إن الإنسان الخليقة خليق به أن يطلب من المراتب أشرفها، ومن الآداب أحسنها، ومن الأخلاق أفضلها، منزهًا نفسه عن مساوئها ومقابحها، ولما كان له هذا الفكر والتمييز لم يرض بالتقصير في طلب محمودها قصد اجتلابه، ودفع مذمومها قصد اجتنابه، وهذا جوهر التشوف إلى مراتب التمام والكمال، للاتصاف بقيم الجمال، لذلك كان واجبًا عليه أن يتحلى بكل شيمة سليمة من المعايب، واقتناء كل خيم حميد خالص من الشوائب، وأن يتخلى عن كل خصلة مكروهة رديئة، ويطرح كل خلة مذمومة ذنيئة، فصرف الهمة إلى هذا المقصود يجعل المتزكي يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله، ومن ثم يكون حريًّا به درك الخلال المستحسنة؛ التي تحفظ للنفس بهاءها وبقاءها، وترك الصفات المستقبحة؛ التي تكدر صفاء النفس ونقاءها، وإذا ما تم له ذلك وبلغ إلى العلياء، وطهر قلبه من الكبر والرياء، صار سهل العريكة مجتنبًا المراء.
يلزم الإشارة في هذا السياق إلى أن لفظ “خلق” ورد ذكره في القرآن العظيم، والسنة النبوية الشريفة، ومعاجم اللغة، وفي المؤلفات التي اعتنت بالمصطلحات والمفاهيم، بالإضافة إلى الكتب الفلسفية، ففي القرآن الكريم نجد في قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه، إعلانهم لفرض دعوته بقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء:137)، وقال جل جلاله في وصف نبيه الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4)، وقد جاء في الحديث “بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخْلاَقِ”(أخرجه البخاري)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا”(أخرجه أحمد)، وغير ذلك من الأحاديث التي وردت فيها هذه المفردة، وهذا ما يؤكد أنها أصيلة في اللغة العربية، أما معناها اللغوي فقد قال صاحب اللسان: “والخُلْق: السجية. يقال: خالص المؤمن وخالق الفاجر. وفي الحديث: ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق” (أخرجه البخاري)، وقال أيضًا: “الخلق، بضم اللام وسكونها: وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة”.
على الرغم من أن الأخلاق كامنة في النفس إلا أن مظاهرها تبدو في تصرفات صاحبها، في كلامه وصمته، وفي طلاقة وجهه، وفي حكمه وحكمته، وفي حركته وسكونه، وسائر تصرفاته. فخلق المرء مجموع غرائز (أي طبائع نفسية) مؤتلفة من انطباع فكري: إما جبلي في أصل خلقته، وإما كسبي ناشئ عن تمرن الفكر عليه وتقلده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد. وينبغي أن يسمى اختيارًا من قول أو عمل لذاته، أو لكونه من سيرة من يحبه ويقتدي به ويسمى تقليدًا، ومحاولته تسمى تخلقًا، ومما يبين غلبة الشيمة والخُلُق على التخلُّق ما ذكر في الأبيات الآتية:
قال ذُو الإِصْبعِ العَدْوَانِيُّ:
كُلُّ امْرئٍ رَاجِعٌ يَوْمًا لِشِيمَتِهِ ***** وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلاقًا إِلَى حِينِ
وَقَالَ أَيْضاً:
اعمَد إِلَى الحقَّ فِيمَا كُنتَ فَاعِله ***** إن التَّخلُّق يَأتِي دونَهُ الخُلُقُ
وقال زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ***** وإن خالها تخفى على الناس تعلم.
وحسب هذه التحديدات فكل ما كان بصعوبة وعسر وطول فكر لا يدخل ضمن الأخلاق، كما أن الأفعال التي تصدر عن النفس تنقسم إلى قسمين: الحسنة كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، وتسمى أخلاقًا حسنة. والسيئة كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، وتسمى أخلاقًا سيئة.
ويمكن القول إن الأخلاق هي الصفات التي تكون عليها النفس الإنسانية حسنة كانت كالجود، أو قبيحة كالشح، فالخلق القويم أو القيم يتوسط خلقين ذميمين، فالإنفاق مثلاً يتوسط الإسراف والشح، والشجاعة تتوسط التهور والجبن، وهكذا.
تشهد السيرة المحمدية على كون المبعوث الأمين صلى الله عليه وسلم كان قرآنًا يمشي على الأرض، فكان بحق يجسد الأخلاق القرآنية في واقعه السلوكي، ويستفاد من ذلك تحويل الأخلاق من مستواها العلمي إلى مستواها العملي، ومن مستواها التأصيلي إلى مستواها التحصيلي، لذا فإن طالب التخلق بأخلاق القرآن الكريم لا بد أن يتأسى بخير الخَلق والمرسلين؛ لأنه أسمى من تطبَّع وتمسك بها، ومما يؤكد حقيقة هذا الأمر ما روي عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم: 4)”(أخرجه أحمد).
وجاء في أحاديث كثيرة ما يعزز قرآنية أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ خَلْقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: «كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ». ثُمَّ قَالَتْ: تَقْرَأُ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ؟ اقْرَأْ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)(المؤمنون:1) حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَ. فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”(أخرجه الحاكم).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، قَالَ: “قُلْتُ لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ”(أخرجه أحمد).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: “لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحسنكمْ أَخْلَاقًا”(أخرجه البخاري). وهذه الحقيقة يؤكدها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهو قوله: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»(أخرجه الحاكم).
نظرًا لهذه للمكانة الرفيعة للأخلاق القرآنية فإن المتمسك بها يصل إلى مرتبة القرب من خير من الخَلق خُلقًا، وكلما كان المرء بعيدًا عن التخلق والتحقق كلما بعدت مرتبته في القرب والتعلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَسَاوِئُكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ” (أخرجه أحمد).
وقد جاءت أحاديث أخرى تؤكد علو منزلة صاحب الأخلاق الحسنة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ، الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ”(أخرجه مالك).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» (أخرجه مالك).
وهذا ما يبين فضل حسن الأخلاق وأنها تعلي بصاحبها مقامه في الجنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»(أخرجه ابن أبي شيبة)، وهو ما يعزز هذا المعنى ويعضده، لذا تعد الأخلاق أفضل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا خَيْرًا مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ»(أخرجه الطبراني).
إن تخلق النبي صلى الله عليه وسلم بالأخلاق القرآنية جعله خصاله عظيمة، وهو ما يشهد به قوله جل جلاله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فالخُلق العظيم أَرْفَعُ من مطلق الخُلق الحسن، وبهذا يزداد وضوحًا معنى التمكن الذي دل عليه حرف الاستعلاء في الآية الكريمة، وقد دلت آيات أخرى على هذا المعنى، ومن وذلك قوله تعالى له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، وقوله عز وجل: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، وغيرها من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والحاثَّات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها وأجملها، فما من خلق محمود إلا وحاز الحظ الأوفر منه، فجمع بين نبيل الفضائل وجميل الشمائل، ومن ذلك شدة الحياء، وكثرة السخاء، والشكر في السراء والصبر في الضراء، والصدق، والعدل، والعفة، والعفو، والرحمة، والزهد، والتواضع، وحسن المعاشرة، وحسن الصمت، والشجاعة، والتؤدة، والوقار، ووفور العقل… فنال كمال الخُلق وجمال الخَلق صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(الشرح: 1)، فقد شرح الله تعالى صدره وشقه وطهره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم مُلئ حكمة ونورًا، إعدادًا لمهمة عظيمة وجليلة، التي تتمثل في دعوته التي جاءت لتمام الأخلاق وكمالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ”(أخرجه البخاري)، فكان أصل شريعته إكمال ما يحتاجه الناس محاسن الأخلاق، لهذا وافق هذا الأصل فكان بحق أكبر مظهر لما جاءت به دعوته، فتمكن الخلق كان في نفسه وكان في دعوته، قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها)(الجاثية: 18)، لذا كانت دعوته كلها متعلقة بإتمام الأخلاق وكمالها، وهذه الدعوة إلى الإكمال نبَّه عليها قوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(المائدة:3)، فتأمل.