أصبح الدماغ الاصطناعي يدبج لك -فردًا ومؤسسة- المقالات الأدبية، والبحوث العلمية، والقصص الروائية، والمسائل الرياضية، والبيانات الصحفية.. ومع صعوبة التمييز بين الإبداع الاصطناعي ونظيره البشري، هل سيجُبُّ الدماغ الاصطناعي -بمعالجة النصوص والحوسبة اللسانية- وظائف نظيره البشري، أم أن الأمر مبالغ فيه ولا يخلو من مثالب؟ وهل صعود الدماغ المولِّد للغة/الكتّاب الآليين يمثل خطرًا على إبداعات الدماغ البشري؟
ستتغير حياتنا جذريًّا لتنامي توظيف الذكاء الاصطناعي (AI) وتقنياته. ففي يونيو 2020م، وبواسطة شركة الأبحاث Open AI في سان فرانسيسكو كاليفورنيا، بدأت تجليات الدماغ الاصطناعي في إبهار تقنيي وادي السيلكون، ومن ذلك “جي بي تي 3” (GPT-3) الذي كلف عشرات الملايين من الدولارات، وتم رفده بـ 175 مليار كلمة. ويمكن الوصول إليه كخدمة تجارية باعتباره ثالث أحدث وأكبر سلاسل “نماذج اللغات الكبيرة” (أكبر 100 مرة من سابقه GPT-2 لعام 2019م). أنظمة ذكاء تولد بطلاقة تدفقات ومعالجات، بل وإبداعات نصية بعد إمدادها بمليارات الكلمات من المقالات والكتب والبحوث.
وتصدّر المشهد أواخر عام 2022م، برنامج “تشات جي بي تي” (Chat GPT) كمحادثة للأغراض العامة. بينما “ألفا كود” (Alpha Code) أكثر تخصصًا: فقد دُرِّب على الإجابة على أسئلة مسابقات كتابة البرامج التنافسية. وكل ما عليك فعله، هو توجيه هذه التقنيات بكلمات أو جملة أو عناصر بحث أو سؤال.. ومن ثم سيكمله لك مقالة، بحثًا، قصة، حلاًّ رياضيًّا، بيانًا صحفيًّا.. ويمكنه -مستقلاًّ- تأليف أول كتاب كامل مؤلفه ليس بشرًا؛ فقد نشرت “شبرينغر نيتشر”، كتابًا جديدًا (2019م) عن آخر بحوث بطاريات الليثيوم، من تأليف الكاتب “بيتا” آلة الذكاء الاصطناعي المطور في معامل اللسانيات الحاسوبية التطبيقية بجامعة “غوته” الألمانية، والمُختص بتحليل وتصنيف الأبحاث العلمية، وعددها إلى 53 ألف بحث، فاختار “بيتا” الأكثر مناسبة وأخضعه للمعالجة والصياغة العلمية.
تُكمل التطبيقات البُنى الأدبية والنحوية، وتحسن الترجمة والعملية البحثية، وتحل مسائل رياضية، وتلخيص مستندات قانونية، وتجيب على الأسئلة (ولو تافهة)، وعلى استفسارات العملاء. ويتفوق “جي بي تي 3” على نظائره وسابقيه في استجابته السريعة لأسلوب ومحتوى نص الإدخال. وقد جربه الشاعر الأمريكي “أندرو براون” فوجهه كالتالي: “اكتب قصيدة من وجهة نظر سحابة تنظر لأسفل على اثنين من المتحاربين”، بينما كان تعليق المطرب وكاتب الأغاني “نيك كيف” على “أغنية مقلدة لأسلوبه: لا يملك نظام “تشات جي بي تي” كيانًا داخليًّا، فهو لم يذهب لمكان، ولم يختبر معاناة، وليس لديه الجرأة لتجاوز حدوده المرسومة له. هذا وإن “تشات جي بي تي”، وهو روبوت محادثة اصطناعي ونموذج لغوي، له مقدرة دقيقة على كتابة النصوص المطلوبة. وذلك عبر محاكاة الأنماط الإحصائية اللغوية، معتمدًا على قاعدة بيانات هائلة من النصوص. وهو يستجيب لمطالب المستخدم، مثل أداء الواجبات المنزلية، والإجابة عن نماذج أسئلة الامتحانات، والانخراط في محادثة، وعصف فكري ذهني.. وفي منتصف فبراير 2023م أعلنت محركات البحث “جوجل” و”بِنج” و”بايدو” اعتزامهم إدماج “تشات جي بي تي” أو تقنية مشابهة، في منتجاتها للحصول على إجابات مباشرة بدلاً من الروابط الظاهرة في خانة البحث.
تشات جي بي تي والبحث العلمي والتعليم
أصبح الطلاب والباحثون يستعملون تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل النصوص، وكتابة الأوراق البحثية، وكذا مناقشة الأفكار العلمية. كما يُستعان ببرنامج “وورد تيون” (Word tune) كأداة برمجيَّة للمساعدة في الكتابة. فقط، اكتب فقرة تفرغ فيها ما برأسك، ثم أضغط زر “إعادة كتابة”، ستصل لنسخة أفضل وأوضح لما تريد قوله. كما بدأت ملامح علم الرياضيات تتغيَّر تغيُّرًا لا يقف بها عند حد العمليات الحسابية التي تُجريها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، أو تُسهم في إجرائها. فبالاستعانة بلغة البرمجة “لين” (Lean)، التي طوَّرتها شركة “مايكروسوفت”، أمكن إثبات برهان رياضي هو من التعقيد بحيث تعذَّر على صاحب البرهان نفسه إثباته. أما روبوت الدردشة “مينيرفا” (Minerva)، الذي تعكف على تطويره شركة “جوجل”، ويقوم على فكرة “تعلُّم الآلة” كشأن “تشات جي بي تي”، فقد ينتهي به الحال لإجراء محادثة مع علماء الرياضيات، لمناقشة حلول لمسائل رياضيات مستعصية. والمدهش أنه متى استطاع الحاسوب تقرير ما هو الشيء المثير للاهتمام ويستحق الإثبات، فسرعان ما ستُطوَى صفحة علماء الرياضيات بوصفهم “شيئًا من الماضي”. لذا بدا للبعض أن “جي بي تي 3” كان باردًا نسبيًّا مقارنة بـ”تشات جي بي تي الذي كان متعاونًا جذابًا يبادل الأفكار. وقد أُدرج “تشات جي بي تي” مؤلِّفًا مشاركًا في أربع أوراق بحثية، غير أن الناشرين شرعوا في حظر تأليف الذكاء الاصطناعي؛ لأن ربوت الدردشة لا يقع على عاتقه أي مساءلة نحو محتوى الأبحاث أو نزاهتها. وأكد بعض الناشرين على ضرورة ذكر استخدام ربوت الدردشة ضمن الطرق المنهجية لإجراء البحث، وعدم الإقدام على هذا الأمر سيعد نوعًا من السرقة الأدبية.
ولا شك أن روبوت “تشات جي بي تي” أحدث خلخلة وارتباكًا بحثيًّا وتعليمًا منذ إطلاقه. فأطلقوا عليه “ناقوس موت الأشكال التقليدية للتقييم التربوي، ونهاية كتابة المقالات كمهارة تعليمية وتقويمية للطلاب”، وحظرته عبر شبكاتها المدرسية إدارة التعليم بمدينة “نيويورك”، وذلك خوفًا من تشجيعه على الانتحال والغش وهو أمر غير أخلاقي. ويواجه الطلاب المُنخرطون في هذا الانتحال عواقب الرسوب في الاختبارات أو حتى الطرد؛ لأن تجنّب الانتحال، وإنتاج مادة أصيلة، وسلامة المحتوى، وذكر المصادر الأصلية، أمور تقع على عاتق الطلاب.
وبالمقابل، لا يوافق كثيرون على التهويل من شأن هذه التقنيات، فأي نظام ذكاء اصطناعي هو ذكيٌّ بمقدار ذكاء برمجتنا له. وبعض التطبيقات لا تعي وعيًا حقيقًا، وقد تستند لمعلومات مغلوطة، وقد يعطي إجابات غير منطقية أو ردودًا خطيرة، كمن سأل عبر محادثة شركة رعاية صحية “هل يجب أن أقتل نفسي؟”، أجاب “عليك فعل ذلك”. وقد يساهم في نشر خطاب الكراهية وتوليد قوالب نمطية عنصرية إذا طُلب منه. وواقعيًّا، تمكن الطلاب من الاستعانة بمصادر خارجية (أفراد أو مكاتب مختصة) لكتابة مقالاتهم البحثية. لذا يمكن للأكاديميين إعطاء الأولوية للتفكير النقدي والمنطقي الذي لا تستطيعه هذه البرمجيات حتى الآن. وهذه البرامج لا تمثل تهديدًا، فبإمكانها تعزيز تعلّم الطلاب، وتكليفهم بتوليد مسودات، ومن ثم نقدها وصقلها. كما باتت التكنولوجيا وسيلة أساسية لإثبات تعلّم الطلاب وتنامي قدراتهم، وبدلاً من حظرها ينبغي إيجاد طرق لدمجها في المناهج التعليمية.
رصد استخدام “تشات جي بي تي” في الكتابة
توجد برامج لـ”كشف الاستلال” تمسح المقالات، وتقارنها بقاعدة بيانات النصوص والمحتوى على الإنترنت. وهناك أداة “تشات جي بي تي زيرو” (GPT Zero)، التي تحدد ما إذا كان النص مكتوبًا عن طريق بشر أو ذكاء اصطناعي. وذلك عبر تحليل انسيابية صياغته، وطول جمله، وتكرار كلمات معينة. وعند اكتشاف نسبة عالية من التشابه، فيشار لاحتمالية انتحال النص. لكن هذا البرامج أيضًا غير مضمونة، وقد ترتكب نسبة من الأخطاء. لذا فالأدق أن يقوم المدرّسون بمراجعة المقالات بأنفسهم، واستقصاء أي دلائل لاستخدام هذه التقنيات؛ كمستوى غير مألوف من اللغة المستعمَلة من الطالب، أو الافتقار لإبراز رؤيته الشخصية وعمقه التحليلي. وباستخدام مزيج من برامج كشف الانتحال ومراجعة المعلمين، يمكن تقليل الاستخدام نسبيًّا.
في المجال المؤسسي
تمتلك المؤسسات كميات كبيرة من البيانات النصية والصوتية، ويستعمل كثير منها برمجيات معالجة اللغات للتعامل بكفاءة معها، والاستجابة السريعة لها. وتعد هذه المعالجات أمرًا بالغ الأهمية وبخاصة في تصنيف النصوص واستخراجها، ومعالجة المستندات الكبيرة وتحليلها وأرشفتها، وتصنيف ملاحظات العملاء، وتسجيلات مراكز اتصالاتها، وتشغيل برامج الدردشة الآلية وفرزها، والإجابة عن الأسئلة الخاصة بخدمة عملائها. وعبر تحديد كلمات أساسية في الرسائل النصية للعملاء يتم الرد بتوصيات خاصة، وتساعد هذه الأتمتة في تقليل التكاليف، وتوفير وقت الوكلاء الذي يقضونه في استفسارات متكررة، وتحسين رضا العملاء. كما يستخدم المسوقون أدوات معالجة اللغات للحصول على تصور واع ومدرك لما يشعر به العملاء تجاه منتج الشركة أو خدماتها. فعبر عبارات بعينها، يمكنهم قياس مزاج العميل وتوجهاته، واستهداف أماكن بعينها بمنتجات خاصة. وتسمح روبوتات الدردشة بأن تكون أكثر شبهًا بالإنسان عند التحدث مع العملاء. ويمكنها تقديم دردشة مترجمة لعملاء عالميين، وتتيح جامعة ولاية “أوكلاهوما” -باستعمال تقنية تعلم الآلة- دردشة آلية (للأسئلة والأجوبة) للتعامل مع استفسارات الطلاب المتكررة.
آليات مستوحاة من عمل الدماغ
لتبادل المعلومات بين خلايا الدماغ البشري هناك اشتباكات عصبية (نحو مائة تريليون نقطة/عصبون)، ويتدخل ما بين 10-100 مليون خلية في الفاعلية الذهنية، فإذا استمرت طفر العدد لأرقام أكبر. وتتبادل الرسائل بين فصي الدماغ بعدد 4 مليارات تنبيه/ثانية. وتستطيع المعلومات التحرك بين خلية عصبية لأخرى بسرعات مختلفة من 0,5 متر/ثانية إلى 120 متر/ثانية. وخلايا معالجة المعلومات والوظائف اللغوية والإدراكية والعقلية والحسية بأدمغتنا لا مثيل لها مقارنة بمعامل الذكاء I.Q للحاسوب. أما الدماغ الاصطناعي فوظائف رياضية تحاكي عمل خلايا الدماغ البشري، وتبرمج بمهام محددة، كالتنبؤ بكلمات النصوص، وضبط قوة الروابط بين عناصر الحوسبة. ويتم قياس حجم وقوة شبكتها العصبية عبر زيادة عدد المعالم التي تمتلكها. ويوفر مجال التعلم العميق، تدريبًا لأجهزة الحاسوب على التعلم والتفكير كالبشر. وتنطوي على شبكة عصبونية تتكون من عُقَد لمعالجة البيانات لتقلد الدماغ البشري. ومن خصائص هذه التطبيقات قابليتها للتعلم، خصيصة الدماغ البشري.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال أو الموضوع الذي يتبادر إلى ذهن الكثير من الناس ويدفعهم إلى الفضول هو: هل ستتفوق الروبوتات على البشر؟ وهل الدماغ الاصطناعي سيجُبُّ الدماغ البشري؟
(*) كاتب وأكاديمي مصري.