مشاهد كونية في مساجد عثمانية

المسجد في العمارة الإسلامية، هو المبنى الرئيس الذي يتعبد فيه المسلمون، ويقيمون الصلاة، ويذكرون الله بالغدو والآصال.. لذلك حظي بناء المسجد في الحضارة الإسلامية بمكانة كبيرة، فكان أول بناء يبنى في الأمصار والمدن المفتوحة، وظل هو النواة التي يلتف ويطوف حولها المعمار في المجتمعات الإسلامية.
واختلفت أشكال المساجد من حضارة وبيئة لأخرى، فكل طراز له سمات انعكست على عناصره المختلفة، وهو ما يمكن ملاحظته بسهوله في اختلاف أشكال المآذن والقباب والزخارف وغيرها.
ولكن يكمن وراء العديد من تلك العناصر والمفردات المعمارية التي احتوتها المساجد، الكثير من الإشارات والرموز التي تحتاج إلى التأمل والتفكير والمعايشة لإدراك معانيها واستجلاء مراميها.
لقد أثارت زياراتي ومشاهداتي للمساجد القديمة في إسطنبول وبورصة وأنقرة -المرة تلو الأخرى-العديد من الأفكار والتساؤلات والتأملات التي كانت تنمو وتتبلور مع الوقت، مما جعلني أستنتج أن المصمم المعماري الذي قام بإبداع تلك المساجد، كان يتعامل معها وكأنها كون مصغر ينعكس فيه العديد من المشاهد الكونية التي عبّر عنها بمفردات معمارية وبتشكيلات زخرفية وفنية، وربما في بعض الأحيان بآيات قرآنية تنقش على حوائط المسجد، ليبث رسالة مباشرة لمن لم يستطع فهم الرسائل الرمزية الأخرى التي تدعو -كذلك- إلى التأمل والتدبر.
دعونا نبدأ تلك الرحلة التدبرية من خلال المشاهد الكونية التي حوتها العديد من المساجد العثمانية:

1 – “السماء-القبة”

سار تصميم المساجد الأولى على نهج المسجد النبوي بالمدينة المنورة، حيث كان الفناء المكشوف هو العنصر الأساس الذي أحيط بالظُّلاّت والمجنبات. ثم تطورت وتنوعت طرز المساجد إلى أن ظهر طراز المسجد ذي القبة المسيطرة، وهو ما امتاز به طراز المساجد العثمانية. والقبة هنا إلى جانب أنها حل وظيفي إنشائي لتغطية أكبر مساحة من قاعة الصلاة بدون أعمدة -اللهم إلا على أطراف القبة نفسها- فإنها من جهة أخرى ترمز إلى قبة السماء التي تعدّ آية من الآيات الكونية الدالة على قدرة الخالق العظيم الذي رفع السماء بغير عمد ترونها.

2 – “الشمس-الثريا”

إن إشارة القبة في عمارة المساجد العثمانية إلى السماء، ربما يؤكده هذا المشهد الذي أثار انتباهي في مسجد السلطان أحمد بإسطنبول وغيره من المساجد الأخرى.
فخلال زياراتي المتعددة لمسجد السلطان أحمد، لفت نظري تصميم الثريات التي تتدلى من سقف القبة بقاعة الصلاة الرئيسة، فأساس تصميمها عبارة عن دائرة متوسطة يخرج منها العديد من الخطوط المتعرجة التي تماثل أشعة الشمس.
وفي مساجد أخرى كـ”المسجد الجديد” (يْنِي جامع)، تأخذ الثريا الرئيسية بقاعة الصلاة الشكلَ الدائري (وربما تتعدد الدوائر)، حيث تتدلى منها المصابيح والقناديل في منظر يوحي إلى مصابيح السماء، فالفكرة والرؤية واحدة، فالثريا إما هي رمز للشمس، أو رمز لمصابيح السماء. هنا تكتمل الرؤية والفكرة، قبة المسجد ترمز إلى السماء، والثريا ترمز إلى الشمس بأشعتها الدافئة الحنونة (أو مصابيح السماء)، وكلها إشارات كونية رمزية تنسج ملامح الفكرة الرئيسية، وتؤكد أن “المسجد كون صغير” أو صورة مصغرة لهذا الكون الرحيب.

3 – “المجموعة الشمسية-المنبر”

فإذا ما انتقلنا سريعًا إلى المسجد الكبير في مدينة بورصة، رأينا مشهدًا كونيًّا آخر، عبّر عنه الفنان والمصمم في هذه المرة على ريشة المنبر الخشبي للمسجد.
فعندما تنظر لهذا المنبر، لأول وهلة يبدو لك كغيره من منابر المساجد المنتشرة في كل مساجد العالم، ولكن بإمعان النظر يتبيّن أنه منبر غير تقليدي؛ حيث على الجانب الشرقي للمنبر، تم التعبير بطريقة مباشرة عن المجموعة الشمسية عبر أنصاف من الكرات البارزة وضعت خلال الأطباق النجمية التي تزين ريشة المنبر. والإبداع في ذلك يظهر في أن المسافات بينها تحاكي تمامًا المسافات الحقيقية بين الشمس وكواكب المجموعة الشمسية التي تطوف حولها، وبالطبع بمقياس رسم أصغر.
شواهد وأدلة الفكرة ما زالت تتجمع وتتساند لتؤكد الرؤية المطروحة، والتي تتأكد وتتنوع من مسجد لآخر، ومن مدينة لأخرى، أو حتى من زمن لآخر.. إنه إحساس وعلم الفنان والمصمم المسلم الذي تشكلت عقليته نتيجة الرؤية القرآنية التي تحث دائمًا على الأمر بالنظر في الطبيعة، وملكوت السماوات والأرض.

4 – “الطبيعة-الزخارف النباتية”

تنقسم الزخارف الإسلامية بصفة عامة إلى قسمين أساسيين: الزخارف الهندسية، والزخارف النباتية، ويمثلان معًا ما يعرف بمصطلح “الأرابيسك” أو “العربسة”.
ولكن يلاحظ أن الزخارف النباتية هي المسيطرة في تزيين عناصر المساجد العثمانية على اختلافها، تلمح ذلك في حوائط المسجد وعقوده وسقفه وقبابه، حتى النوافذ الملونة وربما البسط والسجاجيد، تلمح دائمًا الزخارف النباتية وزهرة “التوليب” المنتشرة في البيئة التركية.
وكأن المعماري التركي يحاول أن ينقل الطبيعة بأشجارها وأزهارها إلى داخل المسجد، فلا يفتقد تلك الطبيعة التي هي خلق وإبداع المولى سبحانه وتعالى، فيجمع العابد داخل المسجد بين ذكر اللسان وذكر الأبصار من خلال رؤية تلك الزخارف النباتية.

5 – “الظل-السجود”

الظلال هو أحد الظواهر الطبيعية التي أشار إليها القرآن الكريم في العديد من السور والآيات القرآنية، وقد نبهت العديد من تلك الآيات إلى سجود الظلال كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ((النحل:48)، أو كقوله تعالى: (وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ((الرعد:15).
ومن عجائب ما تم رصده بمسجد ديفريجي الكبير في مدينة سيواس التركية، هو ظهور “ظل إنسان يصلّي” على الباب الغربي للمسجد، يبلغ طوله أربعة أمتار، ويبقى قائمًا حتى انقضاء صلاة العصر ثم يغيب ويختفي.. فمن أين أتت تلك الفكرة المدهشة للمصمم؟ وهل هي تطبيق مباشر لما ورد في القرآن الكريم عن سجود الظلال؟
سواء أكانت تلك الفرضية صحيحة أم لا، فما يهمنا هنا أن نسجل احتواء مدخل المسجد على فكرة التعبير عن الصلاة باستخدام الظل كأحد الظواهر الطبيعية، والتي نبه القرآن الكريم لأهمية تأملها وتتبعها وفهمها.

6 – “الأهلة-الإشارة إلى اتجاه القبلة”

ربما لا تنفرد المساجد العثمانية بهذا المشهد الكوني، ونقصد وضع الأهلّة فوق القباب وأعلى نهايات المآذن مواجهة لمكة المكرمة كي تشير إلى اتجاه القبلة. فاستخدام الأهلة النحاسية أو البرونز وغيره من المعادن، منتشرة تقريبًا في كل المساجد القديمة والحديثة.
ولكن وجود تلك الأهلة، والتي أصبحت رمزًا للإسلام بصفة عامة وللمساجد بصفة خاصة، ربما يؤكد فكر استخدام المشاهد والآيات الكونية في عناصر المساجد بصفة عامة والمساجد العثمانية بصفة خاصة، وهو ما أكدته المشاهد السابقة التي أشرنا إليها.

7 – استخدام الآيات القرآنية

تعتبر كل المشاهد الكونية السابقة والتي استخدمت في عمارة المساجد العثمانية بصفة خاصة، تعبيرًا غير مباشر عن فكرة “المسجد كون صغير”، كما توضح تأثر الفنان والمعماري المصمم بما أورده القرآن الكريم من آيات الآفاق والأنفس وأهمية تدبرها وفهمها.
ولكن يلاحظ أيضًا أنه عادة ما يتم التعبير عن هذا المفهوم بطريقة مباشرة، تتمثل في كتابة بعض الآيات القرآنية، والتي تعبّر عن آية كونية معينة على رقبة القبة الرئيسية من الداخل، كقوله تعالى: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ((النور:35) في إشارة إلى أهمية النور بشقيه المعنوي والمادي لحياة الإنسان الروحية والمادية. ونلحظ استخدام هذه الآية في رقبة قبة مسجد السلطان أحمد على سبيل المثال، وهو تقليد انتشر في أغلب المساجد الإسلامية على اختلاف طرزها.
إن ربط القرآن الكريم للعبادة والدعاء والذكر والتسبيح بأوقات معينة كالغداة والعشي كقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(لكهف:28)، أو الصباح والمساء كقوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون((الروم:17)، أو ربط مواقيت الصلاة بظواهر فلكية معينة كقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا((الإسراء:78).. كل هذا، كان الهدف منه ربط الإنسان المؤمن العابد الذاكر، بالعديد من الآيات الكونية الدالة على وجود الله وقدرته، مما أرسى مفهوم العبادة بمفهومها الواسع والذي لا يقتصر فقط على الصلاة أو الحج أو الصوم، ليشمل التفكر في ملكوت السماوات والأرض.
إن وجود العديد من المشاهد والإشارات الكونية في المساجد العثمانية أو في غيرها من مساجد الطرز الأخرى، لا يعتبر بذلك شيئًا غريبًا أو مستبعدًا، لأنه في ذلك الوقت والزمن، كانت الأمة الإسلامية مرتبطة بقرآنها وبسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم ارتباطًا عميقًا، أدى إلى إفراز تلك الرؤية لدى المعماري والفنان المسلم، والتي انعكست بتلقائية وحِرَفية في تصميم العمران الإسلامي وفي صدارته المسجد بيت الله، أو لو شئت فلتقل صورة مصغرة من الكون الكبير، أو هكذا لابد أن يكون وأن نفهم ونعي.

(*) كلية الآثار، جامعة القاهرة / مصر.