تاريخ الطباعة

يبلغ حجم سوق الطابعات 51.98 مليار دولار، لا تتفاجىء بهذا الرقم فهذا لعام 2023م وحده، وتبلغ التقديرات حول ارتفاع حجم سوق الطابعات لحوالي 64.93 بحلول عام 2028م. ولكن دعنا نعرف كيف وصلنا لطباعة 482973 كتاب لهذا الفترة من العام فقط.

كانت أول خطوات البشرية في طريقها إلى الطباعة هي الورقة نفسها، فالمصريون القدماء قدموا أوراق البردي التي صنعوها من نباتات البردي المصرية، والسامريون قدموا ألواحًا من الطين الجاف، لكن كان الأنجح والأكثر تميزًا بين هذه التجارب هي الورقة الصينية والتي تشبه الورقة التي بين أيديكم بشكل ما، وبسبب نجاحها كانت سرًّا من الأسرار التي تشبه الأسرار العسكرية في وقتنا لمدة تتخطى 650 عامًا، فقد كانت الصين أول من أنتج للبشرية هذا المنتج المبهر، وبرع الصينيون في تحويل الألياف النباتية ومن بينها البوص والبامبو إلى ورقة تمتاز بمميزات مهمة للغاية جعلتها الأبقى إلى الآن، وبرعوا أيضًا في حفظ سر صنعتها حتى فتحها المسلمون في القرن الثاني الهجري، امتازت بدرجتها العالية في امتصاص الحبر وصعوبة مسحه، وسهولة الاحتفاظ بها لعدم تعرضها للكسر أو الخدش بسهولة، فكان لها الفضل في حفظ البيانات الرسمية ونقلها عبر العصور وكذا العلوم، لكن كيف نقل المسلمون هذا السر من أقصى الشرق إلى العالم؟

للإجابة على هذا السؤال، نعود بالزمن سويًّا إلى شهر يوليو من عام 752 ميلاديًّا، وإلى معركة عُرفت باسم “نهر طلاس”، التي أوقع المسلمون بقيادة الخليفة العباسي “أبو مسلم الخرساني” فيها هزيمة ساحقة بالجيش الصيني، وأسروا ونقلوا صنّاع الورق الصينين إلى بغداد، وهناك تعلم منهم المسلمون أسرار صناعة الورق، وانتقلت هذه الصنعة بعد تطويرها من بغداد إلى دمشق والقاهرة، ثم الأندلس بوابة العالم الإسلامي إلى العالم بأسره الذي كان يجهل الورقة حتى القرن الثالث عشر.

الطباعة بواسطة الألواح الخشبية والمعدنية

عملية الطباعة في أول أمرها تعود إلى المصريين القدماء والصينيين، وكانت تتم بواسطة قوالب خاصة من الطين أو الخشب أو الحديد، بطريقة أشبه بعمل الأختام حاليًّا، ولنتعمق أكثر في الأمر، إذا تخيلنا الآن أننا مقدمون على طباعة كتاب، فالمراحل التي ستمر بها طباعة هذا الكتاب هي:

أولاً: نحت ألواح من الخشب أو الحديد بحسب الحروف والكلمات الموجودة في كل صفحة، بحيث تكون الحروف بارزة إلى الخارج ويكون باقي اللوح منحوت إلى الداخل.

ثانيًا: يتم غمس اللوح في إناء الحبر، حتى يمس الحبر تلك الحروف البارزة.

 ثالثًا: ضغط اللوح على الخامة المُراد الطباعة عليها سواءً كانت ورقة أو قماش.

وإذا كانت هذه المراحل تتسم بالصعوبة، فليس أمامك سوى أن تخط الكتاب بيديك، وهذا هو الحل الذي لجأ إليه الكثيرون. ورغم انتشار هذه الطرق للطباعة في الصين ومصر القديمة والهند وفارس، إلا أنها لم تنتشر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر.

وقدمت الصين أقدم كتاب مطبوع موجود الآن، وهو كتاب ديني في الحكم والأمثال يُسمى “درة البوذي” ويعتبر جزء من الكتاب المقدس للبوذيين، وقد وُجد هذا الكتاب في مطلع القرن الحالي في حجرة صغيرة مسدودة داخل أحد الكهوف ويرجع طباعته إلى عام 868م.

الطباعة بواسطة الماكينة

ظل العالم يتبع هذه الطرق في الطباعة حتى جاء عام 1440م، وكانت تتسم بالصعوبة كما قلنا سابقًا، لكن كما هو معروف فـ”الحاجة أم الاختراع”، ابتكر العالم الألماني “يوهان غوتنبرغ” طريقة طباعة تتم بواسطة الحروف المصقولة والمنفصلة عن بعضها، بواسطة جهاز خشبي يقوم بالضغط على سطح مطلي بالحبر حتى يلامس خامة يُراد الطباعة عليها سواء كانت قماش أو ورق ليُنقل هذا الحبر لها، لكن هنا نود أن نقول إنه ليس له السبق باختراعه سوى على الأوربيين أنفسهم، لأن الصين كانت سابقة إلى هذا الإنجاز، لكنه لم تكن تعرف به أوروبا، ولم يستسغ الصينيون أنفسهم هذه الطريقة بسبب كثرة رموز اللغة الصينية.

لكننا هنا نقول إن هذه الخطوة -أيًّا كان صاحبها- هي الخطوة الأولى في مجال الطباعة التي نعرفها، حيث انتشرت في جميع أنحاء مدن أوروبا، وتم طباعة أكثر من عشرين مليون مجلد، وبعد غزو الآلة لمدن أكثر وأبعد في أوروبا في القرن السادس عشر، ارتفع إنتاجها عشرة أضعاف ليبلغ تقريبًا 150-200 مليون نسخة. وظهرت ثمرة ووسيلة جديدة للتعبير والتواصل، ألا وهي الصحافة.

ثم توالى التطوير على ماكينات الطباعة بابتكار مواد جديدة تصنع منها الماكينة وتزيد من كفاءة وسرعة الطباعة، فتم اختراع ماكينة طباعة من الحديد عام 1800م، ثم جاء الألماني فريدريش كويننج عام 1811م بآلة طباعة أسطوانية تعمل بالبخار، الأمر الذي زاد من كفاءة الطباعة وسرعتها.

وفي نهاية القرن التاسع عشر وتحديدًا عام 1855م ظهر نوع طباعة جديد يسمى “الأوفست” على يد ألفونس بوافا، حيث اخترع طباعة الصفائح الضوئية، وهي -باختصار- تستخدم الضوء في نقل النماذج كما في التصوير الفوتوغرافي، حيث يتم تعريض الأجسام المراد تصويرها إلى أشعة الضوء، إما بطريقة مباشرة.

ظل العمل على التطوير مستمرًّا حتى وصلنا إلى ماكينة تستطيع أن تنتج 18 ألف صفحة في الساعة، وذلك في عام 1871م على يد ريتشارد مارش، بعد أن كان الإنتاج اليدوي لا يتخطى 40 صفحة، لكن حتى الآن يتم صف الحروف باستخدام الماكينة، ومع بداية القرن العشرين، ازداد التطور وزادت قفزاته باختراع الحاسوب الذي بات يستخدم في صف الحروف وتنسيقها بشكل منفصل ثم طباعتها، فأوجد هذا وظيفة جديدة وهي فني الجرافيك، والذي كان اختصاصه هو تنسيق الكتابة وإدراج الرسوم، ثم تصميم المنشورات الإعلانية، وتطورت الوظيفة أكثر فظهرت ما يسمى بـ”الطباعة الرقمية”، وظهرت شركات تساهم في تطوير البرامج التي تساعد في تحسين جودة عملية الطباعة مثل: شركة أدوبي، وغيرها من الشركات.

أما في مصر، فقد أدرك نابليون أهمية الطباعة على التأثير على الرأي العام، فجاء بأول ماكينة طباعة مع الحملة الفرنسية عام 1798م، وعرفت باسم الطابعة الشرقية أو طابعة “البروبوجاندا” أي الدعاية، لأنها كانت تهتم بالنشر والدعاية والترويج للحملة الفرنسية، وقد أخذتها الحملة الفرنسية أثناء خروجها من مصر عام 1801م، ثم بعد ذلك أنشأ “محمد علي باشا” مطبعة بولاق، واستخدمها في إنتاج الجريدة الرسمية المصرية “الوقائع المصرية”، وساهمت في نشر المناهج والكتب المدرسية والعسكرية، فكانت الطابعة هي من أهم بوابات نشر العلم والمعرفة بين الشعب المصري.

الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين، نعايش ثمرات التطور في عالم الطباعة بكافة أنواعها، لارتباطها بكل ما نعايشه في يومنا، ليس فقط الكتب والأوراق، بل وصلت إلى طباعة الملابس والأكواب وتغليف المنتجات، وكل شيء في يومنا. نعيش ثمرات هذا التطور المُبهر، كمساعدتها الفريدة في تناقل العلوم، والحد من انتشار الأمية، والانتشار المطلق نسبيًّا للمعلومة والأفكار، واستيعاب الإنتاج المعرفي للإنسان وذلك من خلال حفظها في نسخ مطبوعة خالدة ونستطيع استنساخها ومشاركتها بكل سهولة، لذا ننتهي من حيث بدأنا ونقول: إن هذا التطور الذي تم عرض مقتطفات منه هو الإجابة البليغة عن كيف لهذا العالم أن يصل إلى طباعة 482973 كتاب لهذا الفترة من العام فقط؟