كيف نحمي صحتنا العقلية؟

يعتقد البعض أن المرض العقلي والمرض النفسي مترادفان، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ حيث إن هناك فروقًا عديدة وشاسعة بين كلا المرَضَين. وقد تسبب هذا الاعتقاد في عدم تلقي العديد من المرضى النفسيين للعلاج؛ خوفًا على سمعتهم، وخشية من أن يوصموا بالجنون أو الخلل العقلي.

إن المرض العقلي والمرض النفسي منفصلان عن بعضهما البعض كليًّا، والفارق بينهما شاسع؛ إذ المرض النفسي ينشأ عن حالة من اختلال التفكير، تنعكس بطبيعة الحال على سلوك الفرد، وتؤدي إلى تغيرات حادة في الحالة المزاجية الخاصة به، بينما المرض العقلي يأتي عادة متمثلاً في سيطرة بعض المعتقدات الوهمية على المريض، أو تعرضه لنوبات من الهلاوس السمعية والبصرية، التي قد تقود المريض في النهاية إلى حالة من الانهيار الذهاني.. ورغم جمع بعض العوامل المشتركة بين النوعين من الاضطرابات التي أبرزها التأثير المباشر لكليهما على وظائف التفكير والحالة المزاجية، إلا أنهما يبقيان في نهاية الأمر مرضين مختلفين.

لعل أشهر الأمراض العقلية التي تصيب الكثير من البشر هو “الفصام” (الشيزوفرينيا)، وهو اضطراب حاد في الدماغ يُشوه طريقة الشخص في التفكير والتصرف، والتعبير عن مشاعره، والنظر إلى الواقع، ورؤية الوقائع والعلاقات المتبادلة بينه وبين المحيطين به، وهو المرض الأصعب والأكثر تقييدًا بين جميع الأمراض النفسية المعروفة. والفصام كلمة يربطها الكثير من الناس بالعنف والاضطراب.. وتستخدمها وسائل الإعلام بانتظام أيضًا بهذا المفهوم الخاطئ. كثير من الناس يشعر بالخجل إذا كانوا مصابين بهذا المرض. ونحن نستخدم “الفصام” لعدم وجود -على ما يبدو- كلمة أفضل في وصف هذه الأعراض والسلوكيات في الوقت الراهن. لا شك أن معظمنا مرَّ ببعض التجارب المؤلمة في حياته، لكن إذا بدأت الذكريات -التي خزَّنها الدماغ- تعاود الظهور وتعيق مواصلة الحياة اليومية بجانب أعراض مثل التوتر الشديد والاكتئاب وضعف التركيز، فلا بد من طلب المساعدة الطبية النفسية لمنع حدوث مضاعفات نفسية.

الذاكرة ليست جهاز تسجيل

الذاكرة هي جزء لا يتجزأ من الإدراك البشري، تسمح للأفراد بتذكر الأحداث الماضية والاستفادة منها في العمليات البشرية. وتشير الذاكرة إلى عملية الاحتفاظ بالمعلومات بمرور الوقت، وهذا ما يساعد على تذكر الأشياء والدراسة والتعلم، ولكن ذاكرة الإنسان ليست مثل جهاز التسجيل تمامًا، حيث إن الدماغ يعالج المعلومات ويخزنها بطرق مختلفة.

تأثير الذكريات المكبوتة

هناك ثلاث اضطرابات فصامية، هي فقدان الذاكرة الانفصامي، واضطراب الاغتراب عن الواقع، وتبدد الشخصية، ويعد اضطراب تعدد الشخصية ضمن هذه الثلاثة أيضًا. وفيما يلي بعض العلامات التحذيرية لاضطراب تعدد الشخصية التي يجب على المرء البحث عنها:

أ- الإدراك الباهت للعالم: إن الأفراد الذين يعانون من اضطراب تعدد الشخصية، يميلون إلى أن يكون لديهم تصور باهت عن العالم، هذا بسبب انقطاعهم عن الواقع. وفي بعض الحالات يفقد الأفراد أيضًا جوانب زمنية ومكانية للوجود.

بـ- فقدان الوظيفة الإدراكية: يسير جنبًا إلى جنب مع اضطرابات الفصام. والمعاناة من مشاكل الذاكرة أمر لا مفر منه عندما يتعلق الأمر بالضعف الإدراكي. وقد يعاني الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية المتعددة، من فقدان الذاكرة، وعدم القدرة على تذكر الفجوات في الذاكرة، وما إلى ذلك.

جـ- الانهيار تحت الضغط: عندما يعاني العقل من الفوضى، يؤثر ذلك على الصحة النفسية، وفي مثل هذه الحالة يكون تأثير التوتر عنيفًا، وقد يجد الأفراد أنفسهم ينهارون بسهولة تحت أعبائه.

د- الأفكار المتطفلة: يمكن أن تؤدي اضطرابات الشخصية المتعددة إلى تطوير أفكار مزعجة في العقل، وقد تتضمن هذه الأفكار التطفلية، التفكير في القفز من المبنى، وإيذاء النفس.. كما يعد الاكتئاب، نتيجة شائعة لاضطراب الشخصية المتعددة، وقد تؤدي هذه الأفكار أيضًا إلى الانتحار.

هـ- الرهاب الجديد: يعرف الرهاب بالخوف، إذ عند المعاناة من اضطراب الشخصية المتعددة، غالبًا ما يصاب الأفراد بمرض رهاب جديد يمكن أن يشكل خطورة على أنفسهم والآخرين. على سبيل المثال، الخوف من الناس (رهاب الإنسان)، الخوف من الظلام (رهاب الخوف)، الخوف من الوحدة (رهاب الذات).

من العلامات التي تدل على تعرض الصحة النفسية والعقلية للخطر، ما يحدث عندما تتعرض الذاكرة لصدمات تستدعي استعادة الذكريات، وهو من الموضوعات المُعقدة للغاية في علم النفس ودراسة الأمراض النفسية والعقلية. ولا يزال الباحثون يعملون على اكتشاف المزيد من الروابط التي تحدث بين استعادة الذكريات والصدمات، مثل تلك التي تحدث في الطفولة، والأمراض النفسية التي قد تصيب الإنسان بعد استعادة تلك الذكريات.

فالصدمات واسترداد الذكريات القديمة جميعها، من الأمور المثيرة للجدل في علم النفس، خاصة مع ظهور دراسات تربط بين استعادة الذكريات والتعرض للعديد من أنواع الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية، على الرغم من أنها تحتاج إلى المزيد من الأبحاث لتأكيدها. لا يمكن إنكار أن الذكريات المكبوتة والمستعادة، كان لها تأثير نفسي واجتماعي على الأفراد وعائلاتهم وبعضها صحيح كليًّا، إلا أن هناك القليل من الأدلة الموثوقة على صحتها بنسبة 100%، خاصة أن معظم مزاعم الكبت والذكريات المستعادة، لها تفسيرات بديلة مثل النسيان العادي، أو التعرض لمواقف موحية للذكريات المستردة أو الذكريات المكبوتة، أي تجارب الذاكرة التي يدركها الشخص بعد عدم التفكير فيها لفترة طويلة.. وتحدث هذه التجربة بشكل شائع، ولا يلزم أن تكون مثيرة للجدل أو أن تكون ذكريات صادمة.

تميز عمل الذاكرة

هناك ثلاث عمليات رئيسية تميز كيفية عمل الذاكرة هي:

– الترميز: الذي يشير إلى العملية التي يتم من خلالها تعلم المعلومات، ويتم من خلال الترميز المرئي (أي كيف يبدو الشيء)، والترميز الصوتي من الصوت، والترميز الدلالي (أي ماذا يعني الشيء)، والترميز اللمسي من حاسة اللمس.

– التحزين: يشير التخزين إلى كيفية الاحتفاظ بالمعلومات المشفرة داخل نظام الذاكرة، ومكانها، وكميتها، وطول مدة الاحتفاظ بها.

– الاسترجاع: هو العملية التي من خلالها يصل الأفراد إلى المعلومات المخزنة، ويتم استرداد المعلومات المخزنة في الذاكرة قصيرة المدى بالترتيب -مثل قائمة متسلسلة من الأرقام- وفي حال الذاكرة طويلة المدى.

للمزيد من فهم الأمر، نعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، حينما صاغ عالم النفس “سيجموند فرويد” مصطلح الكبت لوصف آلية يتم من خلالها دفع الأحداث الصادمة المروعة إلى زاوية لا يمكن الوصول إليها من اللاوعي، لكن في وقت لاحق قد تعود إلى وعيهم. ومنذ أيام “فرويد” كان لمصطلح “القمع” أو الكبت معنى غامض بالنسبة للكثيرين في مجال علم النفس، وغالبًا ما يتم استخدامه بالتبادل مع اضطرابات الانفصال وفقدان الذاكرة الصادم، وكان يخضع لجدل كبير.

طلب المساعدة النفسية للحماية

إن الصدمات النفسية الشديدة يمكن أن تؤدي إلى تعطيل التخزين في الذاكرة على المدى الطويل، وترك الذكريات مخزنة -كعواطف أو أحاسيس- بدلاً من ذكريات حقيقية، وتشير الأبحاث إلى أن الأمر قد يستغرق عدة أيام لتخزين الأحداث كاملة في الذاكرة طويلة المدى.

ويتذكر معظم الناس الأحداث السيئة التي تحدث لهم، لكن في بعض الأحيان يتم نسيان الصدمات الشديدة. وعندما يصبح هذا النسيان قويًّا وكأنه لم يكن يحدث عدة تأثيرات على الصحة النفسية، فيؤدي ذلك إلى اضطراب فصامي، مثل فقدان الذاكرة الانفصامي، الشرود الانفصالي، واضطراب تبدد الشخصية أو ما يُسمى باضطراب الانفصال عن الواقع، اضطراب الهوية الانفصامي من خلال الاقتران.

وهناك الكثير من الجدل حول ما إذا كانت الذكريات المستردة صحيحة أم لا، حيث يعتقد بعض المعالجين الذين يعملون مع الناجين من الصدمات أن الذكريات صحيحة لأنها مصحوبة بمشاعر حقيقية، بينما أفاد معالجون آخرون أن بعض مرضاهم استعادوا ذكريات لا يمكن أن تكون حقيقية.

إذا كان الفرد يواجه مشكلة في تذكر ذكريات مبكرة من الطفولة تبدو غير منطقية مثل التعرض للاختطاف أو غيرها من الذكريات الصادمة، أو لا يتذكر حدثًا حقيقيًّا صادمًا حدث في الطفولة يخبره الجميع به -مثل التعرض لحادث سيارة- لكن لا يتذكره على الإطلاق، فيجب عليه استشارة الطبيب النفسي فورًا.

وتوصي جمعية علم النفس الأمريكية (APA) بطلب المساعدة النفسية إذا ظهرت لدى الفرد الأعراض التالية بالتزامن مع استرجاع ذكريات قديمة قد يكون نسيها أو يتذكرها: الشعور بالكآبة، والقلق الدائم، ومشاكل النوم مثل الأرق أو الكوابيس، والشعور بالتعب الشديد، وتقلب المزاج مثل الغضب، وارتباك أو مشاكل في التركيز والذاكرة، والأعراض الجسدية مثل ألم العضلات، أو توتر العضلات، وضيق المعدة.

من أجل حماية راحة الجميع النفسية وتعزيزها، ينبغي تلبية احتياجات الأشخاص المصابين باعتلالات الصحة النفسية، كما ينبغي القيام بذلك في إطار رعاية الصحة النفسية المجتمعية، التي يعد الحصول عليها وقبولها أسهل مقارنة بالرعاية المؤسسية التي تساعد على منع انتهاكات حقوق الإنسان، وتحقق نتائج أفضل من حيث التعافي للأشخاص المصابين باعتلالات الصحة النفسية. وينبغي توفير الرعاية الصحية النفسية المجتمعية، عن طريق شبكة من الخدمات المترابطة التي تشمل: خدمات الصحة النفسية التي تُدمج في الرعاية الصحية العامة، ويتم ذلك -عادة- في المستشفيات العامة، ومن خلال تقاسم المهام مع مقدمي خدمات الرعاية غير المتخصصين في قطاع الرعاية الصحية الأولية.

خدمات الصحة النفسية المجتمعية التي قد تشمل مراكز وفرق الصحة النفسية المجتمعية، والتأهيل النفسي الاجتماعي، وخدمات دعم الأقران، وخدمات المعيشة المدعومة، وكذلك الخدمات التي توفّر رعاية الصحة النفسية في إطار الخدمات الاجتماعية، وفي السياقات غير الصحية مثل خدمات حماية الطفل، وخدمات الصحة المدرسية، وخدمات السجون.

كما أن الفجوة الكبيرة في رعاية اعتلالات الصحة النفسية الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، تعني أنه يجب على البلدان إيجاد طرق مبتكرة لتنويع الرعاية المقدمة للمصابين بهذه الاعتلالات وتوسيع نطاقها، وذلك من خلال المشورة النفسية غير المتخصصة أو المساعدة الذاتية الرقمية.


(*) عميدة كلية العلوم الفيزيائية بالجامعة المصرية اليابانية / مصر.

المراجع

(1) Campion, J.; Bhui, K.; Bhugra, D-Association (2022). “European Psychiatric Association (EPA) guidance on prevention of mental disorders”. European Psychiatry.

(2) “Mental health promotion and mental illness prevention: The economic case”. London School of Economics and Political Science.5-2020.

(3) Stewart-Brown, S. L; Schrader-Mcmillan, “Parenting for mental health: What does the evidence say we need to do? Report of Workpackage 2 of the Data Prev project”. Health Promotion International 2022.