تعد “مصر” أنموذجًا فريدًا من نماذج الحالات المنفردة والمتفردة في كلٍ من تاريخها وموقعها الجغرافي، إذ إن كونها واحةً خصبةً في ذلك الخضم المترامي المعروف بالصحراء الكبرى، إضافةً لانفرادها بذلك الموقع المتحكم في تجارة العالم منذ العصور القديمة وحتى الزمن الحاضر، قد جعلا منها محط أنظار مختلف الإمبراطوريات التي ظهرت على مر التاريخ كالإمبراطورية العثمانية، التي أنشأ سلطانها فاتح المشرق “سليم الأول” – الشهير بـ “ياوزاي” – ذلك النظام الثلاثي العمد، والذي حاولت الدولة العثمانية من خلاله أن تحتفظ بمصر في حوزتها، ولكن مماليك مصر من بقايا سلطنة المماليك الجراكسة قد اختزلوا ذلك النظام في شخوصهم، حتى صارت “مصر المحروسة” محكومة بهؤلاء البكوات الشراكسة الأربع والعشرين، والذين كانوا ينقصون في بعض العصور إلى ستة عشر بك، ينضوون جميعًا تحت لواء ما كان يعرف بـ “شيخ البلد”، والذي كان الحاكم المطلق لمصر طيلة القرن الثامن عشر.
كان هؤلاء البكوات أشبه بطائفة النبلاء في “فرنسا” في عصر ما قبل الثورة الفرنسية، بل إنهم كانوا أشبه بالطبقة الأوليجاركية، التي تشكل ما يشبه السلالة الحاكمة غير الوراثية، بمعنى أن وراثة الحكم لا تقوم على دعائم الوراثة بل على توافر شروط الحكم فيمن يليه، وكانت تلك الشروط ببساطة تتلخص في “الفروسية”، والقدرة على مغالبة الخصوم من الفرسان المناظرين، وإجادة فنون الحكم في شكلها العام، إضافةً لإجادة اللغة التركية، والتي كانت اللغة الرسمية لمصر منذ فتحها على يد “سليم الأول” عام 1517 م، وحتى اعتماد اللغة العربية مرةً أخرى كلغةٍ رسميةٍ للبلاد في عهد الخديوي “سعيد باشا ابن محمد على” عام 1860 م.
العمائر المملوكية في القرن الثامن عشر
كان المماليك شغوفين بالعمارة، حتى إن عهد دولة المماليك البرجية ( 1382 – 1517 م) عرف بالعصر الماسي للعمارة الإسلامية، وكان هؤلاء البكوات المماليك امتدادًا لأسلافهم من سلاطين المماليك القدماء، حتى إن إضافات الأمير “عبد الرحمن كتخدا” لعمارة الأزهر كانت أعظم المآثر التي انضافت إليه عبر العصور المختلفة، كما وأن جامع أبى الذهب المجاور للأزهر كان يضاهي جامع السلطان الغوري ذاته في استحكام بنائه الذي حوى من الأعمدة والحوائط الرخامية أكثر من ثلاثمائة عامود ولوح، بما يعطي فكرةً عن استعادة “مصر المحروسة” خلال القرن الثامن عشر لمهارتها الحرفية القديمة، والتي دفعت السلطان “سليم الأول” لاستجلاب ألفٍ من معلمي المعمار المصريين إلى “اسطنبول” كي يجعلوها مضاهيةً للقاهرة، والتي حوت من الآثار المعمارية التي بنيت في القرن الثامن عشر الميلادي ما دفع علماء الحملة الفرنسية إلى الاعتراف بتفوق طراز بناء قصر الأمير “حسن كاشف شركس” القائم بمنطقة الناصرية بالقاهرة، والذي كان مقرًّا للمجمع العلمي الفرنسي خلال عهد الحملة الفرنسية، على بناء قصر اللوفر الذي كان ولم يزل درة العمارة الفرنسية على مر العصور. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا ذلك القانون الخلدوني الراسخ، أدركنا حجم ملك دولة البكوات المماليك في فترة القرن الذي سبق قدوم الحملة الفرنسية على “مصر”، والتي استخدمت في ذلك اليوم الممطر من أيام أبريل عام 1800 م أحدث ما وصل إليه العلم من وسائل الحرق والتدمير من أقراص النفط السريعة الاشتعال، والأرواح المقطرة التي لا ينطفأ لهيبها بالنار بل يشتد، وتلك الفتائل المغموسة في الزيت والقطران لتدمير تلك “القاهرة” عاصمة الإسلام وحضارته منذ أن سقطت “بغداد العباسية” بيد “هولاكو” عام 1258 م.
كانت “القاهرة التجارية” تمتد حول الجامع الأزهر ومسجد الحسين، وهما اللذان كانا “قصبة” القاهرة في ذلك العصر، كما وكانت “قاهرة الأمراء” تمتد حول بركة الأزبكية، والتي كانت تمتلئ منذ شهر مسرى القبطي “أغسطس” بماء الفيضان الوارد إليها عبر الترعة الآخذة من النيل، وكانت المراكب تسبح فيها بين قصور البكوات والأعيان، خلال تلك الفترة من أواخر الصيف حيث كان مرتادي تلك القوارب والمراكب الشراعية يستطلعون قصور البكوات المماليك المنتمين لبيت القازدوغلي، وهو ذلك البيت المملوكي الحاكم الذي أخرج “علي بلوط قبان” الشهير بـ “علي بك الكبير”، الذي فتح الحجاز واليمن، وكاد أن يفتح الشام لولا أن خرج عليه زوج ابنته “محمد الخازندار” –الشهير بـ “أبى الذهب “– بسبب تفكير حميه في شق قناة السويس، قبل أن يشرع “فرديناند دليسبس” في حفرها بعشرات السنين، وكان “أبو الذهب” يرى بعينٍ بصيرةٍ ذلك التدخل الأوربي المقيت الذي سبق وأن حدث في بلاد الهند المسلمة بما أدى لاستعمارها، مثلما استعمرت “مصر” نفسها بعيد فتح “قناة السويس ” في القرن التالي. ويذكر أن تسميته أبا الذهب جاءت من نثره عملةً ذهبيةً إيطاليةً تسمى “السكين” على أهالي “القاهرة”، بعد أن جرى تعيينه أميرًا للحج، وهو ذلك المنصب العسكري الرفيع السابق الإشارة إليه.
اليقظة المعرفية في ذلك القرن
ولا يمكن للناقد البصير إلا أن يعجب بالنشاط العلمي والتثقيفي لأبي الذهب، الذي لم يلِ ملك مصر بعد وفاة سيده “على بك” سوى عامين فقط، فقد وافته المنية هو الآخر بعد فتحه “عكا” حيث لم تأتِ أنباء انتصاره المؤزر إلا مقترنةً بنبأ وفاته. حيث إن تشييده للـ “أزهر الثاني” كان مأثرةً له، من حيث كونه قد خصص جامعه هذا لتدريس الفقه على المذاهب الثلاث الشافعي والمالكي والحنفي، والذي كان بدوره مذهب الدولة العثمانية منذ نشأتها. وكان من مآثر ذلك العصر أيضًا أن عاد للأدب قدره، بعد أن عده بعض علماء الأزهر مشغلة البطالين، وكانوا يعدون نكته ضربًا من قلة الحياء، فظهر في مصر أدباءٌ كـ “إسماعيل ابن إبراهيم ابن محمد” الشهير بالخشاب، والإمام الأكبر “حسن العطار”– شيخ الأزهر– صاحب المصنفات الكثيرة في الطب، والفلك، والمنطق، ودواوين الشعر. والذي حكى فيه تلميذه “رفاعة رافع الطهطاوي” أنه رأى بخط يده هوامش جليلة على كتاب “طبقات الأطباء” لابن أبي أصيبعة، كما وأن تنميقاته الأدبية التي رفدت “مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس” بروائع ما هو منظومٌ ومنثورٌ في تواريخ الحملة الفرنسية، كانت مما يؤكد على تنامي العلم بالإنسانيات والآداب، التي هي سر تطور الوعي لدى الأمم.
وقد وضع “حسن الجبرتى” “رسالةً الدقائق” في تطبيقات العلوم الفلكية، وقد تمثلت قيمة تلك الرسالة في أنها حددت للمرة الأولى مواقيت شروق الشمس –التي هي ابتداء النهار عند العرب– فيما بين يومي الخامس عشر من أكتوبر والرابع عشر من نوفمبر، وهي تلك الفترة التي كانت غيوم الخريف تحول فيها بين التحديد الدقيق للحظة الشروق، والتي كانت تنبني عليها من ثم كثيرٌ من التقويمات الفلكية، وذلك مثل دخول الشمس برج الميزان، الذي هو بدء الاعتدال الخريفي، والذي كان ينبني عليه بدء السكون الاستوائي الثاني، حيث كانت الرياح تسكن في منطقة خط الاستواء خلال فصلي الربيع والخريف، بما كان يحول دون إبحار المراكب الشراعية الحاملة للبضائع في هذين الفصلين، وليس هناك ثمة شكٍ في أن استكمال التقويم الخريفي بواسطة ضبط مواقيت شروق الشمس في تلك الرسالة كان من شأنه تيسير وضع دليل بحري مفصل للإبحار في المناطق القريبة من خط الاستواء، تلك المناطق التي تندرج “شبه القارة الهندية” في دائرتها الجغرافية، ولا يخفي أن “شبه القارة ” تلك كانت محورًا للتجارة العالمية في زمن “حسن الجبرتي”.
إن بروز مؤرخٍ ناقدٍ بقدر “عبد الرحمن الجبرتى” كان دليلاً على تطور حالة الأفكار في تلك الفترة من القرن الثامن عشر، وهو ذلك القرن الذي عرف بعصر دولة الأمراء – أي البكوات المماليك الشراكسة وزعيمهم الذي لقب بـ “شيخ البلد”-، بما يعطي فكرةً عن تمتع الأقاليم العربية في الدولة العثمانية باستقلالٍ فعلي عن دار الخلافة في “اسطنبول”، بما يعنى توافر نفس تلك المعطيات التي سبق وأن تمتعت بها “مصر” في عصر سلاطين المماليك الشراكسة، حيث كان ظهور مؤرخٍ عظيمٍ بحجم “عبد الرحمن الجبرتى” في فترة القرن الثامن عشر هو المكافئ المعرفي لظهور سلفه “تقي الدين أحمد المقريزي” في القرن الخامس عشر الميلادي، كما وأن الحكم على تلك الفترة المتردية التي سبقت قدوم “حملة نابليون” المدمرة للديار المصرية وتعميمها على “عصر دولة الأمراء المماليك”، الذي امتد طيلة القرن الثامن عشر، يعتبر حكمًا شموليًّا فاسدًا . وذلك من حيث إن شيخوخة دولة الأمراء واعتيادهم الترف واستنامتهم عن حماية الثغور في أخريات ذلك العصر، تعد في واقع الحال سلبياتٍ طبعت فقط أخريات ذلك العصر، والذي شهد بروز حكامٍ عظامٍ وطموحين من أمثال “عثمان بك ذو الفقار”، و”علي بك الكبير” – الملقب بسلطان مصر وخاقان البحرين-، حيث تكاثرت في أخريات القرن الثامن عشر تلك المصائب على “مصر” من طاعون العام 1790 م، والذي أودى فيما أودى بحياة إمام العربية “محمد مرتضى الزبيدي”، إلى مجاعة العام التالي التي أودت بحياة ثلث سكان البلاد، إضافةً لنزق وفساد “مراد بك” الذي حكم البلاد بالاشتراك مع زميله “إبراهيم بك” منذ وفاة “محمد بك أبي الذهب” عام 1775 م، وحتى قدوم الحملة الفرنسية، بما أدى لترسخ تلك الصورة السوداوية عن حال “مصر” قبل الحملة الفرنسية، وهي تلك الصورة المغلوطة التي بنى عليها المستشرقون تلك الأكذوبة القائلة بالصدمة الثقافية التي أحدثها قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، وهي تلك الصدمة التي أخرجت الشعب المصري وغيره من شعوب المنطقة من ظلمات القرون الوسطى إلى نور الفكر الغربي الحداثي على زعمهم.
سمة القرن الثامن عشر
كانت “القاهرة” قبل فتحها الحديث على يد “نابليون بونابرت” أكبر مدن الشرق قاطبةً، فقد استعادت خلال القرن الثامن عشر مكانتها التجارية العالمية السابقة على اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، بفضل تساهل البكوات المماليك في منح الرخص التجارية والتسهيلات الجمركية للحكومات والتجار الأوروبيين، وهو ما أدى للرواج التجاري الذي زاد عدد الوكالات التجارية الفرنسية في القاهرة من خمسة عشر وكالة تجارية عام 1715 م، إلى أكثر من خمسين وكالة تجارية في منتصف هذا القرن، ويبدوا أن عبقرية الموقع المصري قد تغلبت مع الزمن على تلك الحركة الالتفافية التي قام بها “فاسكو دي جاما” البرتغالي عام 1498 م، وهي تلك الحركة الاستكشافية ذات الطابع التآمري، والتي حرمت “مصر” حينًا من عوائد الجمارك التي كانت تجبى على التجارة الهندو / أوربية من القرفة والتوابل، وهي تلك السلع الحيوية التي كانت تستعمل لحفظ اللحوم في عصر ما قبل اكتشاف المبردات الكهربائية. وكان قلب “القاهرة” المتمثل في منطقة الأزهر وما جاورها مثالاً لذلك الرواج التجاري، الذي كان صخبه انعكاسًا لظهور طبقة مساتير الحال المصرية، وهي المكافئ الموضوعي للطبقة البرجوازية الفرنسية، والتي كانت المحرك الرئيس لحوادث الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت تلك البرجوازية المصرية هي قوام ذلك الحراك الثقافي التنويري الذي قام بأوده الرياضي والفلكي “الشيخ حسن ابن إبراهيم الجبرتى”، وإمام العربية “محمد مرتضى الزبيدي” السالف الذكر، والذي وضع “تاج العروس في شرح جواهر القاموس” في أربعين جزءًا، مضارعًا بذلك أئمة العربية القدامى مثل “ابن منظور” صاحب “لسان العرب”، و”ابن هشام النحوي” –الذي قيل فيه أنه أنحى من سيبويه-، وكان “الزبيدي الكبير” أول من لفت أنظار الشيخ “عبد الرحمن الجبرتي” إلى أهمية التصنيف في التاريخ، بعد أن أرسل إليه الأديب الدمشقي “محمد خليل المرادي” هديةً برسم تأليف كتابٍ جامع لتراجم أعلام المائة الأخيرة، فكان قد كلف “عبد الرحمن الجبرتي” بتلك المهمة الجسيمة، ولكن وفاة “الزبيدي” بالطاعون عام 1305 هـ “1790 م”، ثم وفاة “المرادي” في العام التالي حالتا دون نفاذ ذلك المشروع، حتى تنبهت فرائص مؤرخنا الكبير إلى تدوين وقائع الحملة الفرنسية في صورة تلك اليوميات التي أخرجها بعد ذلك في كتاب “مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس”، الذي كان إحياءًا للفلسفة الخلدونية في نقد التاريخ وتقييم وقائعه.