تعدُّ قصة نجاح علاج “توم باترسون” وقصص النجاح الأخرى التي تحققت باستخدام العاثيات (آكلات البكتيريا) من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، نقاطًا مهمة وبارزة في طريق استعمال هذا العلاج. وبعد أن كان العلاج بالعاثيات من العلوم الزائفة، أعادت قصص التداوي الناجحة الاهتمام به من قبل الباحثين والعلماء في الدول الغربية، فما هي العاثيات؟ وكيف يتم العلاج بها؟ وهل يمكن استخدامها بجانب المضادات الحيوية للقضاء على البكتيريا الخارقة “Superbuges”؟ وما هي فوائد وعيوب العلاج بآكلات البكتيريا؟
ما هي العاثيات؟
تعرف العاثيات بأنها نوع من الفيروسات التي تلتهم البكتيريا عن طريق إصابتها والتكاثر داخلها حتى تنفجر وتموت، وهناك الملايين من ملتهمات البكتيريا على كوكب الأرض، وقد تطورت على مدى آلاف السنين مع البكتيريا التي تتغذى عليها، وساهمت في الحد من أعدادها والحفاظ على التوازن الطبيعي.
تستهدف العاثيات المختلفة بكتيريا مختلفة، عادة ما تلتصق العاثيات بمستقبلات على سطح البكتيريا وتحقن موادها الجينية. بعضها تعمل على انحلال الخلايا وتستخدم الموارد النشطة للبكتيريا المصابة لتكرار ومضاعفة مادتها الجينية وتكوين عاثيات جديدة (تصل إلى 1000 عاثية جديدة لكل بكتيريا)، والتي تنطلق بعد تدمير الخلية البكتيرية، والبعض الآخر من العاثيات يتكاثر داخل البكتيريا المصابة ولكن بدون قتلها.
مراحل في تأريخ العلاج بالعاثيات
البداية كانت عام 1896م عندما وجد عالم الجراثيم والباحث الكيميائي “إرنست هانبري هانكين” في مياه نهري “جانجا” و”يامونا” في الهند، شيئًا بيولوجيًّا دمّر مزارع البكتيريا المسببة للكوليرا، يمكن أن يمر هذا الشيء عبر مرشحات “ميليبور” والمعروفة بقدرتها على الاحتفاظ بكائنات دقيقة أكبر مثل البكتيريا. في حين كان أول من وصف العاثيات هو “ويليام تورت”، ثم اكتُشفت بشكل مستقل بوقت قصير من قبل “فيليكس دهيريل” -الذي يعتبره الكثير مؤسس العلاج بالعاثيات- عالم الأحياء الدقيقة الذي ينحدر من أصول فرنسية وكندية، هو أول من استخدمها في أغراض علاجية في عام 1919م، إذ استخدم العاثيات في علاج صبي يعاني من “دوسنتاريا” حادة.
كان الحماس قويًّا لاستعمال العاثيات كعلاج للأمراض البكتيرية في عصر ما قبل المضادات الحيوية، حتى إنها استعملت في علاج الالتهابات الحادة والمزمنة مع نجاحات أولية، فقد وصفت في الأمراض الجلدية وطب العيون وطب المسالك البولية وغيرها من فروع الطب.
بينما كان العلاج الوحيد المتاح في عشرينيات القرن الماضي ومعظم ثلاثينياته، هو العلاج المصلي لمسببات أمراض مختارة مثل المكورات الرئوية و”الدفتيريا”. ورافق استعمال العاثيات ضجة كبيرة، حتى إن البطل الرئيسي في راوية “سينكلر لويس” الحائزة على جائزة “بوليتزر” “أروسميث” استخدم هذا العلاج لمحاربة تفشي “الطاعون الدبلي” في جزر الكاريبي.
كان مفهوم استعمال العاثيات كعلاج للعدوى البكتيرية مثيرًا للجدل إلى حد كبير منذ البداية، ولم يتم قبوله على نطاق واسع من الجمهور والمجتمع الطبي على حد سواء، وتعرضت الدراسات المبكرة لانتقادات واسعة بسبب عدم وجود ضوابط مناسبة وعدم اتساق النتائج. أدى عدم القدرة على استنساخ الفيروسات والعديد من النتائج المتضاربة التي تم الحصول عليها من مختلف الدراسات المنشورة، إلى استنتاج مجلس الصيدلة والكيمياء التابع للجمعية الطبية الأمريكية، أن الدليل على القيمة العلاجية للعاثيات كان في الغالب متناقضًا وغير مقنع. ويوصي المجلس بمزيد من البحوث لتأكيد الفوائد المزعومة.
دفع ظهور عصر العلاج الكيميائي بالمضادات الحيوية مع دخول عقاقير “السلفا” في الاستخدام الطبي في الثلاثينيات من القرن الماضي ثم البنسلين لاحقًا في أربعينياته، إلى إضعاف الحماس في أبحاث العاثيات والعلاج بها إلى حد كبير في التأريخ الطبي في الدول الغربية. ومع ذلك ظل العلاج بالعاثيات مجالاً نشطًا للبحث والتطوير في الاتحاد السوفيتي السابق وبولندا وبدرجة أقل في الهند.
ومن اللافت للنظر أنه على مدار العقد الماضي أدى ظهور البكتيريا المقاومة للأدوية المتعددة، إلى قيام الباحثين بإعادة النظر في هذا النهج الذي مضى عليه قرن من الزمن، وإلقاء نظرة جديدة على العلاج بالعاثيات كخيار علاجي جديد وقابل للتطبيق لعلاج مسببات الأمراض البكتيرية الصعبة.
وكانت وصفت منظمة الصحة العالمية مقاومة مضادات الميكروبات بأنها أزمة صحية عالمية، ومن المتوقع أن تؤثر على ما يصل إلى 30 مليون شخص بحلول عام 2050م، وفي حالة مرضى “التليّف الكيسي”، قد تصبح مقاومة البكتريا للمضادات الحيوية هي النتيجة الحتمية للاستخدام المفرط للمضادات الحيوية.
المكنون الفيروسي
يعد اليوم المكنون الفيروسي البشري جزءًا لا يتجزّأ من الميكروبيوم البشري وهو مجموع الفيروسات التي تحتل كل ركن من أركان كياننا تقريبًا، فمثلاً في الإنسان يسمى مجمع الفيروسات Hman Virome، وتشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 380 تريليون فيروس موجود فينا، أي 10 أضعاف عدد البكتيريا، وأن هناك حوالي 108 إلى 109 عاثية في كل جرام من البراز ونحو 1012 في الأمعاء.
لكن هذه الفيروسات المكونة للمكنون الفيروسي ليست من الفيروسات الخطيرة التي نسمع عنها عادة مثل التي تسبب الإنفلونزا أو نزلات البرد أو تلك التي تسبب العدوى المميتة مثل “إيبولا” و”حمى الضنك” و”كورونا” وإنما هي متعايشة معنا، تصيب العديد من هذه الفيروسات البكتيريا التي تعيش داخل الإنسان وتعرف باسم بكتيرفاجات أو العاثيات (Bacteriphage).
يعدُّ جسم الإنسان أرضًا خصبة للعاثيات، وعلى الرغم من وفرتها فيه إلا أننا لا نملك إلا القليل جدًّا من المعرفة بما تفعله هذه الفيروسات، أو أي من الفيروسات الأخرى في أجسامنا.
إن دراسة المكنون الفيروسي البشري تخلفت كثيرًا عن دراسة البكتيريا؛ فقبل عقد من الزمن لم يكن يعرف العلماء بوجود المكنون الفيروسي “Virome”، ويرجع سبب هذا التخلف والتأخر إلى أن العلماء استغرقوا وقتًا طويلًا للتعرف على المكنون الفيروسي البشري فضلًا عن الافتقار إلى الأدوات المعيارية المتقدمة لفك رموز المكنون الفيروسي للإنسان.
ويتبين من خلال المعرفة المتزايدة بسرعة من الأبحاث والدراسات عن المكنون الفيروسي البشري، أننا لسنا مكونين من خلايا بشرية تغزوها بين الحين والآخر الميكروبات، بل إن أجسامنا كائنات حية متعايشة مع البكتيريا والفطريات والأهم من ذلك كله الفيروسات. ومن هنا يتضح أن نصف المادة البيولوجية في أجسامنا ليست خلايا بشرية.
ويبدأ المكنون الفيروسي البشري بالتراكم مع الولادة، فقد كشفت الدراسات عن تنوع كبير من الفيروسات في أمعاء الرضع بعد الولادة بفترة وجيزة، مما يدل على انتقالها من الأمهات أو بعضها يُبلع مع حليب الأم، ينخفض عدد بعض هذه الفيروسات مع نمو الأطفال إلى أسابيع أو شهور، والبعض الآخر يدخل إلى أجسامهم مع الماء والهواء والطعام والأشخاص الآخرين.
تزيد هذه الفيروسات في العدد والتنوع وتصيب الخلايا وتبقى لسنوات وبشكل عام يكون المكنون الفيروسي للرضع غير مستقر، في حين يكون المكنون الفيروسي للبالغين مستقر نسبيًّا.
العلاج بالعاثيات
لسنوات كان معظم الأطباء يخشون إعطاء العاثيات لأنهم لم يعرفوا ما إذا الجهاز المناعي البشري سيبالغ في رد فعله مما يتسبب في مستويات خطيرة من الالتهاب. تزرع العاثيات للاستخدام العلاجي في البكتيريا، وإذا لم تُزل البكتيريا تمامًا قبل إعطاء العاثيات، تؤدي البكتيريا إلى استجابة مناعية شديدة العدوانية وعنيفة جدًّا.
اليوم لدى العلماء والباحثين في مجال العلاج بالعاثيات طرق أكثر تعقيدًا لتنقية العاثيات، وقد هدأت المخاوف بشأن ردود الفعل السلبية إلى حد كبير، ما يحد حقًّا من استخدام العاثيات لعلاج الأمراض المعدية هو صعوبة العثور على فيروسات فعالة. لسنوات عديدة، قام الباحثون بتمشيط الموائل الطبيعية بحثًا عن العاثيات التي تكون نشطة ضد البكتيريا التي تسبب الأمراض البشرية.
الآن بعد معرفة العلماء أن الفيروسات وفيرة في البراز واللعاب والبلغم، أدرك الباحثون أن أحد أغنى مصادر العاثيات هي محطات معالجة مياه الصرف الصحي المحلية. وتم بالفعل استعمال عدد قليل من هذه العاثيات في العلاجات التجريبية كما في قصة “توم باترسون” وغيره، كما تمكن باحثون من جامعة “روكفيلر” من تنقية إنزيم من فيروس يقتل البكتيريا الموجودة في المرضى المصابين بالمكورات العنقودية المقاومة للميثيلين، كانت النتائج مشجعة للغاية لدرجة أن إدارة الغذاء والدواء قد صنفت الإنزيم على أنه “اختراق علاجي”، وهو الآن في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية.
فوائد العلاج بالعاثيات
تعالج العاثيات عيوبَ المضادات الحيوية.. ومثلما أن هناك العديد من أنواع البكتيريا، هناك عدة أنواع من العاثيات؛ لكن كل نوع من العاثيات لا يهاجم إلا نوعًا محددًا من البكتيريا ولن يصيب أنواعًا أخرى. هذا يعنى أنه يمكن استخدام العاثية لاستهداف البكتيريا المسببة للأمراض بشكل مباشر، على سبيل المثال، لن تقتل العاثية المتواجدة في الحلق إلا البكتيريا المسببة لالتهابات الحلق.
عدّدت دراسة موثوقة عام 2011م، بعض فوائد آكلات البكتيريا، وذكرت أنها تعمل ضد البكتيريا القابلة للعلاج والمقاومة للمضادات الحيوية، ويمكن استخدامها بمفردها أو مع المضادات الحيوية والأدوية الأخرى، كما أن العاثيات تتكاثر ويزداد عددها من تلقاء نفسها أثناء العلاج، وقد يلزم جرعة واحدة فقط، والأهم من ذلك أنها لا تهاجم البكتيريا الجيدة الطبيعية، ولا تسبب لها أضرارًا، بالإضافة إلى ذلك العاثيات طبيعية وسهل العثور عليها، وليست سامة للإنسان والحيوان والنبات والبيئة.
عيوب العلاج بالعاثيات
العلاج بالعاثيات له عدة عيوب أهمها:
أولاً: لم يستخدم هذا العلاج على نطاق واسع حتى الآن ويحتاج إلى المزيد من البحث لمعرفة مدى نجاحه.
ثانيًا: من غير المعروف ما إذا كانت العاثيات قد تؤذي الأشخاص أو الحيوانات بطرق لا علاقة لها بالسمية المباشرة.
ثالثًا: بالإضافة إلى ذلك من غير المعروف ما إذا كان العلاج بالعاثيات قد يحفز البكتيريا على أن تصبح أقوى من العاثية مما يؤدي إلى مقاومة العلاج بها.
رابعًا: يصعب حاليًّا تحضير العاثيات للاستخدام في البشر والحيوانات.
خامسًا: من غير المعروف ما هي الجرعة أو كمية العاثيات التي يجب استخدامها.
سادسًا: من غير المعروف المدة التي قد يستغرقها علاج العاثيات في العمل.
سابعًا: قد يصعب العثور على العاثية الدقيقة اللازمة لعلاج العدوى.
ثامنًا: قد تؤدي العاثيات إلى تحفيز الجهاز المناعي على المبالغة في رد فعله أو التسبب في اختلال التوازن. تاسعًا: قد لا تكون هناك أنواع كافية من العاثيات لعلاج جميع أنواع العدوى البكتيرية.
العاثيات في الولايات المتحدة الأمريكية
لم تتم الموافقة على العلاج بالعاثيات حتى الآن للأشخاص في الولايات المتحدة أو في أوروبا، كان هناك استخدام تجريبي لآكلات البكتيريا في حالات قليلة ونادرة فقط، أحد أسباب ذلك هو أن المضادات الحيوية متاحة بسهولة أكبر وتعتبر أكثر أمانًا في الاستخدام، هناك بحث مستمر حول أفضل طريقة لاستعمال العاثيات في البشر والحيوانات. تحتاج سلامة العلاج بالعاثيات إلى مزيد من البحث.
في صناعة الغذاء
تستخدم العاثيات في صناعة الغذاء، فقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) على بعض مخاليط العاثيات للمساعدة في منع البكتيريا من النمو في الأطعمة. تمنع آكلات البكتيريا في الطعام البكتيريا التي يمكن أن تسبب التسمم الغذائي، مثل السالمونيلا، الليستيريا، بكتيريا القولون، المتفطرة السلية، كامبيلوباكتر، الزائفة، مثلما تضاف العاثيات إلى الأطعمة المصنعة للمساعدة في منع نمو البكتيريا.
ثمة استعمال آخر للعاثيات يتضمن إضافتها إلى منتجات التنظيف لتدمير البكتيريا على الأسطح، قد يكون هذا مفيدًا في المستشفيات والمطاعم وأماكن أخرى.
وختامًا، فإن العلاج بالعاثيات ليس جديدًا، ولكن استخدامه على البشر والحيوانات أيضًا لم يُبحث جيدًا، ومع ذلك فإنه بسبب الدراسات الحالية والحالات الناجحة، قد يصبح العلاج بالعاثيات أكثر شيوعًا، ونظرًا لأنه يعدُّ آمنًا ومتعمدًا في صناعة الأغذية، فهناك احتمال كبير لاستعماله قريبًا في الإنسان والحيوان.
العلاج بالعاثيات هو مضاد حيوي طبيعي، ويعتبر علاجًا بديلاً جيدًا للمضادات الحيوية، ويكون مفيدًا كمعقم في الجراحة والمستشفيات، ونفس الوقت يلزم إجراء المزيد من البحوث قبل الموافقة على استخدامه للناس.
(*) كاتب وباحث يمني.