كزهرة برية نبتت وسط أفرشة مشتاقة لميلادها.. ستوزع بسماتها الصباحية والمسائية كما توزع الحلوى على الفائزين، لقد ولدت لوالدين منسجمين انسجام الأشياء مع ظلالها وانسجام طائرين في عش فوق فنن بعيد عن الأيدي والأنظار، في قلب هذا الفضاء ستجد رعايتها التامة، ستلهو بدماها وتقفز بين أشجار وأزهار الحديقة، ستجري بساحة المنزل وطرقات الحي الذي تقطنه.. ستعيش فرحة مرحة، تحلم بلا حدود، تتصرف ببراءة وعفوية وصدق، لا تعرف الخداع، ولا تضمر بغضًا لأحد، فلا مكان للحقد في قلبها.
رويدًا رويدًا ستنمو ليتقدم بها الربيع كي تنضج في الصيف، وتنتظر الرحيل إلى عش آخر، ترى هل سيحمل ذات الدفء الذي وجدته سلفا؟ ترى هل ستجد وجوهًا تبادلها ذات البسمات وطيب الكلمات؟
تتذكر الآن وقد تقوس ظهرها، وانطفأ نور وجنتيها وجبهتها يوم جاءها الفارس على جواد ينضح شهامة وجمالاً والعين لا تشك في مروءته حتى ولو لم تختبره، لكن جدها الطاعن في السن قال لها يومًا “ليس كل ما يلمع ذهبًا” البصاق يلمع، والزجاج المكسور يلمع، والنار الحارقة تلمع، وقد يلمع الماء العكر.. لم تفهم قصده كثيرًا لكنها تعرف أن الزمن كفيل بتوضيح الغامض، الأمور العميقة في الغالب لا تفهم في حاضرها، يلزمها التريث وطول الزمن.
طلبها الفارس، ولم تجد من أبويها رفضًا، لقد وافقا قلبها الذي مال إليه من أول نظرة، وأول بسمة وأول كلمة.. دخل الناس، رقصوا، تبادلوا التهاني، شربوا العسل والشاي وعصير العنب، ثملوا، وبعد الليل، جاء الصباح جريدة تروي خبر العرس الجميل المبهر، ما زال الصغار والكبار يرددون بعض أغانيه.
هذه هي رقية، غادرت عشها الذي لم يعد يتحفها وقد تغيرت تضاريس جسدها لتعيش هناك، في هذا الصرح المضاء ليل نهار، حشم وخدم، وسيارتان فارهتان متقابلتان بوضعية فنية وسط ساحة محفوفة بأشجار الورد والياسمين.
هذه جنة فوق الأرض قبل يوم العرض أأنا أحلم أم أنا جاهلة لهذا العالم الذي أراه أمامي اليوم؟ واصلت مخاطبتها لنفسها:
هنا ستعيشين يا رقية بعيدًا عن عشكِ الأول، عش بسيط ملتحم بتضاريس المكان، عش بسيط بساطة أبيك وأمك، بسيط لأن الضرورة وحدها هي التي صنعته.. ستعيشين أميرة آمرة، محاطة بالخدم، تكفيك الإشارة وتتحقق رغباتك، ستنسين خبز وشاي وقهوة أمك.. ستنسين خوار البقرة وثغاء الشياه.. ستعيشين وسط أحلى ألحان العرب والعجم.
عاشت رقية هذا النمط الفريد الذي لا يتحقق سوى في الأحلام مدة شهر فقط.. وكأن عاصفة جاءت فجأة فقلبت المشهد، هدمت الخيام وقلعت الأشجار وأسكتت الأطيار.
صار الفارس يبتعد عنها، لم تعد وردته الفضلى.. لم تعد كلماته عطرة موزونة، لم يعد يلقبها بزهرة صرحه الفاخر الفسيح.
لقد وجد في حديقة أخرى زهرة أخرى، قال له قلبه: هذه هي الأجمل، هي الأنقى، تتحدى حسناوات كل الحدائق.. انظر إليها ستسعد فورًا وتشعر بميلادك الجديد.
صارت رقية تذبل رويدًا رويدًا، تحاول أن تنسى أو تتناسى على الأقل لكن العجز يطبق على ذاكرتها وقلبها، تناديه فيسمعها لكنه لا يسمعها، تبتسم في وجهه لكنه يظل ساكنًا جامد الملامح.. يلتهمها الفراغ شيئًا فشيئًا، فبِمَ ستملأ سعته الهائلة؟
في غيابه تنتابها الشكوك والأفكار السوداوية، تسأل نفسها: من يشك في صفائي ونقائي؟ ما إجرامي حتى أذوق مرارة هذا الإهمال؟ الشحوب يسري على بشرتي، حُسْني وجمالي تغطيه سُحب الكآبة، وجسدي تخترقه أسارير الهزال.. يداي ذابلتان تخترقهما أسارير الهزال.
آه.. ما أقسى أن يفتح أمامك الباب على مصراعيه لا لتدخل، بل لتخرج تجر ذيول الذل والخذلان، بعد ترحاب محفوف بالورود والأنوار.
لم يفاجئها الأمر، لقد قرأت رسائل مخبأة في دولابه، رأت صور كل ضحاياه، عرفت أنها ليست النادرة أو الوحيدة، بل رقم آخر ينضاف إلى الأرقام السابقة.
ستعود رقية إلى فضاء البساطة، تستعيد عطر الحقول وأناشيد الطيور، وشذى الزهور، قبلت رأس أمها وأبيها، احتضنتهما واحتضناها، بكى الجميع وضحك الجميع.
ستنهض بعد ذلك لتتصالح مع جدران منزل أبيها البسيط، ومع الورود المسيجة للبستان المحاذي لمسكنها، أطلت على الدواجن، ثم نظرت إلى السماء الصافية الزرقاء فتذكرت ثراء البساطة، وعمى البصيرة، وويلات الجري وراء السراب.
تحت شجرة الرمان، ستستعيد قول جدها “ليس كل ما يلمع ذهبا “.. كانت تترحم عليه مستحضرة وجهه الذي يجلله الوقار وأنوار الحكمة.
عاشت رقية سنوات وقد تزوجت من جديد، لم يكن زوجها ثريًّا جاءها على سرج حصان، ولم يأتها محروسًا يحمل هدايا من ذهب وألماس ناطقًا بكلمات معسولة صيغت له من قبل أديب حصيف.. جاءها راجلاً يرتدي لباس الفلاحين، يحمل قفة بها لوز وجوز وتمر وحناء.. قرع الباب ورحب به وأفصح عن طلبه دون تنميق ولا تصنع.
صارت رقية زوجته الوفية وهو الوفي المعروف من قبل الصغار والكبار، لا يعرف المراوغات ولا خداع الكلمات، ولا يرى سوى في مسجد يصلي أو في حقل يزرع أو يسقي أو يحصد، أو في سوق يبيع أو يشتري. أما رقية فقد صارت أم أولاده الثلاثة محمد وسعيد وجمال، ترعاهم وتربيهم على الصدق والقناعة والوفاء، وبين الحين والحين تنهاهم عن الاغترار بالمظاهر، فالكتاب لا يعرف من غلافه أو عنوانه، فكم من عنوان مضلل يحيل على الترياق وهو سم زعاف في حقيقته، وكم من دفتي كتاب مذهبتين براقتين تضمان مضامين تدفع نحو أوحال الضلالة والبوار في العاجلة والآجلة.
عاشت رقية وزوجها وأبناؤها حياة ملؤها الحب الصادق، والورع بكل أبعاده، صارت المثل الأعلى للأخريات، يقتدين بها في خصالها وفي وفائها الفريد لزوجها وتربية أبنائها.