المتتبع للقاموس القرآني الثرِّ، ينتهي -ولا ريب- إلى أن أصعب وأدق المعاني الإيمانية تتجلى في كلمات ثلاث هي “الإخلاص واليقين والتقوى”، أو إن شئنا قلنا “التقوى واليقين والإخلاص”؛ ذلك أن الترتيب نفسه يحمل أكثر من دلالة، ويحيل إلى أكثر من بُعد.
أجزم أن هذه الكلمات الثلاث لا يمكن ترجمتها إلى أيّ لغة من لغات العالم إلا بالتقريب، ولا يمكن تعريفُها تعريفًا لغويًّا ولا اصطلاحيًّا إلا بالمقاربة؛ إنها سرٌّ من أسرار الوجود الإنساني في علاقته بربه سبحانه، وهي بُعدٌ من أبعاد ما يُعرف بـ “أعمال القلوب” في تقسيم الأعمال إلى أعمال القلوب، وأعمال العقول، وأعمال الجوارح.
وليس أفضل حين الحديث عن هذه الكلمات من التمثيل لها بآيات القرآن الكريم باعتباره متنًا، وبأحاديث الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم باعتبارها شرحًا؛ فيمثَّل للتقوى مثلًا بقصَّة ابني آدم عليه السلام، وبقول المقتول لأخيه القاتل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27)؛ والتمثيل لليقين بقول الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)، والتمثيل للإخلاص بقوله سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيّه الكريم: (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر:2).. وهكذا.
ومن عجب أن لا أحد من الخلق يملك تأكيد نسبته إلى “التقوى واليقين والإخلاص”؛ ولذا نهى الله تعالى عباده من أن يزكُّوا أنفسهم فقال: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32)؛ ومن ادعى ذلك في نفسه أوشك أن يهلك، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج:31).
ومن حديث المصطفى نستنبط معنى الإخلاص في قوله عليه الصلاة والسلام: “أخلص دينك يكفِك القليلُ من العمل” (رواه الحاكم)؛ وقوله في بيان حدّ التقوى: “لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدَع ما لا بأس به حذرًا لما به بأسٌ” (رواه الترمذي)، وعن اليقين نستحضر دعاءه المأثور صلى الله عليه وسلم: “اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا” (رواه الترمذي) وقد روي أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان قلَّما يغادر مجلسًا إلا دعا بهذا الدعاء العظيم.
عقد الحارث المحاسبي في كتابه “الرعاية لحقوق الله” فصلاً للتقوى، ومما جاء فيه: “التقوى أول منزلة العابدين، بها يدرِكون أعلاها، وبها تزكُو أعمالهم؛ لأن الله عز وجل لا يقبل عملاً إلا ما أريد به وجهُه، فوالله ما رضيَ كثيرٌ من المتقين بها لله تعالى وحدها حتى أعطوه المجهود من القلوب والأبدان، وبذلوا له المهج من الدماء والأموال. فانظر -رحمك الله- أين أنت منهم؟”.
حقًّا، إنه ما بين شهقة وزفرة نُبتلى في هذه المعاني؛ فكلما فكَّرنا في شيء عظُم أم حقُر، خطر على قلبنا شيءٌ كبُر أم صغُر، أو عمِلنا شيئًا خفِي أم ظهَر؛ تبدَّت لنا أسئلة لا حصر لها: هل هي لله خالصة؟ هل جاءت عن يقين؟ هل فيها ريحٌ من تقوى الله سبحانه وتعالى؟
يستوي القليل والكثير حين المحاكمة إلى هذه المعاني، ولكن السر في التوجه إلى الله تعالى، أو الإعراض عنه سبحانه؛ فإن كنا متوجهين وجهته نالنا نورُه، وعظم عندنا شأنُه، فنشطت قلوبنا وعقولنا وجوارحنا لعبادته وحده لا شريك له، وصدق فينا قوله جلَّ مِن قائل: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) (الفتح:26).
أمَّا إذا أدرنا ظهورنا -يا ويحنا- لله جلَّ وعلا، لم يتقبل الله منَّا صرفًا ولا عدلاً، ذلك أنه (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)؛ بل يصدق فينا قوله تعالى: (انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (التوبة:127)؛ فنبقى حيارى ضائعين، نشقى وتشقى البشرية حيالنا، ولا خلاص لنا -حينها- ولا للناس أجمعين، إلا في العودة إلى الله عز وجل بإخلاص ويقين وتقوى: (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية:19).
(*) كاتب وأكاديمي من الجزائر.