لدى الإنسان ميل طبيعي للسفر والاغتراب والهجرة، وهذا الاتجاه إما أن يكون خصوصية مكتسبة نتيجة للممارسات المتكررة على مدى ملايين السنين، أو شيئًا مشفَّرًا في جيناتنا. ومع ذلك فهو موجود ويحفزنا على الانتقال من مكان إلى آخر. والسبب وراء هذا الاتجاه الدائم، هو سعينا لحياة أفضل، وما دامت الحاجة إلى حياة أفضل قائمة، فسوف نستمر في الهجرة. وقديمًا قال الشاعر:
تَغَرَّبْ عن الأوْطان في طَلَب العُلَا | وسـافِرْ فَفي الأسفارِ خَمْسُ فوائدِ |
تَــفَـرُّجُ هَـمٍّ وَاكـــتــــسـابُ مــــعـــيــــشـةٍ | وعــلْــمٌ وآدابٌ وصُــحْــبــــةُ مـاجِــدِ |
وفي 4 كانون الأول/ديسمبر 2000م، أعلنت الجمعية العامة يوم 18 كانون الأول/ديسمبر، يومًا دوليًّا للمهاجرين، بعد الأخذ بعين الاعتبار الأعداد الكبيرة والمتزايدة للمهاجرين في العالم. وقد قامت الدول الأعضاء الـ 132 التي شاركت في الحوار الرفيع المستوى بشأن الهجرة الدولية والتنمية، بإعادة تأكيد عدد من الرسائل الرئيسية؛ فأولاً، شددت الدول على أن الهجرة الدولية ظاهرة متنامية، وعلى أنها يمكن أن تشكل إسهامًا إيجابيًّا في التنمية في بلدان المنشأ وبلدان المقصد، شريطة أن تكون مدعومة بالسياسات السليمة. وثانيًا، أكدت على أن احترام الحقوق والحريات الأساسية لجميع المهاجرين، أمر أساسي لجني ثمار الهجرة الدولية. وثالثًا، أقرت بأهمية تعزيز التعاون الدولي في مجال الهجرة الدولية على الصعيد الثنائي والإقليمي والعالمي.
وفي 2019م، وصل عدد المهاجرين إلى 272 مليون شخص، أو 3.5% من سكان العالم خارج بلادهم الأصلية. وقد شهدت الدول العربية حوالي 40 مليون مهاجر في عام 2019م، منهم 9.3 مليون من اللاجئين، ويشكل هذا العدد 9.3% من إجمالي السكان في المنطقة العربية.
دور الهجرة في التنمية الاقتصادية
تلعب الهجرة دورًا متزايدًا باعتبارها من العوامل المساهمة في التنمية، حيث يقدم المهاجرون مساهمات مهمة في الازدهار الاقتصادي لبلدانهم المضيفة، وفي التدفق المالي والتكنولوجي والاجتماعي، ورأس المال الإنساني عندما يعودون إلى بلدانهم الأصلية، مما يساعد على تقليل الفقر، ويحفز التنمية الاقتصادية هناك أيضًا.
ففي عام 2004م، أدت الزيادة في العدد الإجمالي للمهاجرين، إلى زيادة تدفق التحويلات المالية الرسمية من المهاجرين إلى أقاربهم في بلدهم الأصلي، حيث بلغت هذه التحويلات 216 مليار دولار أمريكي، منها 150 مليار دولار أمريكي ذهبت إلى البلدان النامية، وقد تضاعف هذا التدفق حتى وصل فيما سجلته التحويلات المسجلة رسميًّا إلى الدول النامية، إلى 550 مليار دولار في 2019م. وتفوق هذه التحويلات في كثير من البلدان مساعدات التنمية الرسمية أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث تمثل أكبر مصدر لرأس المال الأجنبي لعشرات البلدان. ومما يلفت الانتباه هو أن النسبة من الدخل التي ترسلها النساء إلى بلدانهن الأصلية، تفوق تلك التي يرسلها الرجال كما تُظهر ذلك البيانات المتاحة. ولا تقتصر الفوائد على الجانب الاقتصادي فقط، بل يمثل المهاجرون أيضًا قنوات مهمة لنقل “التحويلات الاجتماعية”، بما في ذلك الأفكار والمنتجات والمعلومات والتكنولوجيا الجديدة.
هذا عن الإسهامات الاقتصادية للمهاجرين في البلدان المصدرة، فماذا عن إسهاماتهم في البلدان المستقبلة؟
هناك وجهات نظر متضاربة حول تأثير الهجرة على اقتصادات البلدان المستقبِلة، حيث يعتقد معارضو الهجرة أن المهاجرين يسرقون الوظائف ويخفضون الأجور.. أما الحجة الأخرى التي يعتمد عليها منتقدو الهجرة، فهي أن الهجرة لديها القدرة على إنتاج الصراع بين المجموعات العرقية. والسبب وراء هذا الافتراض، هو إمكانية ظهور مثل هذه البيئة التي تنظر فيها المجموعات المحلية ذات الدخل المنخفض إلى المهاجرين، باعتبارهم يتنافسون على الوظائف والموارد. وأخيرًا، يرى معارضو الهجرة أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين، قد تؤدي إلى تدمير هوية المجتمع المحلي ومؤسساته.
من جانب آخر، يؤكد أنصار الهجرة أن المهاجرين ليسوا السبب في فقدان السكان المحليين لوظائفهم، لأنهم في الغالب يقومون بتلك الأعمال التي ترفض أن تقوم بها المجتمعات المضيفة. ويضيف المؤيدون أيضًا أن المهاجرين يخلقون قيمة مضافة للاقتصاد؛ لأنهم أيضًا مستهلكون ويحفزون الاقتصاد الذي بدوره يخلق وظائف جديدة، كما أن الهجرة الدولية لديها القدرة على تسهيل نقل المهارات والمساهمة في الإثراء الثقافي.
الهجرة وشيخوخة السكان
ومع هذه الوجهات المتعارضة، فإن الهجرة والمشاركة في القوى العاملة، باتت ضرورة ملحة تُقدَّم الآن ومنذ عقود بمثابة حل للتخفيف من العواقب الاقتصادية السلبية لشيخوخة السكان؛ بل صارت القوانين تعدَّل من أجل تسهيل إجراءات الهجرة. فقد أقر البرلمان الألماني في يونيو/حزيران 2023م، قانونًا يسهل قواعد الهجرة للعمال المهرة، حيث يعاني أكبر اقتصاد في أوروبا من نقص مزمن في الأيدي العاملة في عدد من الصناعات، بسبب شيخوخة السكان في قطاعات مثل الضيافة والصحة والبناء. ومن ثم بقيت نحو مليوني وظيفة شاغرة في نهاية عام 2022م.
فوفقًا للأمم المتحدة، يعيش ثلثا البشر في بلدانٍ متوسط معدلات المواليد فيها أقل من معدل الإحلال، أي معدل المواليد المطلوب للحفاظ على عدد ثابت من السكان. وقد أدى انخفاض معدلات المواليد باستمرار في بعض المناطق إلى شيخوخة السكان بسرعة. وفي مختلف أنحاء العالم المتقدم، بدأت أعداد الشباب في التقلص مقارنة بعدد كبار السن، ومن المتوقع أن ينخفض إلى مستوى أكبر من ذلك في جميع البلدان الصناعية. وقد أدى هذا التطور إلى مضاعفة عدد كبار السن ثلاث مرات في الخمسين سنة الماضية، ومن المتوقع أيضًا أن يتضاعف هذا العدد ثلاث مرات مرة أخرى خلال الخمسين عامًا القادمة، مما يثير مخاوف جدية بشأن استدامة أنظمة الضمان الاجتماعي.
ولشيخوخة السكان آثار كبيرة على أسواق العمل أيضًا، فقد أصبحت احتمالات مشاركة كبار السن في القوى العاملة اليوم، أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي، حيث انخفضت مشاركة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر في القوى العاملة بنسبة تزيد عن 40% على المستوى العالمي خلال نصف القرن الماضي. وهذا وضعٌ ينذر بالخطر بالنسبة للبلدان المتقدمة، لأنه يخلق نقصًا خطيرًا في العمالة في اقتصاداتها. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على المدى المتوسط، سيؤدي العدد المتزايد من المتقاعدين في بعض المهن، إلى طلب بديل على العمالة قد يكون من الصعب تلبيته من إمدادات العمالة المحلية في بعض البلدان المتقدمة.
ولكن في حين تتقدم الدول الغنية في السن، فإن العالم النامي يصبح أكثر شبابًّا، فالخصوبة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أعلى بكثير من معدل الإحلال بمتوسط 4.7 ولادة لكل امرأة في عام 2020م. ويتمثل التحدي في هذه البلدان في خلق فرص عمل كافية لدعم قوة العمل المتنامية. وبالنسبة للاقتصاديين، فإن أبسط طريقة لحل كلتا المشكلتين هي من خلال الهجرة.
تحديات الهجرة في المهجر والموطن
بقدر ما قد يكون حل الهجرة سهلاً من منظور اقتصادي، فإن السياسات المتعلقة به أكثر تعقيدًا؛ ففي المستقبل الذي سيكون فيه معظم سكان العالم في سن العمل من دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، قد تكون المشاعر المعادية للمهاجرين في المهاجر نقطة شائكة.
كذلك تواجه الهجرة في الموطن تحديات تتمثل فيما يعرف بـ”نزيف العقول”، حيث يمكن أن تُحرَم البلدان المصدِّرة من العمالة المتعلمة ذات المهارات رفيعة المستوى، فضلاً عما يمكن أن تحدثه الهجرة من فصل للأسر واتساع الفجوة وعدم المساواة بين أولئك الذين يتلقون التحويلات، والآخرين الذين لا يتلقونها.
أهمية التصدي للأسباب الجذرية للهجرة
لكل ما سبق، يرى كثير من الخبراء والباحثين وصناع القرار أنه من الأهمية بمكان التصدي للأسباب الجذرية للهجرة، حيث يجب أن تحدث الهجرة بصورة اختيارية وليس بدافع الضرورة، ولن يتحقق ذلك على أرض الواقع إلا إذا كان التعليم والعمل اللائق والأجور العادلة وتوفُّر الرعاية الصحية والسكن اللائق في متناول كل شخص، وحينئذ لن يضطر أي أحد إلى الهجرة.
ولا بد من أن تضع عملية صناعة السياسات هذه الشباب تحديدًا في الحسبان. فَوِفْق أحدث الإحصاءات من شعبة السكان بالأمم المتحدة في 2019م، بلغ عدد المهاجرين الدوليين دون سن 20 عامًا 38 مليونًا، أي 14% من إجمالي عدد المهاجرين في العالم. أما في الدول العربية وفي نفس العام 2019م، وُجد أن أكثر من 1 لكل 5 مهاجرين كانوا في الفئة العمرية تحت سن العشرين، حوالي 9 مليون شاب بنسبة 22% من المهاجرين، وأيضًا 1 لكل 11 مهاجرًا، 11% كان سنهم يتراوح بين 15-24 من العمر.
إن الاستثمار في الشباب هو استثمار في المستقبل، وهو من متطلبات التنمية الأساسية في أكثر مناطق العالم فقرًا، وسوف يساعد هذا الاستثمار الشباب على الخروج من الحالة التي يعيشون فيها، والتي تضطرهم إلى ترك أوطانهم والهجرة منها، كما سيساعد البلدان النامية أيضًا على جني ثمار عائد ديمغرافي يمكن أن ينتشل الملايين من الفقر.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(١) الهجرة الدولية والتنمية، تقرير صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة،
https://www.refworld.org/cgi-bin/texis/vtx/rwmain/opendocpdf.pdf?reldoc=y&docid=48e0ded72
(2) https://arabstates.unfpa.org/ar/topics/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9
(٣) فرص وتحديات الهجرة الدولية للدول المرسلة والمستقبلة، يافوز كمال، المجلة الدولية للمشاكل الاقتصادية، منشورات وزارة الخارجية التركية.
(4) https://p.dw.com/p/4T068