التغير المناخي وأثره على الأمن المائي والغذائي

في عالم اليوم، تواجه البشرية تحديات عظيمة تهدد أمنها وحياتها، ومن أبرزها التغير المناخي، الذي أصبح واقعًا ملموسًا يؤثر على كل جوانب الحياة. في الدول الإسلامية، حيث تتسم الطبيعة الجغرافية بالجفاف وقلة الموارد المائية أصلاً، يشكّل هذا التغير تهديدًا مضاعفًا يطال الأمن المائي والغذائي، وهما ركيزتان أساسيتان لاستمرار الحياة. قال تعالى في كتابه العزيز: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ”(الأنبياء: 30)، فالماء هو أصل الحياة، ومنه تنبثق الزراعة والغذاء. وفي هذا المقال، نستعرض آثار التغير المناخي على الأمن المائي والغذائي في بعض دول العالم الإسلامي، مع إلقاء الضوء على الرؤية الإسلامية التي تحث على المحافظة على هذه النعم وحسن إدارتها.

التغير المناخي: مفهومه وأسبابه

التغير المناخي هو التحولات طويلة الأمد في أنماط الطقس والمناخ على سطح الأرض، والتي أصبحت في عصرنا الحديث نتيجة مباشرة للنشاط البشري. إذ أدى ارتفاع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، الناتجة عن الصناعات، وحرق الوقود الأحفوري، وإزالة الغابات، إلى ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وتغير أنماط هطول الأمطار، وتفاقم الجفاف والتصحر.

في المنطقة العربية، التي تعاني أصلاً من شح الموارد المائية، إذ لا تتجاوز حصتها 1% من المياه العذبة العالمية بينما تستضيف نحو 5% من سكان العالم، فإن هذه التغيرات تضاعف من المعاناة.

لكن دعونا نتأمل، أليس هذا التغير تذكيرًا بقدرة الله تعالى وعظمته؟ قال سبحانه: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”(الروم: 41). إن ما نراه من تغيرات مناخية هو نتاج عبث الإنسان بالأرض، وهو دعوة للتوبة والعودة إلى منهج الله في استصلاح الأرض بدلًا من إفسادها.

الأمن المائي تحت وطأة التغير المناخي

الأمن المائي يعني توفر المياه العذبة الكافية لتلبية احتياجات الشرب والزراعة والصناعة. في الدول العربية، تعتمد العديد من الدول على مصادر مائية محدودة، مثل الأنهار (كالنيل ودجلة والفرات) أو المياه الجوفية التي تتآكل بسرعة. ومع التغير المناخي، تنخفض كميات الأمطار، وترتفع معدلات التبخر، مما يؤدي إلى نضوب الخزانات الجوفية وتدهور الأراضي الزراعية.

  • في مصر، يهدد ارتفاع منسوب مياه البحر الأبيض المتوسط، جراء ذوبان الجليد القطبي، دلتا النيل، وهي المنطقة الأكثر خصوبة التي تؤمن الغذاء لملايين المصريين.
  • في العراق وسوريا، تتأثر مياه دجلة والفرات بقلة الأمطار وسوء إدارة الموارد بين الدول المشتركة فيها.
  • أما في دول الخليج، فإن الاعتماد الكبير على تحلية المياه يجعلها عرضة لارتفاع تكاليف الطاقة وتدهور البيئة البحرية.
  • في المغرب، تعاني البلاد من موجات جفاف متكررة أثرت على السدود، مما قلل من إنتاج القمح والشعير، وهما محاصيل أساسية للغذاء. يمكن ربط ذلك بدعوة إسلامية لإعادة إحياء تقنيات الري التقليدية، مثل “القنوات”، التي استخدمها المسلمون قديمًا.
  • في الأردن، الذي يعدّ من أفقر دول العالم مائيًّا، يعتمد على نهر الأردن الذي يتقلص بسبب التغيرات المناخية والاستخدام المفرط. ومن الممكن إضافة الحث الديني على التكافل بين الدول المشتركة في الأنهار.
  • أما تونس، فتواجه تحديات في الزراعة بسبب التصحر، ويمكن الإشارة إلى أهمية مشاريع تشجير الأراضي كعبادة مستمدة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن زراعة الأشجار.

من منظور ديني، فإن الماء نعمة إلهية يجب شكرها والمحافظة عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا إسراف في الوضوء ولو كنت على نهر جار” (رواه ابن ماجه). هذا الحديث يعلمنا أن الاعتدال في استخدام الماء واجب حتى في أوقات الوفرة، فكيف في زمن الشح؟ إن الإسلام يدعو إلى إدارة الموارد بحكمة، ويدعو الأمة إلى التعاون في حماية هذه النعمة بدلًا من التنازع عليها.

الأمن الغذائي: تحديات متفاقمة

الأمن الغذائي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن المائي، فبدون ماء لا زراعة، وبدون زراعة لا غذاء. التغير المناخي في الدول العربية يؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة ملوحة التربة.

  • في السودان، المعروف بسلة غذاء العالم العربي، تتسبب موجات الجفاف في تدهور المحاصيل الأساسية كالذرة والقمح.
  • في اليمن والصومال، تزيد موجات الجفاف والفيضانات المتناوبة من معاناة السكان وتهدد بمجاعات واسعة.

إن الإسلام ينظر إلى الغذاء كنعمة عظيمة تستوجب الحفاظ عليها. قال تعالى: “كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”(البقرة: 60). هذه الآية تحث على الاستمتاع بنعم الله دون إفساد الأرض التي هي مصدر هذا الرزق.

لكن عندما نرى الإسراف في استهلاك الموارد، والتلوث الناتج عن الصناعات غير المستدامة، ألا يعد ذلك نوعًا من العثو في الأرض؟ إن التغير المناخي يذكرنا بضرورة العودة إلى الزراعة المستدامة، التي كان يمارسها أسلافنا، والتي كانت تحترم توازن الطبيعة.

التأثير الاجتماعي والاقتصادي على الأمة

لا شك أن للتغير المناخي تأثيرًا كبيرًا على المجتمعات، ومن أبرز آثاره:

الهجرة الداخلية

يضطر الفلاحون إلى ترك أراضيهم بسبب الجفاف، مما يؤدي إلى اكتظاظ المدن وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وهنا تبرز أهمية التكافل الاجتماعي ومساعدة المهجّرين كجزء من الواجب الإسلامي، حيث يُحثّ المسلمون على دعم المحتاجين والتعاون في أوقات الأزمات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).

ارتفاع الأسعار

يؤدي نقص الغذاء إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، مما يؤثر بشكل مباشر على الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع. وقد حذّر الإسلام من الاحتكار في أوقات الأزمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه” (رواه أحمد). فالمضاربة في قوت الناس تزيد من معاناتهم، وتتنافى مع مبادئ العدل والرحمة التي يدعو إليها الإسلام.

البعد التاريخي الإسلامي في إدارة الموارد والتحديات البيئية

لقد كان للمسلمين في عصورهم الذهبية دور رائد في إدارة الموارد الطبيعية بطرق تجمع بين العلم والإيمان، حيث استنبطوا من تعاليم الإسلام منهجًا فريدًا للاستدامة البيئية.

  • في الأندلس، طوّر المسلمون أنظمة ريّ متقدمة، مثل القنوات والنواعير، التي حوّلت الأراضي القاحلة إلى مساحات خضراء زراعية، مستلهمين قول الله تعالى: “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ”(لقمان: 10).
  • في المدينة المنورة، طبّق النبي صلى الله عليه وسلم نظام الحِمى لحماية المراعي، موازنًا بين احتياجات الإنسان وحقوق البيئة.
  • في العراق، أسهمت السدود والقنوات في ازدهار الزراعة حتى في مناطق شبه قاحلة، مما يعزز فكرة أن الإسلام دين علم وعمل.
  • في فترات المجاعة، كان توزيع الزكاة والصدقات آلية لضمان الأمن الغذائي، حيث قال تعالى: “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”(الذاريات: 19).

هذه النماذج تذكرنا بأن مواجهة التغير المناخي لا تتطلب فقط تقنيات حديثة، بل تستلزم العودة إلى الحكمة الإسلامية في استدامة الموارد.

اليوم، يمكن للدول العربية أن تستلهم هذا الإرث بإحياء الزراعة المستدامة وتشجيع المبادرات المجتمعية، مثل زراعة الأشجار، التي تعد صدقة جارية. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها” (رواه أحمد). ففي هذا الحديث دعوة للأمل والعمل حتى في أحلك الظروف.

الحلول من منظور علمي وإسلامي

إن مواجهة هذه التحديات تتطلب حلولاً علمية وعملية مدعومة برؤية دينية تحفّز الأمة على العمل.

من الناحية العلمية

  • الاستثمار في تقنيات الري الحديثة مثل الري بالتنقيط لتوفير المياه.
  • تطوير محاصيل زراعية مقاومة للجفاف لضمان الأمن الغذائي.
  • تعزيز مشاريع تحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية المتوفرة بكثرة في المنطقة العربية.
  • التعاون الإقليمي في إدارة الموارد المائية المشتركة لتحقيق العدالة والاستدامة.

من الناحية الدينية

  • يدعو الإسلام إلى إحياء سنة استصلاح الأرض وحمايتها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة” (رواه البخاري). فهذا الحديث يشجع على الزراعة كعبادة، ويدعو إلى نشر الخير في الأرض.
  • كما يحث الإسلام على الاعتدال في الاستهلاك، والتكافل بين أفراد المجتمع لمواجهة الأزمات، إذ يصبح إطعام الجائع ومساعدة المحتاج من أعظم القربات، خاصة في أوقات الجفاف والمجاعة.

دور المؤسسات الدينية في التوعية

للمؤسسات الدينية دور محوري في نشر الوعي حول التغير المناخي، وذلك من خلال:

  • الخطب الجمعية، التي تتناول أهمية المحافظة على البيئة كجزء من الأمانة التي كلفنا الله بها.
  • إصدار فتاوى تشجع على استخدام الطاقة النظيفة، وتُدين الإسراف في الموارد.
  • تنظيم حملات مجتمعية تحت شعارات دينية مثل “استصلاح الأرض عبادة”، بهدف زراعة الأشجار وترشيد استهلاك المياه.

الخاتمة

إن التغير المناخي ليس مجرد أزمة بيئية، بل هو اختبار إلهي يذكّرنا بمسؤوليتنا تجاه الأرض التي استُخلفنا فيها. قال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ”(سورة الأنعام: 165).

في الدول العربية، حيث يزداد خطر التغير المناخي على الأمن المائي والغذائي، يجب أن نستلهم من تعاليم ديننا الحنيف لنعمل معًا على حماية هذه النعم. فلنجعل من أزمتنا فرصةً للعودة إلى الله، ولنحيي الأرض كما أمرنا، ونتعاون كأمة واحدة لضمان استدامة الحياة لأجيالنا القادمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.