من عجائب الخلق أن جهَّز الخالق المبدع الحيوانات تجهيزًا محكمًا يحفظ حياتها ويحقق مآربها. ففي مجال النظر -مثلاً- أمدّ الله سبحانه مخلوقاته بعيون توافق الحاجة الدقيقة لكل صنف منها؛ فجعل في الطائر ما لم يجعل في السابح، وفي الزاحف ما ليس في الماشي، وفي الليلي غير ما في النهاري.. فكانت العيون مختلفة بأشكالها وأعدادها ومواضعها وألوانها وأحجامها وحركاتها.
الحشرات هي الكائنات التي لديها أفضل قدرة على تمييز أكبر عدد من الصور في الثانية الواحدة؛ فالذبابة المنزلية -مثلاً- تستطيع تمييز حوالي 300 صورة في الثانية، ولو كان للإنسان نفس قدرة الذبابة لرأى الضوء الصادر عن اللمبات ذات الـ 50 هرتز وكأنه متقطع تمامًا كما في صالات الاحتفال الليلية.
الرؤية عند الحشرات
معظم الحشرات البالغة، لها عيون تختلف عن عيون الإنسان، حيث تتمتع بنوعين من العيون:
النوع الأول: زوج من العيون المركبة التي تتألف كل منها من مئات وأحيانًا آلاف العدسات الصغيرة، وتسمى “عوينات”؛ وهي مخروطية الشكل، تمكّن الحشرة من الرؤية في جميع الاتجاهات تقريبًا دون إدارة الرأس.
وتشترك كلها في تكوين الصور التي تراها الحشرة بالمخ وتعطي صورًا أقل تفصيلاً من عيوننا للعالم الخارجي؛ فكل واحدة منها تستطيع أن ترى قسمًا من الشيء الذي تنظر إليه الحشرة، فتكون النتيجة صورة مرتبكة باهتة مقطعة مثل الفسيفساء، مما يتيح للحشرة رؤية أدنى حركة بشكل ممتاز.
فالحشرة تستطيع رؤية الأجسام القريبة منها ولكن لا ترى بوضوح عن بُعد، ولهذا تطير الحشرات بسرعة إذا ما حاولت الاقتراب.
العين المركبة بسيطة التركيب، وكل عين ترسل صورة خاصة، بحيث إن الدماغ لا يحتاج إلى “جمع” الكثير من المعلومات قبل أن يكون صورة كاملة للمحيط. هذا الأمر يوضح سرعة ردة الفعل عند الحشرة، إذ يكفي أن تقوم عين واحدة بالتقاط حركة حتى تطير الذبابة مثلاً.
إضافة إلى ذلك، فإن العين المركبة حساسة جدًّا للضوء، فالإنسان -مثلاً- من أجل أن يرى يحتاج إلى 300 ألف فوتون على السنتيمتر المربع الواحد، في حين تكتفي الكثير من الحشرات بحوالي 160 فوتون.
النوع الثاني: ثلاث أعين بسيطة (تتكون من عدسة واحدة) تعلو العيون المركبة، اثنتان على جانبي الرأس وأخرى في أعلى الرأس، لا يتعدى نفعها التمييز بين النور والظلمة. وقد وجد أنه لو اسودت هذه العيون البسيطة، فإن الحشرة لا تتحرك حتى بالنهار. ولهذا يلجأ البشر إلى إطفاء الضوء أو إغلاق النوافذ نهارًا ليهرب الذباب من الحجرة. وسوف نستعرض في السطور القادمة بعض الأسرار الربانية في عيون بعض الحشرات.
حشرة التنين
هل سألت يومًا عن سبب السرعة الفائقة في الهروب لدى تلك الحشرات، ولماذا يصعب اصطيادها؟
توصل العلماء إلى أن الحشرات الطائرة -كحشرة التنين- تمتاز بأعينها المقسمة إلى أقراص هائلة العدد تصل في بعض الأحيان إلى 30 ألف قرص، لذا فأسلوب الرؤية عندها مختلف تمامًا عن البشر. لكن أهم ما يميز هذه الحشرة هو السرعة الفائقة التي يمتاز بها المخ في التعامل مع الصور المستَقبَلة، وعدد الأقراص الهائل في العين، مما يتيح للحشرة استقبال كل حركة مهما كانت صغيرة تراها عينها وتترجمها بأسلوب الحركة البطيئة (slow motion)، ثم تستجيب لها، وهذا هو السبب وراء الصعوبة البالغة في اصطياد هذه الحشرات.
عيون الذبابة مسوقة العينين
توجد هذه الحشرات الصغيرة والمدهشة غالبًا في أدغال جنوب شرق آسيا وإفريقيا ونادرًا في أوروبا وأمريكا الشمالية. حصلت هذه الحشرات على اسمها من عينيها المرتبطتين برأسها بساقين طويلتين، عادةً ما تكون سيقان العينين عند الذكور أطول بكثير من الإناث، والإناث تميل للذكور طويلي سيقان العينين. وخلال مواسم التزاوج تتحدى الذكور بعضها البعض بالوقوف مقابلة وملاصقة لبعض، ومن تكون سيقانه أطول يفوز بالأنثى. تستطيع هذه الذبابة نفخ وتطويل ساقي عينيه عن طريق ضخ الهواء بها، ويفعل ذلك غالبًا في مواسم التزاوج للفوز بالإناث.
عيون اليعسوب
يعتبر اليعسوب من أشهر وأمهر الحشرات في الصيد الجوي. وصاحب أغرب عيون من بين الحشرات؛ إن عينيه كبيرتان جدًّا لدرجة أنها تغطي الرأس بالكامل، مما يعطيها شكل الخوذة، وكذلك رؤية تشمل 360 درجة (يرى كل ما حوله تقريبًا). وتتكون هذه العيون من 30 ألف وحدة بصرية تدعى “أوميتيديا”. وكل وحدة من هذه الوحدات تحوي عدسة وسلسلة من الخلايا الحساسة للضوء، لكن حساسيتها للضوء هذه تتعلق برصد كل ما يتحرك فقط من حوله، وذلك مثل الضفادع.
ومن هنا، فهو لا يمكنه رؤية الألوان ولا الضوء المستقطب، ولكنه ماهر جدًّا في افتراس ضحاياه من حوله والهروب من المخاطر بسهولة أيضًا.
عيون النمل والبوصلة
لا ترى عيون النمل الأشياء ولكنها تفرق فقط بين الضوء والظلام. وللنمل حواس قوية جدًّا مثل الراديو تنقل إليه مظاهر العالم البعيدة والقريبة.
لقد أوجد الله في عيون النمل نظامًا خاصًّا يمكِّنها من تحديد اتجاهات سيرها، وهذا النظام يعدّ أكثر تطورًا من جميع الآلات المحددة للاتجاهات. فبعض الإشعاعات التي لا نستطيع نحن البشر رؤيتها، يستطيع ذلك المخلوق الصغير رؤيتها ويستعملها لتحديد الاتجاهات عند النظر حولها، وبالتالي يستدل منها على موقع كل اتجاه من اتجاهات الكرة الأرضية.
والغريب أن الإنسان لم يعرف خصائص الضوء والإشعاعات إلا في وقت قريب جدًّا، غير أن النملة تعرف خاصية الأضواء وتعمل بها منذ ولادتها.. أيْ إن هذه الخصائص توجد في عيون النمل منذ اللحظة الأولى من ولادتها، ولن تستطيع بدون هذه الميزة الرجوع إلى منزلها أبدًا، ما يعني أن مصيرها سيكون الموت.
عيون النحل
وجد العلماء أن النحلة تستخدم الأشعة فوق البنفسجية للرؤية، وهذه الأشعة تتميز بأن موجاتها قصيرة، لذلك تستطيع النحلة الرؤية بشكل أسرع بكثير من الإنسان، لأنه يجب عليها التمييز بسرعة أثناء طيرانها من أجل البحث عن غذائها بين الزهور. فالنحلة لو شاهدت فيلم فيديو -مثلاً- فإنها لا ترى إلا صورًا ثابتة، لأن سرعة الرؤية لديها أكبر من الإنسان، ولذلك فإن الصور المتتالية التي لا تميزها أعيننا فنراها وكأنها تتحرك، فإن النحلة تميز هذه الصور صورة صورة.
رياضيات النحلة: يقول العلماء: إن النحلة تستطيع القيام بمليون مليون عملية حسابية في الثانية الواحدة، وهذا يعدّ أسرع من أي جهاز كمبيوتر في العالم.
تظهر عين النحلة باللون الأحمر، وتظهر عليها أكثر من 30 ألف عدسة ضوئية فائقة، مما يجعل النحلة ترى أفضل منا بكثير. ويحاول العلماء اليوم صنع كاميرا بعدسات تشبه عين النحلة، ولكنهم يقفون عاجزين أمام روعة التصميم الإلهي المحكم لهذه العين.
تتألف عين النحلة من آلاف العدسات الصغيرة، وهي عبارة عن عدسات لها شكل سداسي. وقد وجد العلماء أن هذا التصميم يساعد النحلة على الرؤية عبر الغابات، وعلى تحاشي الاصطدامات أثناء طيرانها وبخاصة عندما تطير وسط حشد من النحل.
وما زال العلماء يندهشون أمام كيفية استطاعة النحلة تطوير عملية الرؤية عندها، مع العلم أن دماغها يحوي آلاف الملايين من الخلايا، وأن حجم هذا الدماغ لا يزيد على حجم رأس الدبوس.
رأس النحلة لا يتجاوز حجم دماغها رأس الإبرة، وعلى الرغم من ذلك يحوي آلاف الملايين من الخلايا، تعمل جميعها بسرعة مذهلة تعجز أضخم أجهزة الكمبيوتر في العالم عن تقليدها.. فقد زود الله تعالى كل نحلة ببرامج موجودة في خلايا دماغها، لذلك فهي تقوم بخطة مرسومة لها مسبقًا.. وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(النحل:٦٨)، فهو إذن، طريق مرسوم ووحي من الله بأسلوب نجهله نحن البشر.
يقول أحد علماء مصممي العين الاصطناعية التي حاول من خلالها تقليد عين النحلة: “كم أود أن أفهم كيف تستطيع الطبيعة تكوين طبقة فوق طبقة من البنى الكاملة المنظمة بدون الحاجة إلى تقنية دقيقة ذات تكاليف باهظة؟”. والجواب نجده في قول الحق تبارك وتعالى: (ذَلِكُمُ الله ُرَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الأنعام:10٢-103).
عيون عنكبوت وجه الغول
من المعروف أن العنكبوت يملك عيونًا كثيرة، ويختلف الأمر مع اختلاف نوع العنكبوت، حيث تكون اثنين أو أربع أو ست أو ثماني عيون. العنكبوت غولي الوجه يملك ستة أعين، ولكن يبدو وكأنه يملك اثنتين فقط، لأن العيون الأخرى صغيرة جدًّا. العنكبوت يتمتع برؤية ليلية ممتازة، وذلك ليس بسبب العينين الكبيرتين، ولكن بسبب طبقة حساسة خفيفة جدًّا من الخلايا تغطي تلك العيون. هذه الطبقة حساسة جدًّا للضوء تُدمر في الفجر عند شروق الشمس وتبنى واحدة جديدة بداية كل ليلة. بالإضافة إلى أن العناكب غولية الوجه، ترى في الليل تمامًا كما في النهار، مع فقدانها للبساط الشفاف الذي تملكه العناكب الأخرى والحيوانات الأخرى مثل السنوريات.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.