طبع الإنسان وعلاقته بالمرض

بداية نؤكد على حقيقة هامة هي أن الطبع غير التطبع وعكسه. فالطبعي مرادف للطبيعي الفطري، بينما التطبع كسبي، اتفاقي أو تعاقدي أو تقليدي؛ والطبع اختيار لماهية الوجود والكينونة في نطاق الإمكانات المشتركة، ومن هنا اقتران المفاهيم الكبرى بمفهوم الطبيعة المرادفة للفطرة والأصالة والبرهنة، كالحق الطبيعي والجمال الطبيعي والأخلاق الطبيعية، والدين الطبيعي والفن الطبيعي. وبعيدًا عن هذا المفهوم الفلسفي لتعريف الطبع، نتناول الطبع الذي جُبل عليه الإنسان من زاوية العلم والطب، من حيث هل لطبائعنا دور في اعتلال صحتنا؟ وهل هناك علاقة بين طبع الإنسان وإصابتة بأمراض معينة؟ وهل لو نجح الإنسان في التخفيف من حدة طبعه، سيقي نفسه من الإصابة بالعديد من الأمراض؟

حديث الطب

من أوائل الدراسات والأبحاث الطبية التي تناولت طبع الإنسان وعلاقته بالإمراض خاصة أمراض القلب.. تلك الدراسة التي ترجع إلى أوائل الستينيات من القرن الماضي، عندما وضع اثنان من الاختصاصيين في أمراض القلب -هما “ماير فريدمان” و”راي روزنمان”- تخطيطًا لشخصية المرء المهيأ للإصابة بأمراض الشرايين التاجية للقلب، واتضح أن مرضى الشريان التاجي يتصرفون بأسلوب متشابه في كثير من نواحيه. فقد كانوا شديدي التنافس، عدوانيين، متسرعين، نافذي الصبر، لا يقر لهم قرار.. كما كانوا يتصفون بأسلوب انفجاري في الحديث وتوتر عضلات الوجه، والإحساس بأن الوقت يسرقهم وأن مسؤوليتهم ثقيلة.. وفي مقابل ذلك، الأشخاص الذين تختفي عندهم هذه الصفات، تنخفض لديهم احتمال تعرضهم لمخاطر الإصابة بأمراض الشرايين التاجية(1). وقد توالت الأبحاث والدراسات التي حاولت الربط بين طبع الإنسان والإصابة بالأمراض، خاصة فيما يتعلق بأمراض الشريان التاجي، ومن أشهرها دراسة “المجموعة التعاونية الغربية”، التي لاحظت وجود علاقة قوية بين أصحاب الشخصية التي يتصف سلوكها بالعدوانية وقلة الصبر والتسرع وسوء الظن، أو ما يطلَق عليهم أصحابَ الطبع الحاد وأمراض الشريان التاجي. وقد أجريت الدراسة على ثلاثة آلاف وأربعمائة (3400) أمريكي من الذكور الخاليين من أمراض الشرايين التاجية، وعند بداية الدراسة تم تقويمهم بواسطة أطباء نفسانيين عن طريق مقابلات متعمقة لمعرفة النمط الذي إليه ينتمون؛ هل هم من أصحاب الطبع الحاد، أم من أصحاب الطبع الأقل حدة. وبعد مضي عامين ونصف، أجري فحص لهؤلاء المرضى، قام به أطباء أمراض باطنية مستقلون لم يكونوا على علم بالتصنيفات السلوكية السابقة، “فوجدوا أن إصابة الرجال بمرض شريان القلب التاجي، ومن أصحاب الطبع الحاد، الذين تتراوح أعمارهم بين 39-49 سنة، تبلغ ستة أمثال ونصف من مقدار الإصابة بين أصحاب الطبع الأقل حدة، هذا إلى جانب ظهور عوامل مخاطر التعرض لأمراض القلب، مثل ارتفاع ضغط الدم، ومستوى الكوليسترول لدى أصحاب الطبع الحاد.. وبعد مرور أربع سنوات ونصف سنة على الدراسة، وُجدت نفس العلاقة بين الأنماط السلوكية ومرضى شريان القلب التاجي، مع ازدياد معدلات الإصابة بمختلف أمراض القلب لدى أصحاب الطبائع الحادة”(2).

التوترات النفسية والعلاقة المرضية

وتؤكد الأبحاث الطبية أن هناك علاقة وثيقة بين أصحاب الشخصيات الذين يتصفون بالتوتر والعدوانية والعصبية، واستجاباتهم المرضية، ومن هذه الأبحاث الهامة، ما قام به فريق من الأطباء ينتمي إلى كلية “بومان جراي” للطب في شمال كارولينا، وأثبت البحث أن الضغوط والشدائد النفسية والتوترات العصبية الصادرة عن أصحاب هذه الشخصيات، تؤثر تأثيرًا شديدًا على بيولوجية أمراض القلب؛ فالضغوط المتكررة تساهم في سرعة تكوين انسدادات الشرايين والترسبات المؤدية إلى تصلب الشرايين، وتبدأ هذه العملية بإصابة ما في الغشاء المبطن للشريان، وإن الزيادات الكبيرة والمتكررة في كيماويات الجسم والمنظمة في الاستجابة للشدائد من أصحاب هذه الشخصيات، تساهم في تكوين تلك الإصابة”(3)، بل إن هناك أبحاثًا أخرى أظهرت أن سلوك التعصب والتصرفات الانفعالية الشديدة والعدوانية، والغضب الشديد لدى أصحاب هذا النمط من الشخصيات، يسبب اختناقات في المناطق المحيطة بالجسم، وفي الوقت نفسه، تزيد من معدل ضربات القلب، وهذا يعني أن هؤلاء الأفراد يحاولون نقل المزيد والمزيد نتيجة عصبيتهم الشديدة، من الدم خلال أوعية تتقلص أو تضيق باستمرار. وقد شبه الطبيب  “أليوت وبيويل” أحد أطباء فريق البحث، هذا التوجه من هؤلاء الأشخاص بسيارة نضغط فيها على الفرامل والبنزين في وقت واحد، وهذا ما يؤدي إلى ما يسمى بـ”الإنهاك للشرايين التاجية، الذي يؤدي بالتالي إلى التلف الناشئ عن تصلب الشرايين والمسؤول عن معظم أمراض الشريان التاجي”(4).

أصحاب الطبع الحاد وطرق الوقاية

إذا كانت دوافع التعصب والانفعال الشديد والتوترات التي تصدر من بعض الشخصيات -ممن نطلق عليهم أصحاب الطبائع الحادة- تقود إلى خطر الوقوع في مشكلات صحية خطيرة، فلا ريب أن دوافع تغير الإنسان لسلوكه اتجاه المواقف المختلفة، قد يكون له نتائج صحية طيبة.. وهناك ما يمكننا أن نطلق عليه روشته علاجية، قد لا يوصف فيها دواء، بقدر ما يعيد الإنسان من خلالها ترتيب أوراقه وتقييم سلوكياته وتصرفاته، اتجاه المواقف المختلفة التي تعترض طريق حياته. ومن ذلك:

مراقبة الإنسان لأفكاره الارتيابية

إن مراقبة الإنسان لأفكاره الارتيابية وظنونه السيئة بالآخرين عن طريق جلوسه مع نفسه قليلاً، وتذكُّر ما مر به من انفعالات كان سببها الآخرون، فمناقشة الإنسان لنفسه بالمنطق من حيث إنه شخص عقلاني، قد يطرد عنه الأفكار الارتيابية نحو الآخرين، ويجعله أن يضع نفسه موضع الآخرين بهذا الحديث الداخلي الصادق مع النفس. فلو فكر الإنسان بهذه الطريقة، سيكون ذلك طريق البداية لإيجاد قلب مطمئن، خالٍ من التوتر والانفعال لأتفه الأسباب، ولدرك مدى سخف شكوكه في دوافعها، وربما اكتسب شيئًا من الاستبصار، بأن يحاول فهم سلوك الآخرين من وجهة نظرهم، والأهم في معظم الحالات سيجد الإنسان أن عصبيته ستزول، فالغضب والتعاطف لا يقترنان.

الاعتراف بالمشكلة صراحة

إن اعتراف الإنسان بمشكلة ما صراحة، والرغبة في اتخاذ إجراء شأنها بالسعي للحصول على عون ومشاورة المحيطين به، له أهمية كبيرة في تجاوز ما يمر به من مواقف عصبية اتجاه الآخرين، فإن يُطلع الإنسان شخصًا آخر -كالزوجة مثلاً أو صديق مقرب- بأنه يعاني من مشكلة ازدياد العدوة في نفسه، ويطلب منهم المساعدة بالرأي، فإن ذلك اعترافًا وعملاً من أعمال زرع الثقة والاطمئنان للآخرين. ولا شك أن مثل هذه الأفعال والأفكار التي تنم عن هذه الثقة، لها أثر طيب.. فإذا كان في قدرة الشخص الآخر أن يدعمك ويفيد جهودك، فذلك يعني أنك قد نلت مكافأة على كونك أكثر ثقة بالناس، وسيساعد هذا كل شعورك بأنك آمن في استعانتك بالآخرين، فإن ممارسة الثقة بالآخرين والاطمئنان إليهم استراتيجية لها قيمتها.

ممارسة الاسترخاء

إذا لم يستطع الإنسان أن يوقف أفكاره المستريبة، فإن هناك سلوكًا قويًّا جديدًا هو التأمل، والتأمل كما وصفه “هيربرت بنسون” اختصاصي القلب في مدرسة الطب بجامعة هارفارد، في كتابه الرائد “استجابة الاسترخاء”، ربما كان من أنجح الوسائل لتفريغ عقل الإنسان من كافة الأفكار المريبة، وأن ممارسته بانتظام حتى في الأوقات التي لا يتعرض فيها الإنسان لمواقف شديدة وصعبة، سيؤدي إلى صرف عقل الإنسان على النمط المعتاد للأفكار الارتيابية، كما يكون وسيلة هامة لمجابهة الغضب الذي قد يشعر به إذا كانت أفكار الإنسان قد وصلت إلى تلك المرحلة.

تأكيد الذات

تأكيد الذات له أهمية كبيرة، فإذا ما عاملك أحد معاملة سيئة، فما الذي يجب عليك عمله؟ إن أي إنسان عادي سينتابه الغضب عندما يعامَل بطريقة سيئة، وخاصة إذا كان هذا الشخص الذي صدر منه هذا التصرف السيئ نحونا، شخصًا لا يمكننا تجنبه، كأحد أفراد الأسرة مثلاً، أو زميل في العمل وما شابه ذلك، فعليك أولاً أن تخبره بهدوء بما آلمك من سلوكه، ثم لماذا لا نقترح عليه حلًّا للمشكلة، فكثيرًا ما يكون ذلك بمثابة نوع من الرجاء، أن يتوقف عن ذلك السلوك الذي لا يعجبك فيه، وأكِّد لذلك الشخص في مثل هذه الحالة أنك حريص عليه، وأنك تُقدره حق قدره، وتأمل أن تستمر علاقتكما، وأن تسعد بها، واطلب منه ردًّا على طلبك وانتظر بصبر وأنصت بهدوء وعناية، بأن تتعلم كيف تؤكد ذاتك، فإن ذلك أمرًا هامًّا وبديلاً بناء للعدوان والغضب، والأهم من ذلك أنه طريق هام لخلق قلب أكثر ثقة واطمئنانًا.

ممارسة الصفح

ممارسة الصفح الاستراتيجية الأخيرة، هي أن تصفح عمن أساؤوا إليك ولو أغضبوك، فبدلاً من أن تلقي اللوم عليهم، حاول أن تفهم انفعالات هذا الذي أساء إليك، فإنك بالتخلي عن الحقد ورفض الانتقام، ستجد أن عبء غضبك قد انزاح عن كاهلك، وأن آلامك قد خفت، مما يساعدك على نسيان الإساءة. 

وفي النهاية نقول، إن تغير الإنسان لطبعه، قد يكون سبيل الوقاية والحماية له من الوقوع تحت وطأة المرض وحدته، وهذا ما أظهرته مجلة “نيو انجلاند” الطبية في دراسة أجريت على المرضي من ذوي الطبع الحاد ومن هم أقل حدة، حيث وُجد أن نسبة من ماتوا من تلك العينة خلال الأربع والعشرين ساعة التالية على إصابتهم بشريان القلب التاجي من كلا النمطين متساوية تقريبًا. والأمر الأهم وُجد من بين 231 مريضًا ممن تعرضوا لأزمة قلبية لمدة 24 ساعة على الأقل ونجوا منها كانت نسبة من ماتوا من أصحاب الطبع الحاد أقل بكثير ممن ماتوا من أصحاب الطبع الأقل حدة(5). وقد أرجع الأطباء ذلك إلى أن أصحاب النمط الحاد يكونوا قد نجحوا في تغيير سلوكياتهم وأنماط حياتهم، الأمر الذي خفف من حدة الإصابة بالمرض، بعكس أصحاب النمط الآخر الذين يكونوا قد ورثوا استعدادًا للإصابة به، وهو استعداد لا يرتبط بأي طريقة من طرق الحياة القابلة للتعديل، وهم بهذا الشكل أقرب إلى أن تتكرر إصابتهم بمرض شريان القلب التاجي من المرضى أصحاب النمط الأول، الذين قد تكون طريقتهم في الحياة وتعرضهم للمخاطر قابلة للتغير، الأمر الذي يبعث بعض الطمأنينة إلى روع أصحاب النمط الحاد.. فإنهم إذا ما تغلبوا على أول أزمة مرضية، فستزداد أمامهم فرصة الوقاية من المرض إذا ما هم نجحوا في تعديل أنماط سلوكهم. 

الهوامش:

  • هل ذوو الطبع الحاد عرضة للنوبات القلبية، كاي كوبر. ترجمة: د. محمد علي عارف، مجلة الثقافة العالمية، العدد:52.
  • المصدر السابق.
  • كيف يُشفى أصحاب النمط الحاد من عللهم، ردفورد ويليامز. ترجمة: د. لطفي محمد فطيم، مجلة الثقافة العالمية، العدد:52.
  • العلاقة بين نموذج سلوك النمط الحاد وأمراض الشريان التاجي، لوجان رايت. ترجمة: د. لطفي محمد فطيم، مجلة الثقافة العالمية، العدد:52.
  • هل ذوو الطبع الحاد عرضة للنوبات القلبية، مصدر سابق.