إذا كان الإنسان في الإسلام هو مشروع حضاري، فإن الطفل المسلم هو مشروع ذلك المشروع فهو يمثل بالنسبة لنسل الإنسان ما تمثله البذرة لاستمرار نوع ونسل الشجرة المثمرة. وإذا كانت كل المجتمعات التي شهدها التاريخ البشري قد تعاملت مع الطفولة والأطفال على نحو واسع إلا أن عناية العرب بالطفل احتلت منزلة كبيرة أوجبها تراثهم الديني والأدبي، فلم نجد أمة تكرم الأطفال وتعتز بهم أكبر اعتزاز، لدرجة أنها تفتخر بالاعتناء بالأطفال وتعظم الكنية بهم.
ولعل أعظم إسهامات الإسلام في الأنساق المتغيرة للطفولة هو الالتزام بالتعليم الذي حفز عليه الدين الإسلامي، ذلك التعليم الذي كان بمنزلة الجسر بين ما كان من قبل في الحضارات الأخرى، إذ تركز التعليم في طبقة النخبة وبين التعليم المدرسي الشامل الذي هو من خصائص المجتمعات الحديثة. فقد أتاح الإسلام للأسر الفقيرة أن تعلم أطفالها في المسجد أو مدرسة القرآن (كُتاب) ولم يكن الكُتاب يعلم الدين والأخلاق فقط، بل القراءة والكتابة والخط والأدب والفلسفة والحساب وبعض الرياضات والألعاب.
– الطفل لغة:
الطفل: الأخص الناعم في كل شيء والجمع أطفال وطفول، والأنثى طفلة.
والطفل: الصغير من أولاد الناس، الصغير في كل شيء من المولد إلى أن يحسن، والجمع أطفال ومؤنثه طفلة والجمع طفلات. الطفل والطفالة والطفولة والطفولية: حداثة السن من ساعة الولادة إلى سن التمييز.
– الطفل في القرآن الكريم:
وردت كلمة الطفل في القران الكريم في عدة آيات قرآنية منها قوله تعالى: “ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم” (الحج: 5)، وكذلك قوله تعالى: “أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء” (النور: 31)، وكذلك: “وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم” (النور: 59)، وكذلك: “ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلعوا أشدكم” (غافر: 67)، واعتبر الله عز وجل الطفل زينة الحياة الدنيا، وقد وردت الآيات القرآنية في ذلك: “المال والبنون زينة الحياة الدنيا” (الكهف: 46)، والأطفال قرة العين كما وصفها الله عز وجل: “والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين” (الفرقان: 74)، وكذلك قال تعالى: “قالت امرأة فرعون قُرة عين لي ولك” (القصص: 9)، وقوله تعال: “ورددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن” (القصص: 13).
وقد هيأ التشريع الإسلامي القرآني للجنين كل سبل الرعاية والعناية. وهيأ من حوله للحفاظ على هذه الحقوق: يقول تعالى: “وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن” (الطلاق: 6)، و: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين …” (البقرة: 233).
– الطفل في السنة النبوية:
رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب أعباء جسام، تثقل كاهله لكونه رسول وإمام وقائد، لكن هذه المسؤوليات العظيمة لم تمنعه من العناية بالأسرة التي هي أهم ركن في المجتمع المسلم، وبالطفل الذي هو عماد هذه الأسرة، فكانت أفعاله وأحاديثه وتوصياته صلى الله عليه وسلم في هذا المجال مثال يحتذى به سبقت علوم التربية الحديثة بقرون طويلة، لذا كثرت الأحاديث النبوية الشريفة حول الطفل في جميع أطوار مراحل نشئه حتى قبل أن يوجد.
ولقد امتدت رعاية الرسول الكريم للأطفال منذ لحظة التفكير في الزواج الذي حث عليه الإسلام، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”، وقال صلى الله عليه وسلم: “تُنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه”.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأبوين بتسمية الطفل باسم حسن محبب إليه، فقال: “تسموا بأسماء الأنبياء، وأحبُ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة”. وغير رسول الله اسم طفلة: “عاصية” وقال: “أنت جميلة” وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الغلام يُعق عنه يوم السابع، ويُسمى، ويماط عنه الأذى”. وقال صلى الله عليه وسلم: “إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء أبائكم فأحسنوا أسمائكم”، وقال: “من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه”.
والرسول في هذا القدوة والمثل: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم”، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له أبو سيف، فانطلق يأتيه، واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف، وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف: أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول”.
ومن المؤثرات المهمة في تربية الطفل القدوة، قوله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأديب الأطفال وتعليمهم وغرس الأخلاق الكريمة في نفوسهم، وترسيخها في أذهانهم وتعويدهم حُسن السمت والتحلي بالصدق والأمانة واحترام الكبير فقال: “ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه”.
وقال عليه السلام: “ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن”، وقال: “إلزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم”.
وقد أرشد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى السن الذي يبدأ فيها تأديب الطفل وتعليمه فقال في حديث طويل: “فإذا بلغ ست سنين أُدِّب”.
ويدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بتعليم الأطفال أنه أطلق سراح بعض أسرى بدر مقابل تعليم الأطفال القراءة والكتابة، وقال: “الناس عالم ومتعلم، ولا خير فيما عدا ذلك”.
كما قال عليه السلام: “حق الولد على والده أن يعلمه كتاب الله عز وجل والسباحة والرمي”.
كما بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مدى رسوخ العلم من الصغر ومدى ما يكون من أثر واضح وفرق كبير بين التعليم في الصغر والتعليم في الكبر فقال صلى الله عليه وسلم: “من تعلم وهو شاب كان كوشم في حجر، ومن تعلم العلم بعدما يدخل في السن كان كالكاتب على ظهر”.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يولي الأطفال العناية فيرشدهم ويعلمهم الأدب، حتى إنه يُعلم طريقة الأكل، فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لعمران ابن أبي سلمه عندما رآه يأكل وتطيش يده في الصفحة: “يا غلام سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك”.
أما سلوك النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال والأولاد، وكيف كان يشملهم بعطفه وحنانه الأبوي، ويهتم بتربيتهم، ومراعاة نزعاتهم الفطرية: فلقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حق الطفل في الاستمتاع بالراحة واللعب البريء فقال: “من كان له صبي فليتصاب له”.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن معاوية بن أبي مزرد عن أبيه، قال سمعت أبا هريرة يقول: “سمع أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن والحسين، وهو يقول: “ترق عين بقه” فيضع الغلام قدمه على قدم النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفعه فيضعه على صدره، ثم يقول: افتح فاك فيقبله ثم يقول: اللهم أحبه فإني أحبه”.
وعن جابر قال: “دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربعة، وعلى ظهره الحسن والحسين، ويقول: نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما”.
وروى أبو قتادة رضي الله عنه قال: “بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، إذ خرج علينا وأمامه بنت أبي العباس بنت ابنته على عنقه، فقام رسول الله في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، فكبر فكبرنا، حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام، أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة، حتى فرغ من صلاته”.
وفي السنة النبوية أنكر الإسلام التمييز في الأطفال بين الذكر والأنثى وأمر بالعدل بينهم، وميزت البنات بأن جعلها الله حجابًا للآباء من النار عند حسن تربيتهن. فقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عقبة بن عامر الجهني قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جِدَته (ماله) كنّ له حجابًا من النار”.
كما حث على عدم التمييز بين الذكور والإناث، عن أنس بن رضي الله عنه: “أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءت بنت له فأجلسها بين يديه فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ساويت بينهم؟”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الله واعدلوا في أولادكم”.
ولم تقتصر عناية النبي صلى الله عليه وسلم على الأطفال روحيًّا ومعنويًّا وخلقيًّا فحسب، وإنما تعدت ذلك إلى الاهتمام بصحتهم وتقوية أجسامهم، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بتحنيك الأطفال المواليد بالتمر، فقد جاء عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة فخرجت فأتيت المدينة فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله عليه وسلم ثم حنّكه بالتمر، ثم دعا له فبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا به فرحا شديدًا، لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم، وهذا التحنيك علاج وقائي ذو أهمية بالغة، وهو إعجاز طبي لم تكن البشرية تعرفه وتعرف مخاطر نقص السكر (الجلوكوز) في دم المولود، وأن المولود خاصة إذا كان خداجًا يحتاج دون ريب بعد ولادته مباشرة إلى أن يعطى محلولاً سكريًّا.
وختاماً:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحتفي حفاوة كبيرة بالأطفال، وكان إذا ما قابلهم جاملهم ولاطفهم وكأنهم رجال كبار، ويحرص أن يعاملهم بالتساوي وبأسلوب يُرضي الجميع، وإذا ما مرّ عليهم في الشارع وهم يلعبون نظر إليهم بإكبار وعاملهم بوقار وبادرهم بالسلام، فكانوا يردّون عليه بدورهم قائلين: “وعليكم السلام يا رسول”. وكان رسول الله صلوات الله عليه وسلامه يقدرهم ويبجلهم كثيرًا فإذا ما وعد أحدهم وعدًا كان يفي به في حينه وأوانه وكأنه عاهد إنسانًا كبيرًا.
عن عبد الله بن عامر أنه قال: “دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أُعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كِذبه”.
بهذا أراد الإسلام أن يجعل الطفل مخلوقًا يرقى نحو الخير والتقوى والصلاح ويصبح فردًا سويًّا في هذه الحياة ليحقق الحكمة من استخلاف الله له في الأرض.