خلقَ اللهُ تعالى الإنسانَ وسخَّرَ له الكونَ من حوله؛ إكرامًا له وإنعامًا عليه، وفضَّله على سائر المخلوقات بأن وهبه عقلاً استطاع به حمل الأمانة التي أبت حملها سائر البرايا، وجعل هذا العقل مناط أهلية هذا المخلوق الكريم التي عليها مدار تكليفه واختياره، لكونه آلة الفهم ووسيلة الإدراك، فبه يحدد الإنسان تصوراته ورغباته، ويدرك دوافعه وميولاته، ومنه يعلم صفات الأشياء؛ حُسنها وقُبحها، وكمالها ونقصانها، فمتى علم الإنسان ما فيها من المضار والمنافع: صار علمه بما في الشيء من النفع داعيًا له إلى الفعل، وعلمه بما فيه من الضرر داعيًا له إلى الترك، فصار ذلك العلم مانعًا من الفعل مرة ومن الترك أخرى، فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة، ولهذا لمَّا سُئِل بعض الصالحين عن العقل، قال: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين.
ولذلك فبعد أن خلق الله تعالى الإنسان وأراد منه العبادة كما في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ): لم يجبره على تلك العبادة، بل هداه إلى السبيل وجعله مخيَّرًا؛ قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، فأعطاه سبحانه وتعالى كل المقومات للاختيار الصحيح، ولكن إذا ضلَّ الإنسان الطريق وكان اختياره خاطئًا اختُلِقَت له الأسباب الخاطئة المؤدية إلى النتائج الخاطئة، وهو ما يُفسِّر لنا وجود الأفكار والمعتقدات اللاعقلانية التي يعيشها بعض بني الإنسان.
من هنا جاء إيمان الإنسان بأهمية توجهه الأوَّلي واختياره التوعوي المبني على حُسن ظنه وإيجابية أفكاره، وهي القوّة الدافعة نحو اختياره للأفضل والأحسن، والجالبة لما هو خير له وأكمل، فيتعامل مع أفكاره على أنها نعمة ربانية ومنحة صمدانيَّة وهبها الله تعالى للإنسان، وهو عبارة عن ترتيب أمور معلومة تصاغ في صورة جمل مفيدة، يضمها الإنسان مع غيرها ويربط بينها، ثم يخرج بنتيجة، هذه النتيجة كانت مجهولة له قبل هذه العملية، والجمل المفيدة إما أنها مخبرة عن واقعٍ ملموس يعيش فيه الإنسان، وإمَّا أنها معبرة عن طلبٍ خيالي يسبح فيه فكره وعقله، والتفكير المستقيم يبدأ من البحث في النوع الأول وهو البحث في الجمل التي تخبر عن الواقع الملموس، ويأخذ في التأكد من صحتها، وإلا اتجه فكره إلى الوهم فيؤدي به إلى عقلية الخرافة.
فالأفكار أشبه بقطع المغناطيس، تستطيع أن تجذب لكل إنسانٍ المواقف المتناغمة مع أفكاره والمسيطرة على عقله والمتوافقة مع دوافعه وميولاته، وكل فكرة بداخله تتجسد بقدر قوتها، لذلك فهو السبب الأساس في إخفاقه أو نجاحه.
وقد كتبت الباحثة «روندا بايرن» كتابًا أسمته «السر» The Secret ــ يدور حول فكرة قانون الجذب «Law of Attraction ـ وذكرت فيه: «أن قانون الجذب، قانون طبيعي ليس موجَّهًا لشخص معين، فهو حيادي مثل قانون الجاذبية الأرضية»، بما يفُسِّرُ أنَّ لكل حركة من حركات الفكر داخل الإنسان ترددٌ خاص في التعامل مع هذا القانون.
وقد جعل الله هذا القانون كالمصباح المضيء في حياة كل إنسان، فإذا أراد تحقيق شيءٍ يتمناه فكر فيه وأعطاه تركيزه، فسيصدقه عقله الباطن، وما يمكن تصديقه يمكن تحقيقه، فإذا ما اقتنع عقله الباطن أعطاه قوة الدفع اللازمة لتحقيقها بناء على قوة الجذب المسخرة له (إذا أحسن جذبها واستقبالها).
فقد روى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي أنه قال: “إِنِّي لأَجِدُ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالشَّيْءِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؛ إِلاَّ مَخَافَةَ أَنِ أُبْتَلَى بِهِ”.
وهو ترجمة للمعنى الوارد في الأثر: “أنَّ البلاء موكَّلٌ بالمنطق” أن الرجل قد يتكلم بالكلمة فيصيبه بلاءٌ، وِفقَ ما نطق وتكلم به، وقد أنشد القاضي ابن بهلول:
لا تنطقنَّ بما كرهتَ فربما | نطقَ اللسانُ بحادثٍ؛ فيكون |
وهو معنى صحيح، يشهد له كثير من النصوص الشرعية، والوقائع التاريخية:
ففي الحديث القدسي: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، وهو ما طبَّقه أهل مكة حينما تمكَّن منهم المسلمون بعد ما لاقوه من الفراق والألم وهجر الأوطان، والمقام مقام انتقام وتخليص للحقوق؛ فقال لهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم: “ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟” قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم؛ فقال صلي الله عليه وآله وسلم “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، فحسن ظنهم واعتقاد أفكارهم كان سببًا لنجاتهم وخلاصهم.
فعلى الإنسان أن يكون إيجابيًّا في أفكاره قويًّا في تحديد ما يريد تغييره، أكثر تفاؤلاً في جميع تفاعلاته مع الحياة ونظراته إلى مستقبلها، فينتقي من الأفكار أجملها وأنقاها، وأقواها وأعلاها، مما يساعده في جلب الأقدار الحسنة الخيِّرة، وإزاحة الأقدار السيئة.