تواصل الطيور المهاجرة طيرانها ليل نهار.. ففي أواخر الصيف يغادر “الزقزاق الذهبي” منطقة “ألاسكا” إلى مهجره الشتوي الدافئ في جزر “هاواي”، فيطير نحو ألفي ميل بدقة ملاحية وتكيف معرفي، عابرًا المحيط الهادئ، لا يضل وجهته أبدًا. وفي أقصى شمال أوروبا وأمريكا تتكاثر “خرشَنة القطب الشمالي”، لكنها تهاجر في الخريف جنوبًا إلى أستراليا وإفريقيا، لتبقى حتى فبراير-أبريل، ثم تعود أدراجها شمالاً في رحلة فريدة تبلغ نحو ٣٥,٥٠٠ كم/عام.
ولأسابيع متصلة لا تنام الطيور المهاجرة، والحيتان القاتلة (حديثة الولادة)، والدلافين قارورية الأنف، وقد تكون في وضع الغفوة.. وعندما تصل إلى وجهتها وتنمو صغار الحيتان والدلافين قليلاً، تعود بساعاتها المعلقة إلى البرمجة المنتظمة، فضلاً عن حيتان وقروش وسلاحف الماء، التي لا تهتدي بالشمس ولا بالنجوم في ظلمات البحار.
فمع اتجاه الشمس وأشعتها تضبط مخلوقات مهاجرة ساعتَها الداخلية مع بوصلتها الشمسية، فتستشعر -بدقة- وقتها من اليوم، ووقت تنقلها بين موقع وآخر، ولكن المهاجرة ليلاً -حيث المفترسات قليلة- تُفعِّل بوصلتها النجمية؛ فتستطيع الطيور تمييز الاتجاهات، كما يجد الحمام والعصفور الدوري طريقه حتى بعد انحرافه عن مساره الطبيعي، مع أن مواقع الشمس والنجوم ليست ثابتة. ففي تجربة، تم إمساك طيور مهاجرة إلى الجنوب ليلاً، ونقلت إلى قبة سماوية، ولما عرض النمط النجمي للسماء المحلية على سقف القبة (وفي تجربة أخرى أضيئت مصابيح اصطناعية كضوء الشمس)، تجمعت الطيور عند الجدار الجنوبي، لرغبتها في مواصلة هجرتها جنوبًا.. ومع تدوير النموذج ١٨٠ درجة توافدت للجدار الشمالي، مما يشي بتحديدها الاتجاه عبر النجوم أو الشمس، وأنها ورثت برنامجًا دقيقًا للتوقيت الزمني وللوجهات المكانية.
ويرتحل السلمون الأحمر، والأنقليس، والتونة، والسردين، والسلاحف البحرية، من أجل التكاثر؛ فكل أربع سنوات -بمنتصف شهر أكتوبر- يشهد نهر “أدامز” (كولومبيا البريطانية بكندا)، هجرة ١٠-١٥ مليونًا من السلمون الأحمر، في رحلة تستمر ١٧ يومًا ولمسافة ٤٠٠٠ كم للوصول إلى النهر، فتستقر في مصبه وتضع بيضها. وبين يناير-مارس سنويًّا تهاجر أسماك الأنقليس آلاف الأميال -من مختلف الأنهار والبحيرات العذبة- إلى أعماق الأطلسي (٣٥٠-٤٥٠ مترًا) لتضع بيضها وتموت، لكن صغارها التي لا تعرف شيئًا عن موطن أمهاتها، تعود أدراجها دون أن تضل وجهتها. وفي توقيتات محددة ولوجهات معينة تهاجر أسراب هائلة من الحشرات كفراشة الملك، واليعسوب، والجراد الصحراوي في أواخر مارس/عام. وهجرة الجراد -غالبًا- ليست بسبب جوع، لكن حتمية الوقت تؤذن بالهجرة، وبوصوله إلى غايته، يَقضي على الحياة النباتية شرَّ قضاء. وتوجد مخلوقات مُبرمجة -فطريًّا- على تحديد طريق هجرتها؛ ففراشات “أبو دقيق الملكية” تمضي الصيف في أمريكا وجنوبي كندا، ثم تقضي الشتاء في المكسيك، وعندما تتجه جنوبًا تطير دون دليل أو خبرة سابقة معتمِدة فقط على إيقاعها الداخلي.
الساعة البيولوجية والأنشطة الحيوية
الطيور هي الوقت؛ إذ يصيح الديك مع شروق الشمس، ويغني العندليب مساءً، ويدندن الكروان ليلاً، وعلى أرزاقها تغدو خماصًا، وتروح بطانًا.. وبطيران الإوز جنوبًا يبدأ الخريف، بينما زقزقة العصافير ورؤية الطيور المهاجرة تدشن فصل الربيع. شكلت الساعة البيولوجية للطيور أهمية علمية ريادية، وشاع أن شبكية عين الطيور -كالدجاج والسمان والحمام- تُدرك تغيرات طول النهار فتضبط توقيت تكاثرها. لكن تبين أن طيورًا عديمة العيون تستجيب لتغيرات اليوم، لكن بتغطية رؤوسها لم تعد قادرة على إدراك التغييرات، ويبدو أن الاستجابة للتغيرات تعتمد على الاستقبال الضوئي الدماغي (إضاءة أنسجة عصبية خاصة إما أسفل تجويف عينه أو عند حافة دماغه)، وعندما يتحد هذا الاستقبال مع إيقاع الساعة الداخلية للخلايا المستقبلة، يطلق هرمونًا في الدم فينتقل للغدة النخامية الأمامية، مُحفزًا هرمونات أخرى لتنشيط الأعضاء الجنسية. وفي الأغنام تبلغ فترة الحمل حوالي خمسة شهور، وفي الخيل ١١ شهرًا، وتتزاوج الدببة القطبية كل ٢-٤ سنوات، بينما الكلاب والذئاب والثعالب فمرتين سنويًّا.. لذا يتبين أهمية ساعتها الزمنية؛ لأنها إذا لم تتناسل في فترة الشبق -تستمر بضعة أيام- فستنتظر لمدد طويلة. ووفق مؤشرات القمر، تطلق بعض أنواع المرجان بيوضها أو نطافها خلال مراحل قمرية معينة لزيادة احتمالية الإخصاب الناجح.
ويبحث “رنة” القطبي الشمالي عن طعامه وينام ويقوم بأنشطة أخرى في ضوء ثابت أو ظلام مستمر، بينما يكون “السلطعون اللاهي” داكن اللون نهارًا وفاتح اللون ليلاً. وتنشط “الحيوانات النهارية” فتخرج قبل شروق الشمس مباشرة، أما النشاط الليلي والسبات النهاري فَسِمة الخفافيش والفئران والبوم وغيرها، حيث تتمتع “المخلوقات الليلية” بقلة المنافسة على الغذاء، وتتغذى فئران الحقل في دورات مدتها ٢-٣ ساعات. اكتشف “جوزيف تاكهاشى” الجينَ المسؤول عن ساعة الفئران البيولوجية، لكن طمس الجين لن يؤدي لاختلال الوظائف الظاهرية السلوكية، وسستظل مُبرمجة بإيقاع الساعة العادية.
ولم تتمكن “أسماك الكهف الصومالية” من رؤية الشمس منذ أكثر من مليون عام، ومع ذلك تمتلك تروس الساعات البيولوجية (دورتها ٤٧ ساعة)، لكنها لم تعد تستجيب للضوء. بينما لدى أسماك “التترا المكسيكية” في الكهوف المظلمة، ساعات نهارية كبيسة تساعدها على توفير طاقتها. وتمتلك أسماك “التترا المكسيكية” في المياه السطحية، ساعات تحافظ على الوقت الطبيعي على مدار ٢٤ ساعة. وفي أوقات معينة من السنة تضيء مستعمرات الطحالب المجهرية أمواج المحيط ليلاً -خاصةً مع حركة الماء- وغير مضيئة نهارًا. وفي ظل ظروف معملية مظلمة باستمرار، يستمر إيقاعها اليومي من التألق أو عدمه.
عند الحشرات
تؤثر إيقاعات القمر على الحشرات وسلوكياتها، كعروض المغازلة والتزواج والنشاط الليلي؛ فأنواع العث -مثلاً- يكثر نشاطها خلال مراحل قمرية معينة، ويقوم بعضها بمزامنة تزاوجه مع ضوء مُحدد للقمر. وتبين أن جِينَين يتحكمان في وقت خروج “ذبابة الفاكهة” من مرحلة العذراء، ويشكلان ساعة يومية يتم تنظيمها داخليًّا وخارجيًّا. وفي عام ١٩٧٠م، قام “رون كينوبكا” و”سيمور بنزر” بفصل الجين المسؤول عن الساعة الداخلية في ذبابة الفاكهة، أما في نهاية مايو، وبعد بلوغه السابعة عشرة من عمره، يغادر الجراد البالغ -في ولاية نيو إنجلاند- شقوقه المظلمة تحت الأرض، فيظهر بالملايين. ولوحظ خروج حشرات “الزيز” من تحت الأرض كل ١٣-١٧ عامًا.. ولا أحد يعرف كيف تحدد الحشرات هذا الوقت، مما يفترض أن لديها مؤقتات تعمل بالسنوات.
وعندما تجد شغالات نحل العسل زهرة متفتحة لتمتص رحيقها، تسجل اتجاهها ومسافاتها ووقتها المقطوع بدقة؛ لتعود إليها -بانتظام- في اليوم التالي، كما ترسم خطًّا مباشرًا لخليتها، وتم القيام ببحث ذلك تجريبيًّا. وتوجد عندها ساعات اجتماعية وظيفية؛ فالشغالات الراعيات لا تنتظم في الدورات اليومية العادية، بل تعتني باليرقات على مدار الساعة، وإذا وضعت شغالة باحثة عن الطعام في وظيفة رعاية اليرقات، فستتبع جدول الراعية. هذا وقبل دخول حشرات (كالذبابة المنزلية، والخنفساء المرقطة، وبعض أنواع الفراشات والبعوض) في سباتها الشتوي، فإن دم اليرقة/العذراء/الحشرة الكاملة، ينتج “جليكولات” مانعة للتجمد، ويبدأ إنتاجها مع نقص طول النهار (الخريف وبداية الشتاء)، ويقل بعد انتهاء الشتاء وقدوم الربيع؛ حيث تستبدل بالدم الطبيعي.
ساعة النباتات والفطريات
في القرن الثامن عشر قام السويدي “كارولوس لينيوس” بزراعة زهور تتفتح وتغلق أزهارها بفارق ساعة. وقد نشاهد الفتح والإغلاق الإيقاعي لأوراق نبتة “المُستَحِية” “الميموزا بوديكا”؛ فأوراقها المركبة تنطوي على نفسها وتتدلى عند لمسها أو اهتزازها، وهذه الحركات لم تكن استجابة لظروف الإضاءة -كما يحدث مع زهرة نبات دوار الشمس- ولكن النبات نفسه المتحكم فيها، مما دشن الإيقاع اليومي للنباتات. وتمر بعض النباتات والفطريات بنظام ليلي-نهاري؛ حيث تتحرك وتتمدد أوراقها أو أزهارها أثناء النهار، وتتدلى وتطوى أثناء الليل، وتحت الظروف المعملية استمرت هذه الإيقاعات لعدة أيام. وتتمتع زهرة “الأرابيدوبسيس” من عائلة الخردل، بضابط بيولوجي للوقت، من أجل البقاء على قيد الحياة في ساعات الليل. ونهارًا تستفيد النباتات من ضوء الشمس -عبر التمثيل الضوئي- لتصنع السكريات التي تتغذّى عليها، وتخزّن كمية منها لمدّها بالطاقة ليلاً. وتتحكم ساعة النبات في إنزيم يعدل بروتين (D1) الهام في عملية التمثيل الضوئي، كما يحمي نفسه من فرط الأشعة فوق البنفسجية بإنتاج جزيئات “فلافونويدات” كوقاية ضد الشمس، وعندما يحل الغروب تتوقف الساعة.
وبإيقاع الساعة يعرف النباتُ الفصولَ الموسمية ومتى يزهر لجذب الملقحات وتكوين الثمار، كما يتضح هذا الإيقاع في النمو وتبادل الغازات والنشاط الإنزيمي والضوئي وانبعاث الروائح. وتعتمد الساعة النباتية على شبكة وراثية داخل كل خلية، ويتحكم حوالي ٢٠ جينًا في إيقاعها. فتعمل الجينات على إيقاف وتشغيل بعضها البعض في دائرة معقدة، مما يولد إيقاعًا يؤدي إلى إنتاج دورة زمنية تستمر ٢٤ ساعة، وتفعل هذه الدورة جينات أخرى. وذلك يساعد على تحسين وقت الإزهار، وإنتاج غذاء أكثر، ومحاصيل وثمار أوفر، وبجودة أكبر، وتكريس الصوبات والزراعات العمودية المغلقة.
ساعتان أم عدة ساعات بيولوجية؟
لدى بعض اللافقاريات البحرية ساعتان داخليتان (ليست متماثلتين)، وتتبعان أوقاتًا قمرية وشمسية، وضبطًا خاصًّا مع ظاهرة المد والجزر الشهري (غالبًا ما يرتبط تزاوج كائنات بحرية بمراحل المد والجزر). فلدى “الدودة الخشنة” ساعة تتبع المراحل القمرية (تعدل الساعة اليومية). وتتحكم الدورة القمرية (مدتها ٣٠ يومًا) في عملية التفريخ الحادثة في نفس الوقت من الدورة كل شهر. ووهبت الدودة أيضًا إيقاعًا يوميًّا للتغذية خلال الليل، أما “قمل البحر المرقط” فلديه ساعتان مستقلتان، واحدة لدورات النهار والليل، والأخرى مضبوطة على المد والجزر. لذا فهو يعرف متى يحفر عميقًا في الرمال لتجنب الانجراف إلى البحر، ومتى يخرج للبحث عن الطعام.
يتم تنظيم ساعة المد والجزر، بواسطة بروتين (الكازين كيناز ١)، الذي قد يكون “ترسًا” متبقيًا من ساعة قديمة تم بناء جميع الساعات الأخرى عليها. كما أن مضادات الأكسدة “بيروكسيدوكسينات” تتبع أيضًا إيقاع المد والجزر الذي يحدده هذا البروتين. يحدث التزاوج في “دودة باولو” أثناء المد والجزر خلال الربع الأخير من شهر أكتوبر-نوفمبر، بينما تبين أن “سرطانات حدوة الحصان” لها عدة ساعات دائرية ومستقلة.
الساعة البيولوجية.. حقائق علمية
هي إيقاع حيوي أو تواتر يومي يتم تنظيمه بواسطة الساعة اليومية، التي لوحظت على نطاق واسع في الكائنات الحية. وعُرف أبسط أنواعها في “البكتيريا الزرقاء أحادية النواة”، كما تبين أنه يمكن تصنيعها معمليًّا بواسطة ثلاثة بروتينات، هي KaiA, KaiB, KaiC. وهذه الساعة تصمد على مدار ٢٢ ساعة اعتمادًا على إضافة جزيئات الطاقة. وبما أن معظم الكائنات وحيدة الخلية لديها إيقاع ينظم انقسام الخلايا والمحتوى الكيميائي، فمن المحتمل أن كل خلية في الكائن متعدد الخلايا يحتوي على هذا الإيقاع أيضًا. ومع ذلك، فإن ساعات الخلايا الخاصة فقط، هي التي تتحكم في السلوك الموجه نحو الوقت للكائن الحي بأكمله. وبالرغم من أن إيقاع الساعة البيولوجية هو عملية داخلية، وتقع عند الثدييات في “النواة فوق التصالبية” (SCN Supra Chiasmatic Nuclues) في الدماغ، إلا أنه يتم ضبطها وتنظيمها مع البيئة المحيطة بواسطة محفزات -كدورة الضوء والظلام- طول اليوم، وإطلاق هرمونات معززة للنوم كالميلاتونين، ودرجة الحرارة، وفترة نشاط المد والجزر.. إلخ. والنواة فوق التصالبية مسؤولة أيضًا عن إطلاق هرمون “فازوبريسين”، وهدفه الرئيس هو نظام الغدد الصم العصبية. وبالإضافة إلى الساعة البيولوجية المركزية في SCN، توجد أيضًا الساعات الطرفية في الأنسجة والأعضاء المختلفة في جميع أنحاء الجسم، وتساعد هذه الطرفية في تنظيم العمليات الفسيولوجية المحلية ومزامنتها مع الساعة المركزية.
وتتمثل الوظيفة الرئيسة للساعات البيولوجية في تحسين فسيولوجيا وسلوك الكائن الحي. وهي تؤثر على أنماط الهجرة، ونشاط البحث عن الغذاء، وتوقع توافر الغذاء اليومي، وتجنب الحيوانات المفترسة (أمر حاسم لبقاء العديد من الأنواع)، وتجنب المنافسة، وتوقع التغيرات البيئية الدورية لتعظيم وقت التغذية والاستعداد للظواهر البيئية الدورية في الشتاء والجفاف وغيرها، واكتساب ذاكرة المكان، والملاحة عند الهجرة.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.