اكتشاف داخل الجسم.. الإندورفينات الطبيعية

إن جسم الإنسان مصمم في صورة بديعة، حيث يتمتع بمقاومة شتى أنواع الضغوط، وبكفاءة عالية في التعامل مع عدد كبير من المخاطر البيئية.. فقد أُوْدِعت فيه القدرة على معالجة وحماية نفسه، وعلى صد آلاف الأنواع من التهديدات الخارجية.. فهو أشبه بماكينة داخلية مصممة بأعلى درجات الإتقان، لتساعد على التعامل التلقائي مع الأضرار والأخطار التي يتعرض لها الإنسان، بل ومحاربة أمراض خطيرة مثل السرطان.. إن الجسم البشري لا تفنى عجائبه إلا بفناء جسم الإنسان.

اكتشاف داخل الجسم

توصل الطب بعد تجارب وأبحاث علمية مستفيضة، إلى حقيقة هامة مفادها، أن أجسامنا تنتج مواد كيميائية لها خصائص الأفيون شبيهة المورفين، أطلق عليها العلماء اسم “الإندورفينات”؛ هي بمثابة مورفينات داخلية تسري في دمائنا وأمخاخنا وداخل حَبْلنا الشوكي. ومن الحقائق التي أكد عليها العلم فيما يتعلق بالإندورفينات، أن “احتياج الجسم لهذه الإندورفينات، هو السبب في قابلية إدمان المورفين، فإن تعاطي هذا العقار، يثبط قدرة الجسم على تكوين الإندورفينات، ويصبح لا مفر للإنسان من حصوله عليها من مصدر خارجي وبجرعات متزايدة”. وتلعب هذه المورفينات الطبيعية أدوارًا رئيسية داخل أجسامنا تتمثل فيما يلي.

تسكين الألم

لعل الشعور بالألم هو أسوأ المشاعر الإنسانية وأكثرها ضراوة وفتكًا، وإذا استبد بالمرء، حوّل قوته ضعفًا وسعادته تعاسة وشقاء. ولكن الألم -بالرغم من كل ذلك- لا يخلو من الفائدة؛ فهو نذير الخطر، لا ينبعث من منطقة من مناطق الجسم إلا إذا كان هناك ما يهدد سلامتها وأمنها، ولذلك فهو حقًّا عذاب باطنه الرحمة. ومن قديم الزمان والإنسان يبحث عن دواء للألم على قدر تنوع صنوفه؛ فأخذ يبحث عن معالجات وطرق للتخفيف من حدته، كالتبريد، والتسخين، والوخز بالإبر، والكمادات، والضاغطات، والأشربة، والعقاقير، ومنقوعات الأعشاب، والخلاصات النباتية.. حتى الرقى والتمائم والتعويذ اتخذها الإنسان وسيلة من أجل تخفيف آلامه، إلى أن استخلص في العصر الحديث عقار المورفين من الأفيون، واستخدمه على نطاق واسع لتسكين وتخفيف الآلام بعد إجراء العمليات الجراحية. إلا أنه شكل عقبة بمنع تكرار وصفه للمريض الواحد مرات عديدة؛ إذ لوحظ القابلية الشديدة للإدمان على تعاطي هذا العقار الفعال. ورغم استخدام المورفين، فقد أثبت العلم أن ثمة موادًّا تشبه المورفين، لها قدرة كبيرة على كسر حدة الآلام في جسم الإنسان. وقد استند العلماء في ذلك، على أنه إذا وقع إنسان وانكسرت يده، وهو يعرف أن ثمة كسرًا قد حدث في العظم، ومع ذلك لا يحس إلا بألم بسيط وبتوتر قليل لمدة ساعات حتى يذهب إلى المستشفى، فإن هذه الفترة الزمنية، يعتقد العلماء أن “للمورفين الإنساني دورًا كبيرًا فيها تحاشيًا للصدمة وتخفيفًا للحدث وتمهيدًا للتدخل الجراحي والطبي.. إنها تمهيد فطري طبيعي يتيح فرصة لكل الأطراف”. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة الحامل، فقد لوحظ أنه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، يخف إحساس المرأة الحامل بالألم وبالضغط، وأرجع العلماء ذلك إلى إفراز الجسم لكمية كبيرة من هذه الإندورفينات التي تؤدي إلى تخفيف وطأة الحمل، إلى جانب شعور الحامل بالغبطة لمواجهة إجهاد الولادة. ويعتقد أيضًا أن نسبة هذه الإندورفينات في دم المرأة الحامل، تصل إلى ذروتها قبل الولادة تقريبًا عشرة أضعاف النسبة المعتادة، وأن معدلها يهبط فورًا بعد إتمام الولادة.

الإندورفينات وطبيعة الإنسان

ويعتقد علميًّا أن هذه الإندورفينات، لها ارتباط وثيق بالحياة الطبيعية في جسم الإنسان، فهي تلعب دورًا هامًّا في كل ما يمر به الإنسان تقريبًا من لحظة الولادة وحتى الموت. فكل شيء -تقريبًا- مرتبط إلى حد ما بالإندورفينات، فهي تتدخل في كيمياء الجسم في الحياة الطبيعية، في الضحك والبكاء وفي الانتشاء والطرب، في لحظة البلوغ وألم الولادة، في الجوع وتناول ألذ الطعام.. كل ذلك تقريبًا مرتبط بضخ هذه الإندورفينات إلى سائر أجزاء الجسم. كما يعتقد علميًّا أن “الإندورفينات تساعد الجسم على التحكم في الشهوة الجارفة، لتناول الدهون والحلوى في مواجهة الإجهاد والجوع، وأن اضطرابات هذه المورفينات الإنسانية تكون -في الواقع- أرضية كيميائية لأمور السمنة واضطرابات التغذية الأخرى”.

ومن الأمور الهامة التي تلعبها الإندورفينات في جسم الإنسان، أنها تزيد من إفراز “هرمون الغدة النخامية، والمنشط لقشرة الغدة الكظرية، فتفرز تلك القشرة هرمونات تساعد الجسم على تحمل الضغوط النفسية والجسمية، ومجابهة المواقف الطارئة”، بل إنها عامل أساسي في مقاومة الأرق الذي يصيب الإنسان أحيانًا، ويتسبب في أضرار جسيمة على الجهاز العصبي وعلى ساعة الجسم البيولوجية. إن إفزاز الجسد للإندورفينات وتأثيرها المهدئ يلطف الجسم ويجعله يرتخي، الأمر الذي يؤدي إلى زوال القلق، فيخلد الإنسان إلى النوم العميق الهادئ، فيذهب الأرق، وما له من أضرار جسيمة على صحة الإنسان.

إندورفينات الجسم والوخز بالإبر الصينية

جاء اكتشاف وجود الإندورفينات في جسم الإنسان، ليفسر ظواهر علمية هامة من أهمها الطريقة التي يؤدي بها الوخز بالإبر الصينية إلى تخفيف الألم. كما هو معروف أن الوخز بالإبر الصينية، علاج تقليدي قديم استخدم منذ آلاف السنين، وأحاط به جانب كبير من الغموض والإبهام، ولم يكن له تفسير علمي مقنع، مما حدا بالبعض إلى إنكاره وإلحاقه بالشعوذة والدجل، وحدا بالبعض الآخر إلى المبالغة في تقدير فعاليته وتعظيم شأنه. وقد توصّل فريق بحث بعد تجاربه التي طبَّقها على مئات الأشخاص لمدة عام، إلى أن “الوخز بالإبر، يحث الدماغ والحبل الشوكي على إنتاج مادة ترفع بشكل مثير عتبة المرض أو مقدرة المريض على تحمل الألم”.

مزاولة الرياضة وزيادة إفراز الإندورفينات

ومن الملاحظات المثيرة للاهتمام، التي اكتشفها العلم أيضًا، فيما يخص زيادة إفرازات الإندورفينات داخل أجسامنا، فيما يتعلق بمزاولة النشاط الرياضي، حيث ثبت علميًّا، أن مزاولة الإنسان للأنشطة الرياضية، يزيد من إفراز الإندورفينات داخل جسم الإنسان، وهذا ما يفسر لنا قلة إحساس الرياضيين بالإصابات. كما تبين علميًّا أن وجود الإندورفينات في الجسم بصورة كبيرة، يفسر لنا -بطريقة لا شعورية- إدمان مزاولة الرياضة لدى بعض الرياضيين، بحيث لا يرغب الرياضي في التخلي عن مزاولة نشاطه، حتى ولو كان هناك عائق صحي يعوقه؛ حيث قامت تجارب بفحص دم بعض الرياضيين، فوجدوا ارتفاع نسبة إندورفينات المخ أثناء ممارستهم الرياضة، وثبت أيضًا بالفحص النفسي الطبي، أن هؤلاء الرياضيين كانوا معتدلي المزاج، منتشين دائمًا عند التدريب، وأن هناك علاقة قوية بين المزاج المبتهج والنشاط البدني، وخلصت الدراسة إلى القول: “إنه من المؤكد أن جرعات معتدلة ومنتظمة من الرياضة البدنية كفيلة بأن تجعلنا سعداء”.

وفي النهاية نقول، إن قوى أجسامنا واسعة النطاق ومدهشة بكل معاني الكلمة، وصدق الله العظيم حين قال: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(النمل:88).

(*) كاتب وباحث مصري.

الهوامش:

(١) كيف نشعر بالألم واللذة، د. محمد بهائي السكري، مجلة الهلال المصرية، عدد يناير عام 1992م.

(٢) كيمياء السعادة والألم، د. خليل فاضل، مجلة العربي، الكويت، العدد 403.

(٣) حوار مع جي شنج هان، حول العلاج بالإبر الصينية، أجراه دوجلاس ستين، ترجمة إبراهيم عبدالله العلو، مجلة الثقافة العالمية، الكويت، العدد 52.