك سبب وراء هذا النشاط، حيث إن أنثى الخنفساء تضع بيضها في هذا القبر الحديث، لتجد يرقاتُها غذاءها من اللحم متوافرًا أمامها عندما تفقس. وهناك خنفساء كبيرة توجد في بلاد البحر المتوسط تسمى “الجعران المقدس”، وكان لهذه الخنفساء منزلة عالية لدى المصريين القدماء، ولقد اتخذ صانعو الجواهر شكلها في عمل الخواتم والأساور، حتى إن الإمبراطور كان يستعمل خاتمًا على شكل الجعران ويختم به الوثائق الرسمية. وكثيرًا ما كانت تدفن الجعارين المقدسة مع الموتى لتحميهم في العالم الآخر، وليس هناك حشرات أخرى كُرِّمت هذا التكريم.
أما “خنفساء المدفعية” التي عندما يطاردها عدو أكبر منها، تهرب منه بعد أن تطلق في الجو شيئًا قليلاً من سائل يتحول إلى بخار أزرق له رائحة منفرة.
وإن الخنافس المضيئة تلهم صناعة المصابيح، وهي حشرة لا يتجاوز حجمها ملليمترات، وفي داخلها يعمل مصنع طاقة رهيب ينتج كميات من الطاقة المضيئة تتفوق -وبفارق مهول- على أحد أعظم الاختراعات البشرية (المصباح الكهربائي). يحتوي جسم هذه الحشرة على إنزيم ليوسيفيرين وإنزيم ليوسيفيريز، ومع وجود مصدر للأكسجين ووجود ثالث فوسفات الأدينوسين، ينتج عن ذلك تفاعل يؤدي إلى الضوء، من خلال جانبي السطح البطني للخنفساء (الحلقات الأخيرة من البطن). وتتوقف كمية الضوء المنبعثة من الخنافس على كمية الأكسجين الداخلة في التفاعل، فعندما تريد الخنافس إنتاج وميض طويل لفترة طويلة، فإن المخ يعطي تيارًا عصبيًّا إلى نهايات الجهاز التنفسي، لإنتاج كمية كبيرة من الأكسجين إلى داخل الخلايا الضوئية، وبالتالي يتم إنتاج كمية كبيرة من الضوء.
وبعد تحليل العلماء لهذا الضوء ومقارنته بمصباح أديسون، وجدوا ما أذهلهم؛ إذ وجدوا أن الضوء المنبعث من الخنافس عبارة عن 100% طاقة ضوئية، و0% حرارة، أما المصباح الكهربائي فهو يعطي 10% إضاءة فقط، و90% حرارة.
وقد ذكر العلماء أسبابًا عديدة لإضاءة هذا النوع من الحشرات منها: أنها تعيش في غابات كثيفة، وبعضها في أعماق البحار، وهي مناطق مظلمة تحتاج إلى إضاءة لجذب فرائسها من الحشرات الأخرى الصغيرة، والتي تنبهر بأضوائها فتقترب منها فيتم اصطيادها، أو لتخويف بعض الحيوانات والحشرات الأخرى التي تحاول افتراسها، فهي وسيلة للدفاع عن النفس.
وعليه، فإن صلابة الخنفساء الشيطانية، ملهمة لخبراء الهندسة. فعلى الرغم من افتقار هذه الحشرة إلى أدنى مظاهر الحسن الذي تتمتع ببعضه طائفة من أبناء عمومتها الأكثر لمعانًا، فإن الخنفساء المدرعة الشيطانية تمتلك هيكلاً خارجيًّا يشبه الحجر، حيث يزودها ذلك الهيكل الخارجي، بالصلابة التي تمكن هذا النوع من الخنافس من مقاومة الدعس بالسيارات أو السحق تحت الأقدام أو أن تكون لقمة سائغة للمفترسات. هذه الخنفساء “مدرعة أرضية”، فهي ليست خفيفة الوزن وسريعة، بل إنها تشبه إلى حد كبير دبابة صغيرة. وجدت الدراسة أن هذه التصميمات البديعة، توفر قوة معززة ومتانة متزايدة بشكل كبير، مقارنةً بالمفاصل الهندسية شائعة الاستخدام.
وقد جذب هذا التصميم الخارجي المتين اهتمام العلماء، رغبة منهم في معرفة الأسرار التي تجعله إحدى أقوى المواد الطبيعية الموجودة في العالم. ففي الدراسة التي نشرتها دورية “نيتشر” في أكتوبر 2020م، استخدم العلماء مجموعة من الأدوات لاكتشاف الخصائص الفيزيائية والميكانيكية التي تمنح الخنفساء الشيطانية تلك القدرات المذهلة.
وحديثًا، كشف علماء من جامعة كاليفورنيا-إرفاين وجامعة بيردو الأميركيتين، مدى قسوة هذا الدرع، إذ وجدوا أن هذه المدرعة الشيطانية يمكنها أن تبقى على قيد الحياة حتى وإن دهست بشيء يزن 39000 مرة من وزنها، أي ما يقرب من حمل كومة من 40 دبابة قتال، وذلك بفضل الروابط المعقدة بين أجزاء مختلفة من الهيكل الخارجي للحشرة، حتى السيارة لا تستطيع دهسها.

الاستفادة من الخنافس في المكافحة الحيوية

تعتبر حشرات خنافس “أبو العيد”، من أهم الحشرات الاقتصادية في برامج المكافحة الحيوية، حيث تقوم بافتراس الحشرات الضارة، مما جعل الباحثين يستخدمونها في برامج المكافحة الحيوية كأعداء طبيعية للحشرات الزراعية الضارة، وتُعد من البدائل الآمنة للمكافحة، إذ تُسهم في تقليل استخدام المبيدات الزراعية الضارة بالإنسان والبيئة، حيث إن 90% منها مفترسات للحشرات الضارة.
تُستخدم الخنافس ضد البيض واليرقات والحشرات المكتملة ذات الأجسام الصغيرة اللينة، مثل المن وبعض أنواع العث والعناكب. وللخنافس دور فعال في مكافحة الحشرات الضارة التي تعيش على الجهة السفلية من الأوراق والبراعم والجذوع الجديدة، حيث يكون الرذاذ والغبار غير فعالين بسبب صعوبة وصول هذه المبيدات إلى تلك الحشرات.
وتعتبر خنفساء “الكالوزوما” من أهم المفترسات الحشرية، التي تفترس عددًا كبيرًا من الآفات الضارة التي تصيب الأشجار والمحاصيل الحقلية. وهي من الخنافس الأرضية التي تستطيع ملاحقة الآفات الضارة فوق التربة وتحتها، مثل جادوب أعشاش الصنوبر، وديدان لوز القطن، ومعظم ديدان الثمار، لذلك تُسمى “صائدة اليرقات”.

محاكاة الخنفساء في التقاط الماء قد ينهي الجفاف

استطاع فريق من الباحثين كشف الآلية التي تستطيع من خلالها خنفساء صحراوية التقاط الماء من الهواء الجاف، في خطوة قد تساهم في توفير المياه النظيفة للمجتمعات التي تعاني من نقص في المياه.
حشرة بحجم التوت الأزرق وتعيش في بيئة صحراوية، هذه الخنفساء الفريدة من نوعها، قد تكون حلًّا لجمع المياه في الصحاري القاحلة، بعد أن استطاع فريق من الباحثين من جامعة أكرون الأمريكية دراسة آليتها الفريدة في حصد قطرات المياه.
وقد أعلن العلماء من خلال ورقة بحثية نُشرت في مجلة “ساينس”، أن الكشف عن سر هذه الآلية قد يساعد في توفير المياه النظيفة للمجتمعات التي تعاني من ندرة المياه. فقد طوَّرت خنافس الصحراء الناميبية طريقة مثيرة للتغلب على نقص المياه في الصحراء، حيث تشرب قطرات الماء المتكاثفة على ظهورها من خلال أبخرة الهواء. وعلى الرغم من أنها لا تبدو طريقة فعالة للغاية، إلا أن الخنفساء تنجح في الحصول على كمية الماء اللازمة لها. ويتضح أنها تفعل ذلك بفضل التصميم الخاص لسطح ظهرها، المُعد لإنتاج قطرات كبيرة من الماء بسرعة عالية، وهذا التصميم قد يُساعد في تطوير أنظمة فعالة لتكثيف المياه وسوائل أخرى.
فلسنوات عديدة، حاول العلماء تعلم أسرار هذه الحشرة، إلا أن فريقًا من الباحثين اكتسب الآن فقط، نظرة أعمق في كيفية عمل هذه التفاصيل “الوعرة” على جسدها في جمع المياه. وقد اختار “كيو تشول بارك” وغيره من الباحثين من جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية، طريقة أخرى من أجل تقليد ما أنتجته الطبيعة بالفعل. فقاموا بفحص الجزء الخلفي (الظهر) لخنفساء الصحراء، ولاحظوا أنه مغطى بنتوءات يبلغ قطرها حوالي مليمتر واحد. وفي مقال نُشر في مجلة “نيتشر”، أفاد “بارك” وزملاؤه بأنهم قاموا ببناء سطح مماثل من الألومنيوم، وأظهروا أن قطرات الماء التي تنشأ عليه تزداد بمعدل أسرع بست مرات من تلك التي على السطح الأملس، كما أن القطرات الناتجة على السطح ذي النتوءات تكون أكبر حجمًا.
ويرى الباحثون أنه إذا تمكنوا من محاكاة هذه الخصائص، فيمكن للمهندسين تصميم جهاز لجمع المياه يمكن استخدامه في خيام اللاجئين لالتقاط قطرات الماء من الهواء. وقد يتم تصنيع هذه المواد -أيضًا- في قنينة تستطيع إعادة ملء نفسها باستخدام الماء الموجود في الهواء.
في الختام
على الرغم من نفور الكثيرين من حشرة الخنفساء بما تثيره في نفوسهم من اشمئزاز وتقزز، إلا أن لها دورًا مفيدًا في حياة الإنسان. فهي تتغذى على النباتات الضارة والحشرات القشرية، كما تساعد في حماية الحقول الزراعية من الطفيليات والحشرات الضارة، دون الحاجة إلى استخدام المواد الكيميائية. وتلعب الخنافس الأرضية دور المطهر، حيث إنها تتغذى على الحشرات التي نرغب في التخلص منها، مثل اليسروع والحلزونيات.
كما تُستخدم الخنافس في الكشف عن الجرائم، إذ تتحلل على الجثث، مما يسمح للعلماء بتحليلها للكشف عن سبب الوفاة. إضافة إلى ذلك، تُساعد الخنافس في البحث عن الناجين في الكوارث، حيث استطاع العلماء تأهيلها للقيام بدور بطولي في البحث عن ناجين في المناطق الوعرة والمواقع الخطرة، مثل الزلازل المدمرة.
كما دخلت الخنافس في صناعة أجهزة التكييف نظرًا لقوتها الخارقة، فقد أكد علماء جنوب إفريقيا إمكانية الاعتماد عليها في هذا المجال. وتوصل الباحثون بالتعاون مع باحثين من السويد، إلى أن الخنافس تستطيع العمل في ظروف صعبة لا تستطيع غيرها من المفصليات العمل فيها، مما يجعلها مكيفًا طبيعيًّا فعالاً.
إضافة إلى ذلك، تعزز الخنافس نمو النبات، فقد أثبتت الدراسات أهمية خنفساء الروث البالغة للبيئة، حيث تعيد تدوير المغذيات مثل النيتروجين، مما يعود بالنفع على النباتات. كما تساعد في تهوية التربة ونشر البذور وإزالة الطفيليات.
على البشر -إذن- أن يتقبلوا التعايش مع هذه الحشرات المفيدة، التي تحافظ على صحتهم وتوازن البيئة، بدلاً من التقزز أو الاشمئزاز عند رؤيتها.

(*) استشاري طب وجراحة العيون / مصر.