“لجميع العاملين الحق في بيئة آمنة وصحية في العمل، ويدعم العمل اللائق الصحة النفسية الجيدة” (منظمة الصحة العالمية).
تعد الصحة النفسية للموظفين عاملاً حاسمًا في صحتهم العامة، إذ يمكن أن يكون ضعف الصحة النفسية والضغوطات في مكان العمل، عاملاً مساهمًا في مجموعة من الأمراض الجسدية، مثل ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وغيرها.. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي ضعف الصحة النفسية إلى الإرهاق بين الموظفين، مما يؤثر بشكل خطير على قدرتهم على الإسهام بشكل هادف في حياتهم الشخصية والمهنية.
تشير البيانات الواردة من بلدان مختلفة حول العالم، إلى أن مشاكل الصحة النفسية هي سبب لتسرب عدد من الموظفين من العمل. ففي هولندا، حوالي 58% من الإعاقات المتعلقة بالعمل مرتبطة بالصحة النفسية، وفي المملكة المتحدة، تشير التقديرات إلى أن حوالي 30-40% من الغياب بسبب المرض يُعزى إلى شكل من أشكال المرض النفسي.
ومن هنا فالاهتمام بالصحة النفسية داخل بيئة العمل، يجعل الأفراد قادرين على تجاوز الانتكاسات داخل هذه البيئة، ويؤهلهم لمواجهة التحديات المتنوعة، مما يعزز من قدرات الموظفين ويحقق إنتاجًا أعلى وأفضل. هذا بالإضافة إلى أن التوعية بأهمية الصحة النفسية، يحافظ على الرشاقة الذهنية في أذهان فريق العمل، ويولّد نوعًا من الإيجابية لديهم عند القيام بمسؤولياتهم المتنوعة، ويحفز الجميع على الالتزام بمهامه جيدًا، مع اقتداره على إدارة التوتر، وتحويل الضغوط في العمل إلى عامل تحفيز لا إلى عوامل إجهاد.
فالإجهاد المرتبط بالعمل يعد سببًا رئيسيًّا لاعتلال الصحة المهنية وضعف الإنتاجية والأخطاء البشرية، وهذا يعني زيادة الغياب بسبب المرض، وارتفاع معدل دوران الموظفين، وضعف الأداء في المؤسسة وزيادة محتملة في الحوادث بسبب الخطأ البشري.
كما يمكن أن يظهر الإجهاد المرتبط بالعمل أيضًا، على شكل أمراض القلب، أو آلام الظهر، أو الصداع، أو اضطرابات الجهاز الهضمي، أو أمراض طفيفة مختلفة.. بالإضافة إلى التأثيرات النفسية، مثل القلق، والاكتئاب، وفقدان التركيز، وضعف اتخاذ القرار.
والإجهاد هو رد الفعل السلبي لدى الناس تجاه الضغوط المفرطة، أو أنواع أخرى من المطالب المفروضة عليهم. هناك فرق واضح بين الضغط الذي يمكن أن يكون عاملاً محفزًا، والإجهاد الذي يمكن أن يحدث عندما يصبح هذا الضغط مفرطًا.
وفي رصد لتقييم مستوى ضغوط العمل والتدابير الواجب اتخاذها للسيطرة عليها على نطاق واسع، تم استخدام أداة تعرف بمقياس ضغوط العمل (WSS) تتيح للأفراد تقييم مستوى ضغوط العمل، ومدى درجة الضغط الذي يواجهونه في المجالات الواسعة التالية:
١- مشاكل في العلاقات مع المدراء
من الأسباب الأكثر شيوعًا لضغوط العمل، هو التعامل مع مدير صعب المراس، فالمدراء السيئون يخلقون حالة نفسية سيئة تخنق الإبداع وتقتل الابتكار، ففي حين يعتقد هؤلاء أنهم يطالبون بأداء أعلى من أجل مصلحة العمل، إلا أن لديهم -في الواقع- تأثيرًا معاكسًا وسلبيًّا على الإنتاجية والأداء التنظيمي، حيث يمنعون إنجاز العمل الجيد ويسببون إرباكًا لمرؤوسيهم المباشرين، ويتسببون في جعل الموظفين مرهقين وخائبي الأمل ومحترقين، بسبب الفوضى التي يخلقونها، وقد يكلفون الشركات مليارات الدولارات من الإنتاجية المفقودة كل عام.
ولكن قد يكون حل مشكلة التعامل مع مدير صعب المراس أسهل بكثير من خلال تحسين مهارات الاتصال، كما أن إجراء محادثة صادقة قد يحدث فرقًا. ففي بعض الأحيان، قد يحدد المدير أهدافًا غير حقيقية، لكن يمكن للمناقشة الصادقة أن تبرز المواعيد النهائية التي يمكن الوفاء بها. كما يمكن للمهام التي لا تشكل جزءًا من دور الموظف أو مجموعة مهاراته أن تسبب التوتر أيضًا، غالبًا ما تجعل الشركات موظفيها يقومون بمهام متعددة، لكن هذا قد يؤثر على قدرتهم على الإنجاز. إن التواصل مع المدراء حول هذا الأمر في أقرب وقت، هو أفضل طريقة لحل هذه المشكلة.
٢- مشاكل في العلاقات مع الزملاء
قد يكون السبب الآخر هو الزملاء، أو زملاء العمل الصعبين، فقد يكون التعامل مع زميل صعب المراس في العمل أكثر صعوبة بعض الشيء، لأن أداءه غالبًا ما يتعارض مع نفسه، مرة أخرى، يجب حل هذه المشكلة من خلال مناقشة ودية تنتهي بالاتفاق المتبادل، ويمكن للمرء أن يشرح للزميل كيف يمكن أن يحصل الفريق على فوائد أكثر بكثير من الانغماس في المنافسة، ولكن إذا خرجت الأمور عن نطاق السيطرة، فيجب إخطار المدير المعني بذلك.
٣- الصراع بين العائلة والعمل
تكافح العائلات للتعامل مع عالم متزايد التعقيد، ويجتهد الأفراد من أجل إيجاد التوازن الصحيح بين العمل والمسؤولية العائلية. فالقضايا المنزلية يمكن أن تؤثر على العمل، حيث تسهم العلاقة بين العمل والأسرة في خلق المناخ النفسي في العمل، في حين أن المناخ النفسي المناسب يخلق تصور السلامة النفسية داخل المؤسسة، وتعتبر المؤسسة تتمتع بمناخ آمن نفسيًّا عندما يشعر الموظف أن بيئة العمل تكمل رفاهيته. وفي غياب المناخ النفسي الملائم، فمن المرجح أن يكون مستوى الأمان النفسي منخفضًا. فعندما تنعكس ضغوط العمل لدى الأفراد على علاقتهم بأفراد الأسرة، فإن تقليل فعالية أدوارهم في العمل والأسرة قد يضر بسلامتهم النفسية. ومن المعلوم أن السلامة النفسية تعد ظرفًا نفسيًّا حاسمًا “يشكل كيفية قيام الأشخاص بأدوارهم في المؤسسة”.
وفي هذا الصدد، يجب أن يكون المديرون وممارسو الصحة المهنية، على دراية بالصراع بين العمل والحياة الأسرية، مع مراعاة الخصائص الديموغرافية للقوى العاملة، إذ تعد ثقافة العمل والحياة الداعمة، أمرًا مهمًّا لجميع الموظفين. وهنا يمكن أن تساعد الموازنة بين العمل والمنزل من خلال تخصيص الوقت المناسب لكليهما، في تقليل التوتر؛ فالشعور بالسيطرة على أنشطة العمل والأسرة يعزز الصحة النفسية.
٤- ارتفاع الطلب على الأداء
التوقعات غير الواقعية، خاصة في وقت إعادة تنظيم الشركات، والتي -في بعض الأحيان- تضع ضغوطًا غير صحية وغير معقولة على الموظف، يمكن أن تكون مصدرًا هائلاً للتوتر والمعاناة. فزيادة عبء العمل وساعات العمل الطويلة للغاية، والضغط الشديد لأداء أعلى طوال الوقت وبنفس الأجر، يمكن أن يؤدي في الواقع إلى استنزاف الموظف جسديًّا وعاطفيًّا، كما يسهم السفر المفرط والوقت الطويل بعيدًا عن العائلة، في زيادة الضغوطات التي يتعرض لها الموظف.
٥- انعدام الأمن الوظيفي
تشهد أماكن العمل تغيرات متحولة في ظل التحولات الاقتصادية المكثفة والضغوط اللاحقة، حيث أصبحت عمليات إعادة التنظيم وعمليات الاستحواذ والاندماجات والتغييرات الأخرى، من الضغوطات الرئيسية للموظفين، حيث تحاول الشركات الارتقاء إلى مستوى المنافسة من أجل البقاء. وقد فرضت هذه الإصلاحات ضغوطًا على الجميع، بدءًا من الرئيس التنفيذي وحتى المدير المباشر.
٦- القيود البيروقراطية
الحجم التنظيمي والأنظمة البيروقراطية، لها قواعد وأنظمة معينة، والتي تعتبر أجزاء متأصلة من النظام لتكون بمثابة الضوابط وقوى التوازن. ومع ذلك، فمن المرجح أن تكون بمثابة قيود وضغوط للمديرين. تشمل ضغوطات العمل الأخرى ظروف العمل غير المريحة، والعبء الوظيفي الزائد، وعدم السيطرة على عملية العمل والرتابة المطلقة.
وهنا يمكن القول: إن تقليل غموض دور العمل، من شأنه أن يقلل من إجهاد العمل والاضطرابات النفسية المرتبطة بالعمل بما في ذلك اضطرابات القلق. ومن الأفضل للشركات والمؤسسات، أن تعالج مسألة الصحة العقلية في مكان العمل، من خلال سياسة واضحة المعالم في مكان العمل بشأن الصحة العقلية.
الخلاصة
هناك عدد من الحقائق الرئيسية أبرزتها منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بموضوع الصحة النفسية في بيئة العمل من أهمها:
- العمل اللائق مفيد للصحة النفسية.
- تردي بيئات العمل -بما فيها تلك المتسمة بالتمييز وعدم المساواة، وأعباء العمل المفرطة، وضعف المشاركة في القرارات المتعلقة بالعمل، وانعدام الأمان الوظيفي- يشكل خطرًا على الصحة النفسية.
- تشير التقديرات إلى أن 15٪ من البالغين في سن العمل، عانوا من اضطراب نفسي في عام 2019م.
- على الصعيد العالمي، يُهدر نحو 12 مليار يوم عمل كل عام بسبب الاكتئاب والقلق، وهو ما يكلف الاقتصاد تريليون دولار أمريكي سنويًّا من الإنتاجية المهدرة.
- توجد إجراءات فعالة للوقاية من مخاطر الصحة النفسية في العمل، وحماية وتعزيز الصحة النفسية في العمل، ودعم العاملين الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية.
(*) كاتب وباحث مصري.