التربية في عصر ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة، تيار فكري نشأ في الأصل كردة فعل لـ”الحداثة”. وما بعد الحداثة يصعب إيجاد تعريف دقيق لها، والسبب في ذلك أن ما بعد الحداثة مفهوم فضفاض وغامض، فهناك صور متعددة من ما بعد الحداثة. فهي تتدرج من الموقف الرافض للغلو العقلاني الوضعي، ورفض الاضطهاد الذي تمارسه الثقافة الغربية بأيديولوجيتها العلمية، إلى أن تصل إلى ما بعد الحداثة المتطرفة الثورية العدمية العبثية التي تدعو للثورة على العقل والعقلانية من أساسهما، وتصل إلى التشكيك حتى في البدهيات. مما حدا بأنصارها إلى الكف عن توضيح “ما بعد الحداثة” والإنصراف إلى توضيح ما ترفضه ما بعد الحداثة. ويمكن أن تعرف الحداثة بأنها اتجاه فكري يضم خليطًا من التيارات، يجمعها رفض الأسس الأنتولوجية (أي الخاصة بطبيعة الوجود) والمعرفية والمنهجية، التي قامت عليها الحداثة أو على الأقل يجعلها محل شك.

دواعي ظهور ما بعد الحداثة

ظهر مفهوم ما بعد الحداثة بشكل واضح في السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، في كتاب الفيلسوف الفرنسي “ليوتارد” (علم ما بعد الحداثة)، وعني بها التعددية الثقافية وتعدد أنماط الحياة.

ويُرجع كثير من الباحثين أصول هذا المذهب الأولي إلى الفيلسوف الألماني “نيتشه”، الذي أنكر وجود طريقة للوصول للحقيقة أصلاً. فهو لا يشكك فيما لدينا من وسائل للمعرفة، بل ينكر أن يكون هناك إمكانية للوصول لحقائق الأمور بتاتًا. وقد حمل “نيتشه” على “المطلق”، ونادى بأن كل العلوم إنما هي اعتقادات ونظرات خاصة ينشؤها كل لنفسه. والمسألة لا تعدو أن تكون منظورات (وجهات نظر) مختلفة، وليس لأحد الحق أن يرى رأيًا أصوب من الآخر.

وقد سار على خطى “نيتشه” الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو”، الذي يعد من أعمق المفكرين المعاصرين أثرًا في الفكر ما بعد الحداثي، والذي نادى بموت الإنسان، واتخذ موقفًا معاديًا للحداثة، من خلال نقد أحادي النظرة يغفل الجوانب الإيجابية. وسعى لبناء منظور جديد للمجتمع والمعرفة والخطاب والسلطة والعلاقة بينها، مما جعله مصدرًا أساسيًّا للفكر ما بعد الحداثي. فقد بحث “فوكو” العلاقة بين السلطة والحقيقة والمعرفة، وقال بأن المعرفة أثر من آثار السلطة وتتكون بتفاعل اللغة والسلطة والمعنى.

ويذكر كثير من الباحثين سببين لظهور هذا التيار

1- تطور العلم: يرى أنصار ما بعد الحداثة أن العلم محدود، وأنه تسبب في شقاء البشرية، وأن “العلمية” وظفت أيديولوجيًّا لسيطرة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى. وهذا قد يكون صحيحًا لكن لا يعني هذا أن يبخس العلم حقه، فالعلم شيء وسوء تطبيقة أو أدلجته شيء آخر. كما يرى أنصار هذا الفكر أن العلم  في سياق العقلانية التقنية الحداثية، تؤثر فيه حسابات السياسة أي إرادة السلطة بالمفهوم النيتشوي، وينفي “هابرماس” وجود حياد أو صفاء علمي.

 ومن هذا نشأ تيار “ما بعد الحداثة”. فالعلم -كما يقول بعض أنصار “ما بعد الحداثة”- هو عماد الحداثة، وهو الذي هدم الحداثة وقاد إلى “ما بعد الحداثة”، حيث إن فَقْد الثقة بالعلم قاد إلى ردة فعل تجاه الفلسفة التي كانت قائمة عليه.

2- فقد الثقة بقضية التقدم: مر الغرب بأزمات في القرن العشرين، وبحروب بينت بطلان ما كانت تبشر به الحداثة من المستقبل الزاهر والتقدم الموعود. فبعد الحرب العالمية الأولى خرج الغرب محطمًا ومتهالكًا، وفاقدًا الثقة بعقيدة التقدم. وعلى النقيض من نظرة الحداثة المتفائلة بمستقبل البشرية، تنظر ما بعد الحداثة بكثير من التشاؤم إلى المستقبل الذي تسير إليه البشرية في ظل النظرة الحداثية، فترى أنها جرت عليها من الويلات أكثر مما أفادتها.

التربية وما بعد الحداثة

بالرغم من النقد الكثير الذي وجهته التيارات ما بعد الحداثية للحداثة في مجال التعليم، إلا أنها لم تطرح فلسفة تربوية شاملة إلى الآن. فأثر “ما بعد الحداثة” على التعليم كبير وإن كان غير واضح المعالم.

فقد انتقدت “ما بعد الحداثة” مبالغة الحداثة في تقدير العقل وتمجيده، كما انتقدت التركيز على العلم والمواد العلمية والمنهج العلمي. وهذه النظرة إلى الحقيقة انعكست على النظر إلى المعرفة، فالمعرفة في المنظور المابعد حداثي تبنى في سياق ثقافي، ومهمة التدريس النقدي (critical pedagogy) هي أن تجعل الطلاب يتفحصون القيم والفرضيات والأيديولوجيات والمصالح المنعكسة في المعرفة، ليقوموا بإنتاج المعرفة بدلاً من بقائهم مستقبلين غير ناقدين. وهذا يتم فيما يسميه “فريري” بتربية إثارة الأسئلة، مقابل ما أسماه تربية الإيداع (banking education) التي تعتمد على ترحيل المعلومات.

وقد أثرت النظرة ما بعد الحداثية على عناصر العملية التربوية كافة، وفيما يلي أبرز ملامح المشهد التربوي في مرحلة ما بعد الحداثة:

1-  بالنسبة لأهداف التربية: تتمثل أهداف التربية في مجتمع ما بعد الحداثة كما حددها المفكر الفرنسي “فرانسوا ليوتار” في كتابه “الوضع ما بعد الحداثي”، بأن هدف التعليم -باعتباره منظومة فرعية في المنظومة المجتمعية- هو خلق المهارات التي لا غنى عنها لتلك المنظومة. وهذه المهارات على نوعين: الأول تتمثل في المهارات التي تستهدف بشكل نوعي التعامل مع المنافسة العالمية، وتتنوع حسب التخصصات التي تستطيع الدولة أو المؤسسات التعليمية الكبرى بيعها في السوق العالمية، أما النوع الثاني فيتعلق بالمهارات التي تلبي احتياجات المجتمع نفسه، ولن يكون ذلك بربط التعليم بمثل عليا وغايات إنسانية، بل ستكون أهداف التعليم وظيفية نفعية عملية، من خلال السعي إلى إمداد النظام الاقتصادي بالقوى العاملة القادرة على القيام بأدوارها بشكل مقبول في مواقع العمل بالمؤسسات.

2- المعلم: ما بعد الحداثة ترى أن المعلم ليس من حقه أن يقوم بنقل الحقائق كما يراها هو إلى ذهن الطالب، بل يساعده في بناء حقائقه الخاصة التي يشكلها مجتمعه وثقافته.

3- الطالب: ما بعد الحداثة تؤكد أن الطالب يجب أن يتعلم ألا يعتمد على الموضوعية التي تزعمها الحداثة، وقد كان لما بعد الحداثة أثر على طبيعة العلاقة بين الطالب والمعلم، فلم يعد ينظر للمعلم على أنه الخبير الذي يزود الطالب بالمعلومات، وصار هناك تركيز على التفاعل الفردي بين الطالب والمعلم والاستكشاف المشترك.

4- المنهج: يبتعد المنهج ما بعد الحداثي عن النظرة الحداثية للمنهج التي تنحو المنحى التراكمي في تقديم المحتوى، إلى المنهج التحويلي الذي يسعى لإحداث تحويل في فهم الطالب لما حوله ومن ثم فهمه لنفسه. فيجب ألا يحتوي المنهج على حقائق يراد نقلها إلى الطالب، ولا بد أن يحتوي على القليل من التجريد والتنظير، وبدلاً من ذلك يركز على الاهتمامات الفردية للطلاب وعلى التطبيقات العملية.

5- طرق التدريس: فالتصور ما بعد الحداثي للتعلم مبني على الاعتقاد بأن كل فرد يصنع المعنى من مصادر مختلفة، بدلاً من استقبالها جاهزة من خبير. ولذلك فهناك تركيز تام في طرق التدريس على الحوار والاستكشاف، مع التقليل من دور المعلم بوصفه مصدرًا للمعلومات. إن ما بعد الحداثة تنتهج أسلوب الاستكشاف هذا، لا على أنه سبيل لاكتشاف الحقيقة، بل على أنه جواب مؤقت إلى حين يتم اكتشاف غيره.

6- نظرية التعلم: تتسق الرؤى ما بعد الحداثية للتعلم مع النظرة البنائية التي ترى أن المتعلم يبني المعرفة في ذهنه، وتبنت ما بعد الحداثة -بشيء من التطرف أحيانًا- النظرة البنائية الاجتماعية للتعلم (social constructivism)، التي تقول إن الطالب يقوم ببناء المعرفة داخل ذهنه، وهذا البناء يتم في سياق اجتماعي ليس له صفة الإطلاق.

وبالرغم من تبني “ما بعد الحداثة” للنظرية البنائية الاجتماعية والتأكيد على جانبها الفلسفي، فإن بعض الباحثين يؤكد على هذه النظرية أنها نظرية تعلم وليست نظرية في التدريس، مما قاد إلى اختلاف كبير وربما سوء فهم في تطبيقات تلك النظرية في الصف الدراسي.

المراجع

 قضايا تربوية في عصر العولمة وما بعد الحداثة، سامي نصار، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة (2008).

 ما بعد الحداثة والتربية، ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر العلمي الأول لقسم أصول التربية “التربية في مجتمع ما بعد الحداثة”، جمال الدهشان، كلية التربية، جامعة بنها، 21-22 يوليو 2010.