الخطاب اللاثقافي

كثر الحديث في هذه الأيام عن الخطاب الثقافي بين القوة والضعف، وبين الوصول والانقطاع، ويظل السؤال محيرًا: كيف يمكن إصلاح الخطاب الثقافي العربي المعاصر؟!! فهناك غياب كبير للخطاب الثقافي في الداخل والخارج، كما أن هذا الخطاب يتميز بالخلل الذي أفقده التوازن المطلوب، وهزم فيه القدرة على الإبداع، ومنعه من الوصول إلى الآخر، ورسخ في ذهنه أفكارًا غريبة لاحتقار الرأي الآخر، وهناك غياب القنوات القادرة على إيصال هذا الخطاب للعالم من حولنا، أو حتى في بعض الأحيان فيما بيننا، بعد أن تحول الخطاب عندنا إلى ضجيج إعلامي لا طحن خلفه، وأثر على الخطاب الثقافي بصورة سلبية، وسبب ذلك بالدرجة الأولى هو غياب المنهج التعليمي الذي يؤهل القدرات عندنا لخوض غمار هذا الخطاب والمشاركة فيه بالرأي والإبداع والمساهمة الفاعلة، وعدم استفادتنا من وسائل الاتصال المختلفة فى نشر الخطاب الثقافي وإيصاله خارج الحدود المحلية والعربية وتركنا الساحة للآخرين لتنتشر خطابات العنف والتطرف والخطابات المضادة التي يمكن أن نطلق عليها صور الخطاب اللاثقافي.فقد اعتلى منبر الخطاب بعض من يُطلق عليهم النخبة والمثقفين، وتاهت معالم الثقافة على أيديهم، وسط تزاحم وتضارب لنظريات اعتراها الخطأ، بينما كان على الجانب الآخر يصنع التطرف منهج الجهل، والدم والقتل، وأصبح المتلقون في شتات بين هذا وذاك.

أنماط الخطاب اللاثقافي في العالم العربي:

إن اللاثقافة نقيض الثقافة، ولها خطابها مثلما للثقافة خطابها، وهو خطاب غير المثقفين، وهم كثيرون في المجتمع العربي، بل إن خطاباتهم تهدد الخطاب الثقافي، وتعمل على إفساده أو تعطيله، وعمومًا يمكن القول إن أنماط الخطاب اللاثقافي تشمل ثلاثة أشكال:

الشكل الأول: الخطاب الفوضوي، وهو خطاب المهمشين من سكان العشوائيات، والفئات المهمشة وأطفال الشوارع…إلخ، وهؤلاء الناس نتيجة لوجودهم في تجمعات منعزلة كوَّنوا لأنفسهم قيمًا خاصة بهم، وأعرافًا وتقاليد، ولغة خاصة بهم. وتعتمد خطابات هؤلاء البشر على عدم الانصياع للقانون، والنظام، وعدم الالتزام بالأعراف الاجتماعية أو الذوق العام، وعلى اللامبالاة وعدم النفور من القبح أو الميل إلى العنف والتخريب والتمرد، والجفاء في الطبع، واستمرار ارتكاب الجرائم دون وازع، وسهولة التبعية المأجورة، فهم دائمًا تحت الطلب لمن يدفع أكثر، كما يتصفون بعدم الإحساس بالهوية القومية أو الوطنية أو الأسرية، ولا يتقنون العمل، ولا يحبون الالتزام بل “الفهلوة” وهم يسنون بعض القوانين الخاصة بهم واللغة الخاصة بهم، مثل العبارات التي يستخدمونها في التحية واللقاء والوداع والعتاب والشجار والمصالحة. وهؤلاء الناس يصيرون الوقود للفوضى والتخريب والفساد، كما أن قيمهم هي الخطر الذي يهدد الثقافة ويعطل تطوير الخطاب الثقافي، بل يهدد وجود الدولة نفسها.

الشكل الثاني: الخطاب الرجعي، وهذا الخطاب يتناقض مع الخطاب الثقافي، لأنه خطاب طقوسي متزمت وأحيانًا متطرف، لا يعتمد على العقل أو النقد أو الحوار، بل على الطقوس والخرافات والأساطير ولا يعترف بثقافة الآخرين، ولا يقبل بوجودهم، ولذلك أصحاب هذا الخطاب يصطدمون بقيم المجتمع وثقافته ونظامه، لأنه يقدس النصوص والتاريخ والأضرحة والموتى.

الشكل الثالث: الخطاب التسلطي، وهو الخطاب التعليمي الأبوي الذي يعتمد على التلقين والقهر، والخطاب الإعلامي الجذاب الذي لا يعتمد على الحوار والوعي والبحث عن الحقيقة، بل على التزييف والكذب والتسلط والنفاق وحجب الحقائق.

وهذه الخطابات الثلاثة هي التي يمكن تسميتها بالخطابات اللاثقافية، لأنها تتعارض مع مفهوم التنوير لخطاب الثقافة، ومن ثم فإن دراستها هي الأساس لتجديد الخطاب الثقافي، ليس في مستواه النظري المتعالي بل فى مستواه الواقعي التطبيقي.

عوامل انتشار الخطاب اللاثقافي في العالم العربي:

ترتفع نسب الأمية في العالم العربي، إضافة إلى ارتفاع نسب الفقر والمرض والجهل في كثير من أجزائه، وتدن في مستوى الخدمات والتعليم. ومنذ سبعينيات القرن الماضي وانفتاح غالبية البلاد العربية على الرأسمالية وما صاحبها من غلبة قيم الاستهلاك والاستيراد على قيم العمل والإنتاج، وتحول الفن إلى دعاية للترويج التجاري أو للربح، وارتفعت قيمة التأثير والمتعة الجسدية في الفن على الاهتمام بقيمة الجمال، كما خفت صورة الفن الحقيقي في المسرح والسينما، وتحولت وسائل الإعلام إلى أبواق تتملق الجماهير والسلطة وتعمل لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال، وفي ظل هذه الأجواء انتشرت الطبقات الطفيلية، وأنصاف الموهوبين والمتسلقين، وارتفع صوت خطاب اللاثقافة، حتى صارت سماته ظاهرة شائعة في هذا الخطاب، وتشمل هذه السمات:

1- ظاهرة تحقير المثقفين، مثل السخرية من المعلمين والعلماء والأطباء، وأساتذة الجامعات وإهانتهم، في الوقت الذي يوقر فيه الجهلاء وأنصاف المتعلمين.

2- عدم الحرج من الجهل اللغوي أو المعرفي بل التباهي بعدم المعرفة.

3- الجهل بالتقاليد الفنية والتخبط تحت راية التجريب في الشهر والمسرح والقصة.

4- الهبوط الذوقي والأخلاقي وانتشاره في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.

5- شيوع ظواهر القبح في الشارع وفي الحياة العامة.

6- شيوع الفكر الانتهازي النفعي الذي لا يهتم بالقيم واستباحة كل الوسائل لتحقيق الأهداف، مما جعل الإعلام السيئ أحد أدوات الترويج للخطاب اللاثقافي من خلال تقديم الفنون الهابطة واللغة الركيكة والقدوة السيئة.

وهذا الوضع كان بيئة خصبة لازدهار الخطابات اللاثقافية الثلاثة السابقة والتلاقح بينها، وظهر ذلك فى أعقاب ثورات الربيع العربي، وارتفعت أصوات غير المثقفين، وخفتت أصوات المثقفين كأنه موسيقى خافتة غير مسموعة. نحن في حاجة ليس إلى تجديد الخطاب الثقافي فحسب بل إنقاذ الثقافة من خطر اللاثقافة. فلا شك أن غيابنا قد أتاح الفرصة لخصومنا لغزونا عندما ضعفنا، فغزانا الآخر وجاء التحدي الأكبر لموضوع الهوية الثقافية ودور الخطاب الثقافي، فهناك مسؤولية تقع على عاتق القادة.. والمنظرين.. والمفكرين العرب لكي تتخذ الخطوات المناسبة في الطريق الصحيح.. وأهمها أن يكون لدينا تعريف واضح.. وسياسة محددة.. تترجم هويتنا الثقافية.. ومعطياتنا الحضارية وتوجهاتنا التربوية.. على أسس واضحة من ثقافتنا.. وقيمنا.. ومقوماتنا، وأن نربط ذلك كله بسياستنا الثقافية وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. لبلادنا جميعًا.. لا بد من اتحاد النخبة المثقفة مع النخبة الإعلامية مع النخبة السياسية والاقتصادية والرياضية والدينية، في صياغة منهج وخطاب ثقافي يخاطب الجميع، كلًّا في تخصصه.

إنّنا بحاجة إلى مراجعة الخطاب الثقافيّ، وواقعه في الخطاب الجمعيّ، بل نحن أشدّ حاجة إلى صناعة خطاب ثقافيّ يضمن لنا سلامة الرؤية وصحّة التوجّه في عموم شرائح المجتمع، وانسجامَ اللحمة الوطنيّة، وترابطَ أطياف النسيج الوطنيّ، في إطار مصادر المعرفة التي ينتمي إليها المجتمع روحًا وعقلاً وسلوكًا، لما لذلك الخطاب من أثر في تشكيل البنى العقليّة للوعي، وفي تصحيح التوجّهات الفرديّة، خاصّة حين يظهر ذلك الخطاب في مواقع إعلاميّة، ومؤسسّات ثقافية وفكرية، وحين يحاور المعطيات الحضاريّة التي انفتح عليها المجتمع، وليس من أمّة إلا وهي تراجع خطابها الثقافيّ وتحاكمه في ضوء مصالحها الوطنيّة التي تستلزم أن يكون خطابها الثقافيّ مسايرًا المعرفية الراسخة في العقل الجمعي، والمصالح الكبرى للوطن.

المراجع

أسمهان الطاهر. (2014). الثقافة: وأهمية الخطاب الثقافي، صحيفة الرأي.

عبد الرحيم الكردي (2017). خطاب اللاثقافة، مجلة العربي، العدد (704). يوليو، ص 20-24.

ظافر العمري. (2017). صناعة الخطاب الثقافي. صحيفة تواصل.

محي النواوي (2017). الخطاب الثقافي.. غياب القوة الناعمة في مواجهة التطرف، صحيفة فيتو، 18 نوفمبر 2017.