الذكاء الاصطناعي: تطوراته وتطبيقاته المستقبلية

يُعد الذكاء الاصطناعي الركيزة الأساسية للثورة الصناعية الرابعة التي يعيشها العالم اليوم، والعمود الفقري لها، ونقطة التحول المهمة في هذا العصر. فقد تخطى العالم به عصر “تقنية المعلومات” التي يعتمد الإنسان فيها على الحاسوب في عملية جمع البيانات واسترجاعِها، في حين تتم عملية الاستدلال والاستنتاج واتخاذ القرارات -اعتمادًا على هذه البيانات- من جهة الإنسان نفسه، لا من جهة الحاسوب؛ ليتجاوز العالم اليوم هذه النقطة، وتصير الحواسيب هي التي توجِد الحلول وتتخذ القرارات بدلاً من الإنسان، بناءً على عدد من العمليات الاستدلالية المتنوعة التي تُغذَّى بها، حتى صارت الحواسيب قادرة على محاكاة السلوك البشري المتَّسم بالذكاء.

ففي مثال السيارة الذكيَّة (ذاتية القيادة): بدلاً من أن يستخدم الإنسان خرائط جوجل (Google Maps) والمعلومات التي يقدمها له الحاسوب؛ للاستدلال على الطرق أثناء قيادة سيارته، صارت السيارة ذاتية القيادة هي التي تقوم بهذا الأمر بدلاً منه؛ اعتمادًا على ما غُذِّيت به من معلومات وبيانات، وما زوِّدَت به من كاميرات ومستشعرات. وهذا ما نعني به الانتقال من عصر المعلومات (الثورة الثالثة) إلى عصر جديد تقوم فيه الآلة بما يقوم به الإنسان، وهو ما يُسمى بـ: “عصر الذكاء الاصطناعي”. ومن أجل ذلك عرَّف العلماء الذكاء الاصطناعي بأنه: “العلم المتعلِّق بصناعة الآلات وتصميم البرمجيات التي تقوم بأنشطة ومهام تتطلب ذكاء إذا قام بها الإنسان”، أو أنه: “العلم الذي يهدف إلى صناعة آلات وتطوير حواسيب وبرمجيات تكتسب صفة الذكاء، ويكون لها القدرة على القيام بمهام ما زالت إلى عهدٍ قريب حكرًا على الإنسان”.

وحتى يقوم باحث الذكاء الاصطناعي بتصميم برمجيَّة ذكيَّة تحلُّ محلَّ الإنسان في مهمة أو نشاط ما، كالانتقال من مكان إلى مكان -كما في مثال السيارة ذاتية القيادة- أو حلِّ لغز أو الإجابة على مسألة رياضية معقدة، أو تشخيصٍ طبي لمرض من الأمراض، أو حراسة أمنيَّة كما في روبوتات الحراسة، أو حتى كتابةِ مقالٍ صحفيٍّ، ونظمِ قصيدة شعرية… أو أي نشاطٍ آخر -وجميعها نشاطاتٌ تقومُ بها الآلات والروبوتات اليوم-، لكي يقوم باحث الذكاء الاصطناعي بذلك، عليه أن يقوم بدراسة العمليات الذهنية والحركية والحسية التي يقوم بها الإنسان عادة لأداء هذه المهمة، ووضعِ الفروضِ عما يستخدمه الإنسان للقيام بهذا النشاط من معلومات واستدلالات، ويقوم بإدخالها في برنامجٍ للحاسب الآلي، تزوَّد به الآلة المصممة؛ لتقوم بأداء هذا النشاط بدلاً من الإنسان. ولا تكون الآلة ذكية -وكذا لا يكون التطبيق أو البرنامج ذكيًّا- إلا إذا كان مزوَّدًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تجعله قادرًا على الاستقلالية في اتخاذ القرار دون اعتماد مباشر على الإنسان، وإلا فما الفرق بين السيارة التقليدية والسيارة ذاتية القيادة؟!.. وهكذا جميع الآلات الذكية؛ إذ لا تتسم أية آلة أو برمجية بالذكاء الاصطناعي إلا إذا كانت قادرة على التعلُّم الذاتي، وجمع البيانات وتحليلها، واتخاذ قرارات بناءً على عملية التحليل بصورة تحاكي طريقة تفكير البشر.

فثمَّة ثلاث صفات أساسية لا بد من توافرها في الآلة أو البرمجية الذكية، وهي:
أولاً: القدرة على التعلُّم التلقائي أو التعلم الآلي، وذلك بالاستفادة من التجارب والبيانات، واكتساب المعلومات الجديدة، ووضع قواعد لاستخدام هذه المعلومات.
ثانيًا: جمع البيانات والمعلومات، وتحليلها، وخلق علاقات فيما بينها؛ للاستفادة منها استفادة صحيحة.
ثالثًا: اتخاذ قرارات بناءً على عملية تحليل البيانات السابقة.

بهذه الصفات المذكورةِ تصير الآلة أو البرمجية ذكية وقادرة على القيام تلقائيًّا بسلوك غير مبرمج مسبقًا، وتستطيع من تلقاء نفسها أخْذ القرار للتكيُّف مع حالتها وحالة البيئة المحيطة بها، إما باستقلالية تامة عن الإنسان، أو باستقلالية جزئية خاضعة لتحكُّم الإنسان. 

الأنواع ومراحل التطور

كان الذكاء الاصطناعي في بدايته يهدف إلى تقليد الذكاء البشري وفهم قدرته على الإدراك ومعالجة المعلومات واتخاذ القرارات، ومحاولة محاكاة ذلك من خلال أنظمة الحاسوب وبرامجه. لكنَّ الأمر تطوَّر بعد ذلك، وتجاوز طموح العلماء فكرة المحاكاة، ففكَّروا في إنتاج ذكاء اصطناعي يضاهي ذكاء البشر في كل المجالات. فطمحوا إلى تصميمِ آلات وبرمجيات تستقل ذاتيًّا في جمع المعلومات عن طريق التفاعل مع العالم المادي المحيط بها، والإدراك الكامل لما فيه من نصوص مكتوبة، سواء أكانت في المجلات أو الكتب أو في شبكة الإنترنت، والقدرة على فهم وتوصيف المرئيَّات المعروضة في وسائل الإعلام بأشكالها، مما يتيح لهذه الآلات القدرة على التعلم الذاتي، وتطوير ذاتها بعيدًا عن تحكم الإنسان، ومن ثم الاستقلالية الكاملة في التصرفات واتخاذ القرارات.

فبات الأمر يتعلق بالتفكير في تصميم آلات وروبوتات كأنها كائنات جديدة ستشاركنا العيش على هذا الكوكب، الأمر الذي لا يمكن معه أن نعد الذكاء الاصطناعي كله على درجة واحدة من حيث قوة مشاريعه وتفوق أبحاثه وتطبيقاته. ومن أجل ذلك قسَّم العلماء الذكاء الاصطناعي بحسب قوته وخطورته إلى أنواع ثلاثة:

النوع الأول: الذكاء الاصطناعي المحدود
وهو أبسط أشكال الذكاء الاصطناعي، وهو الذكاء الاصطناعي المنتشر اليوم والموجود حاليًا على نطاق واسع. ويهدف إلى تصميم آلات وبرمجيات ذكية تحاكي العقل البشري في أداء مهمة واحدة من مهامه، وفق برمجيات مسبقة، لا يمكن لها أن تحيد عنها بأي حال من الأحوال، لأن تصرفاتها ردود أفعال على مواقف معينة تم برمجتها عليها مسبقًا. ومن أجل ذلك سميت هذه الأنظمة “الذكاء الاصطناعي المحدود أو الضعيف”، لأنها أنظمة لا تمتلك ذكاء عامًا، وإنما تمتلك ذكاءً محددًا يحاكي الذكاء البشري في منطقة محددة، ولا يمكن لها أن تقوم بمهمتها إذا تجاوزت منطقتها، أو خرجت عن القواعد التي فرضت عليها.

ومن أمثلته: الروبوتات الصناعية المبرمجة على العمل في المصانع لأداء مهام محددة ومعينة، وأجهزة الصراف الآلي (ATMs) التي تعمل وفق نظم ذكية محددة، ومثل برمجيات الكلام التلقائي، وبرمجيات التعرف على الصور، ومثل الروبوت “ديب بلو” (Deep Blue) الذي صممته شركة IBM -وهي شركة متخصصة في صناعة الحواسيب والبرمجيات وتطويرها- والتي صممت هذا الحاسوب من أجل التفوق في لعبة الشطرنج، حتى تم بالفعل في سنة 1997م هزيمة بطل العالم في هذه اللعبة.

ومن أمثلته الشائعة في حياتنا اليومية أيضًا: ترشيحات الأخبار المفضلة التي تظهر للمستخدمين على مواقع الإنترنت المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي، بمجرد البحث عن خبر مشابه أو قراءته، وكذا ترشيحات الإعلانات التسويقية للبضائع والمنتجات التي نحتاجها بالفعل ونتفاجأ بعرضها لنا يوميًّا على حساباتنا الشخصية على المواقع والشبكات، مع أننا لم نقم بالبحث عنها. لكن الذكاء الاصطناعي هنا يجمع البيانات والمعلومات عن جميع تصرفاتنا واهتماماتنا على شبكة الإنترنت دون أن نشعر، ويتعلم منها تعلمًا آليًّا يدفعه إلى عرض تلك المنتجات لنا، وكلما زاد حجم البيانات التي يتم جمعها عن المستخدم كانت النتائج أدق والترشيحات أفضل.

وشبيه بذلك أيضًا ترشيحات الأصدقاء على الفيس بوك (Facebook) وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، فجميعها أنظمة وبرمجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي المحدود. 

وهذا ما دفع المتخصصين إلى التفكير في عدم الاكتفاء بهذا النوع من الذكاء المحدود، والانتقال من فكرة محاكاة الذكاء الإنساني في مجالات محدودة، إلى فكرة غرس الذكاء البشري بجميع أشكاله وبكل مجالاته في الآلات والروبوتات؛ لجعلها قادرة على التعلم الذاتي، ومستقلة عن الإنسان في قراراتها، الأمر الذي أدى إلى ظهور أنواع متقدمة من الذكاء الاصطناعي، نتعرف عليها في الأقسام التالية.

النوع الثاني: الذكاء الاصطناعي العام أو القوي
الذكاء الاصطناعي العام أو القوي هو مصطلح يستخدم لوصف عملية تطوير الذكاء الاصطناعي إلى الدرجة التي تكون فيها الآلة مساوية فكريًّا ووظيفيًّا للإنسان. فهو ذكاء اصطناعي يهدف إلى تصميم آلات وبرمجيات لا تحتاج إلى مثل هذه الإرشادات الواضحة والقواعد المفروضة في أدوات الذكاء الاصطناعي المحدود، بل يمكنها العمل استنادًا إلى رؤى تكتسبها بذاتها من البيانات والخبرات والتجارب، حيث تكون قادرة على الاستقلال في جمع المعلومات وتحليلها، وتحقيق تراكم خبرات من المواقف التي تكتسبها، يؤهلها لاتخاذ قرارات ذاتية ومستقلة عن الإنسان. فإذا كانت أدوات الذكاء الاصطناعي المحدود تعمل تحت سيطرة الإنسان، فالأمر على النقيض تمامًا في أدوات الذكاء الاصطناعي العام أو القوي، فإنها تعمل باستقلالية تامة عن سيطرة الإنسان، وتتخذ قراراتها بذاتها، بناءً على تحليلاتها الذاتية للبيانات والخبرات التي تكتسبها.

هذا النوع من الذكاء أصبح واقعًا، غير أنه لم يحظ بالانتشار الواسع إلى الآن مثلما حظيت به أدوات الذكاء الاصطناعي المحدود. ومن أمثلته الآن: الروبوتات الطبية المستخدمة في التشخيص الطبي، كتلك الآلات الذكية التي تقوم اليوم بتشخيص الأورام، كالأورام الجلدية وغيرها، اعتمادًا على تقنيات التعرف على الصور الفوتوغرافية للشامات الجلدية المختلفة، وتعطي في ذلك نتائج دقيقة تفوق تشخيصات كثير من الأطباء المتخصصين. وكذا الروبوتات المستخدمة في الطب الإشعاعي، والطب الجراحي، وكذا المركبات المستقلة ذاتية القيادة، والطائرات بدون طيار، ومشروع التاكسي الطائر، وأنظمة الدفاع العسكري، والروبوتات العسكرية والأمنية، وروبوتات الدردشة وخدمة العملاء، والروبوتات المختصة بكتابة أنواع معينة من التقارير الإخبارية، وغير ذلك من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تعمل باستقلالية تامة في اتخاذ القرارات بعيدًا عن سيطرة الإنسان، والتي تستطيع بسرعة فائقة أن تستجيب للمنبهات والمستشعرات، وأن تعدل سلوكها وتتكيف مع محيطها على غرار الإنسان وغيره من الكائنات الحية.

النوع الثالث: الذكاء الاصطناعي الفائق
يعد الذكاء الاصطناعي الفائق من أخطر أنواع الذكاء الاصطناعي التي يطمح العلماء إلى الوصول إليها في المستقبل، والتي لا تزال أبحاثهم فيه إلى الآن تحت التجربة، ولم يزل هذا النوع ضربًا من الخيال العلمي حتى اليوم. ويهدف هذا النوع من الذكاء إلى تطبيق مجالات الذكاء الإنساني كلها بعمقها وتعقيدها على الآلات والماكينات؛ لتصميم آلات تفوق مخ الإنسان وقدراته البيولوجية، وتتفوق عليه في الذكاء والدقة والسرعة والأداء.

وقد تزايدت بحوث العلماء في هذا الاتجاه بعد التقدم العلمي الهائل في مجال الهندسة الوراثية، والثورة التكنولوجية التي حدثت في مجالي التكنولوجيا الحيوية (Biotechnology) والتكنولوجيا النانوية (النانوتكنولوجي) (Nanotechnology)، حيث يعمل العلماء منذ سنوات على إجراء هندسة عكسية ومسح شامل للمخ البشري باستخدام بلايين الماسحات أو النانويات متناهية الصغر التي تستطيع أن تتجول داخل الشعيرات الدموية لتمسح المخ البشري من الداخل، من أجل فك شفرة المخ، وفهم الدماغ البشري وطريقة عمله بما يحويه من خلايا عصبية، مثلما فعلوا في مشروع الجينوم البشري.

ويرى العلماء أن ذلك الطموح ليس بعيدًا؛ لأن بعضه موجود بالفعل. ومن أمثلته: آلات ذكية مزروعة داخل العقل البشري عن طريق زراعة الأعصاب. فقد اخترع الطبيب الفرنسي الجزائري الأصل “عليم لويس بن عبيد” (Alim Louis Benabid) (المولود سنة 1942م) علاجًا لمرض الشلل الرعاش، يتمثل في استبدال الخلايا البيولوجية المدمرة في المخ بوسائط اصطناعية غير بيولوجية. وقد استطاع أن يقدم عرضًا لحالة يسيطر فيها على الخلايا المزروعة من خلال جهاز تحكم عن بُعد، وعندما يطفئ الجهاز يتصلب المريض، وعندما يقوم بتشغيله يعود المريض للنشاط الطبيعي مرة أخرى. هذا الأمر جعل العلماء يتوقعون أن العمليات الطبية التي تعتمد على تقنية النانو ستتمكن في السنوات القادمة من استهداف الأمراض والجينات، وتعويض الأعضاء والخلايا الواهنة منها والمريضة بأجهزة اصطناعية بديلة تؤدي عمل الأجهزة البيولوجية بالدقة والكفاءة نفسها.

ومن ثم توقعوا في المستقبل حصول الزيادة في متوسط عمر الإنسان بفضل هذه الأعضاء الإلكترونية (bionic organs) والروبوتات النانوية (Nanobots) التي سيتم استخدامها داخل جسم الإنسان ككشافة عن الأعضاء والخلايا المريضة، وبناء أعضاء إلكترونية بديلة. بل إن تفكيرهم تجاوز حدود المرضى من البشر إلى الأصحاء منهم، ففكروا في التهجين بين الإنسان والآلة، والمزاوجة بين الذكاء البيولوجي (الطبيعي) والذكاء الاصطناعي، أو بين التكنولوجي والبيولوجي؛ من خلال زراعة شرائح ذكية نانوية (متناهية الصغر) داخل المخ البشري؛ لربطه بالسحابة الإلكترونية وبشبكات الإنترنت؛ لرفع مستوى الذكاء والأداء البشري إلى مستويات خارقة.

يتوقع بعض العلماء العاملين في المجال أنه بحلول عام 2030م سيكون بمقدورهم إرسال بلايين النانويات داخل المخ البشري لتتصل لاسلكيًّا مع بلايين النقاط المختلفة في المخ، بهدف ربط الذكاء البيولوجي بالذكاء الاصطناعي غير البيولوجي، وأنه سيكون بمقدورهم إنتاج كيانات كاملة غير بيولوجية تحمل نسخًا من المخ البشري منتجة عن طريق الهندسة العكسية. وأنه سيكون بمقدورهم تهجين بشر بيولوجيين يحملون في رؤوسهم بليونات من النانويات لرفع مستوى ذكائهم وأدائهم. ومع أن هذا كله يبقى حبيس التوقع، إلا أن الأيام القادمة والعصر القريب سيبرهن على مدى تحقق ذلك من عدمه.

الأمر الذي يدفعني بشدة من خلال هذا المقال إلى المناداة بضرورة وضع مجموعة من المواثيق الدولية والقوانين الأخلاقية الحاكمة لمشاريع الذكاء الاصطناعي وتطوراته، يتفق العالم عليها ويحتكم إليها في تطوير هذه الأبحاث، مثلما اتفقوا من قبل على “أخلاقيات البيولوجيا والهندسة الوراثية”، حتى نضمن أن يعمل الذكاء الاصطناعي في المستقبل لصالح الإنسانية لا ضد البشرية.