إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة أُخرجت للناس، وقد ربط الله عز وجل وصف الخيرية هذا بصفتها آمرةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر إلى جانب صفة الإيمان، وبتعبير آخر ربطه بنشرها الخيرَ وحمايتها الناسَ من أضرار الشر. ومن هذه الناحية فإنه ينبغي للمؤمن إذا أراد تنشئة جيلٍ نموذجي قدوةٍ تغبطه حتى الملائكةُ؛ أن يساهم -بواسطة الأمر بالمعروف- في تحلية الناس بالفضائل والمحاسن، وأن يسعى -بواسطة النهي عن المنكر- إلى تخلية الناس عن الرذائل، ومنعهم مما استنكره واستحقره الله جل جلاله ورسولُه صلى الله عليه وسلم والعقلُ السليم والطبيعةُ البشرية.
إن التحذير من الشرور والآثام، له سبل مؤطَّرة وقنوات خاصة وحدود واضحة، فيجب ألاَّ ننسى أن الموقف الواجب اتخاذه عند النهي عن المنكرات لا يكون موجَّهًا للشخص نفسه، بل للأوصاف السيئة الموجودة فيه، وبتعبير آخر، إن كل صفة سيئة، تُشبه فيروسًا يصيب البشر. والغاية الأصلية من النهي عن المنكر هي القضاءُ على ذلك الفيروس لا على حامله، حتى يستردّ الفردُ صحتَه وعافيتَه وأمنَه وطمأنينتَه مجددًا. لذا فإن المؤمن يقف في وجه الصفات الذميمة، بل يعلن الحربَ عليها، لكن ينبغي له أن يكون رحيمًا إلى أبعد الحدود بمن يحملونها، ويستخدمَ تجاههم لغةً وأسلوبًا ليّنًا، لدرجة أنه يجب عليكم وأنتم تحذِّرون مرتكبي المنكرات مما يفعلونه، ألاَّ يَفطنوا إنْ كنتم تعارضونهم أو لا.
أجل، ينبغي لكم أن تتحركوا وتتصرفوا هكذا بأسلوب رقيق دقيق، حتى يتسنَّى لهم أن يتخلَّصوا سريعًا ودون وعي من تلك الصفات الذميمة التي يحملونها، ويخلعوها عنهم كما يخلعُون ملابسهم تمامًا؛ فالتصرف هكذا هو أحدُ ضروريات وثوابت السلوك والمنهج النبوي صلى الله وسلم على صاحبه.
وإن قابلْتم المواقفَ والسلوكيات السلبية بمثلها، فإنكم تضاعفونها أكثر بدلاً من أن تمنعوها، ولا سيما في عصرنا الذي تُضخُّ فيه السلبيات إلى الناس دائمًا؛ مما أدى إلى ممارستهم العديدَ من السلوكيات والتصرفات المنبوذة، وهذه مسألةٌ شديدة الخطورة.
إذن كونوا -كما وصف وأراد مولانا جلال الدين الرومي- شمسًا تلاطف الجميعَ شفقةً ورحمةً، وترابًا تدوسه الأقدامُ تواضعًا ولينَ جانبٍ، ومطرًا يروي النبات والشجر كرَمًا ومعونةً، وشجرًا نافعًا للآخرين ظلًّا وثمارًا، وليلاً يواري كل شيء سترًا للعيوب، وميّتًا بُعدًا عن الحدة والعصبية، ومحيطًا متراميَ الأطراف تسامحًا وصفحًا.. كما ينبغي لكم أن تحافظوا على نفس الموقف لا سيما تجاه من بَعُدوا عنكم وانزلقوا في مجموعةٍ من الأخطاءِ والزلّات بسبب همزات الشياطين وإغواءِ النفس الأمارة بالسوء رغم أنهم يتجهون إلى نفس القبلة التي تتجهون إليها، ويسجدون معكم حيث تسجدون.
فيجب عليكم أن تَثبُتوا على موقفكم وتحافظوا على منهجكم معهم حتى وإن بَعُدوا هم عنكم؛ لأنكم إن بَعُدتُم عنهم شبرًا -كلَّما بعدوا عنكم شبرًا- تضاعفت المسافةُ وشَسَع البونُ بينكم، غير أنكم إن تَثبُتوا على موقفكم تُقلِّصوا المسافة بينكما، ويصبح هذا البعد خطأً قاصرًا عليهم دونكم، فلو أنهم ندِموا ذات يومٍ وأرادوا الرجوع، فإنهم لا يعانون كثيرًا في تلافي أخطائهم التي ارتكبوها، ولا يضطرون في سبيل تحقيق ذلك إلى استخدام جدلياتٍ وحُججٍ واهيةٍ مختلفة، فليس من الجيِّد تضخيم الفتنة وتوسيعها، بل المهمُّ هو التصدّي لها بدِرْع الفطنة والقضاء عليها.
قد يَعدُّ البعض اتخاذَ موقفٍ تجاه هذا النوع من الناس، أحدَ ضروريات حمايةِ شرفهم ومجدهم وعزتهم، غير أن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم تاجَ الشرف والمجد وقمّتَه، قد رجع خطوةً إلى الوراء في بعض المواقف الحساسة حين استدعى الأمر ذلك؛ مفكرًا فيما سَيجْنِيه من مكتسبات ومنافع لاحقًا.. وبهذه الطريقة علَّمَنا أن التراجُع قليلاً حين يقتضي الأمرُ ذلك، إنما هو من إستراتيجيات المسلمين.
(*) عقبات في سبيل الحق، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2016، القاهرة. ترجمة: د. عبد الرازق أحمد.