كيمياء النوم

يُعدّ علم وظائف الأعضاء “الفسيولوجي” هو المُحدِّد لمدَى سلامة أعضاء الجسم المُختلفة، ومدى كفاءة تلك الأعضاء للقيام بوظائفها الحيويّة. وهي الوظائف التي يُؤدي أداء العُضو لها بانتظام للقول بسلامة أجزاء البَدَن المُختلفة، وانتظام الدورة الدموية، ونسبة السُكّر في الدم، وانتظام إفراز الهرمونات المختلفة، ولا شكَّ أنَّ “الفسيولوجي” هو المُحدِّد لكُل تلك الوظائف الحيوية، وأنَّ معاييرهُ هي المُحددة لصحة الإنسان ومرضه.

ويمكن لذلك تعريف “علم وظائف الأعضاء” – الفسيولوجي – بأنَّهُ: [العلم المُحدِّد للتفاعُلات الكيميائية المختلفة داخل جسم الإنسان، وهي التفاعُلات الناتجة عن سريان الدم في الشرايين والأورِدة وإفراز الهرمونات المختلفة من الجسم] ـ أي أنَّ الفسيولوجي هو كيمياء الجسم البشري في صورتها الكُلية -، وسنتناول بين ثنايا تلك الدراسة أثَر تلك الكيمياء في حُدُوث التفاعلات المُسبِّبَة للنوم، والذي عرَّفهُ الأطبّاء المسلمين القدامى بأنَّهُ [سَترُ العقل بواسطة تصاعُد أبخِرَة مِن المَعِدَة، وهي تلك الأبخرة التي تتصاعد نتيجة عملية الهضم]، ويُعَدُّ هذا التعريف المنسوب للطبيب الأندلُسِي “أبِي القاسِم الزهراوي” نِبراسًا في تعريف ما صار يُعرَف الآن بـ “كيمياء النوم” – وهو ذلك التفاعُل الكيميائي المُعقَّد الذي يتِمُّ في ثلاث مناطق في الجسم، وهي المعدة، والقلب، وإنسان العين – كما قال “أبو القاسم الزهراوي” في القرن الرابع الهجري، وكما أكَّدَ الطِب الحديث أيضًا.

يقول “أبو القاسِم خلَف ابن عبّاس الزهراوي” –رحمه الله تعالى-: [اعلم وفَّقنِي الله وإيَّاك أنَّ النُعاسَ أمَنَةً مِن الله، و”الأمَنَة”: الدَعَة والراحة، والنوم إنَّما يحدُث باستكانة القلب ودِفءُ البَدَن، واستكانة القلب إنَّما تكون بِذِكر الله وقضاء الفُرُوض الخمسة، ركعَةً عن كُلِّ ساعة يقَظَة، فيكون مجموع ساعات النوم سبع ساعات يَفضُلُ نومُها في جوف الليل، وهو ما بعد العِشاء بثلاث ساعاتٍ حتى انبلاج الفجر، والنوم إنَّما يُلِحُّ على العقل والروح القلبي بتأثير تخمُّر الطعام في البطن “والتخمُّر: الهضم”، وتصاعُد أبخرة تلك الخمائِر إلي مُخّ الفرد، فيحدُث النوم بتأثير ما يتكوّن في البطن من خَمائِر]، ويكاد قول “الزهراوي” هذا يُطابِق ما قالهُ “سيجموند فرويد ” – رائِد العلاج بالتحليل النفسي – من أنَّ النوم هو [إشارات عصبيّة تصدِرُ عن الفصّ الأيسَر مِن المُخّ، بتأثير تفاعُلات كيميائية يتأثّر بها الجسم كُلّه نتيجة عملية هضم الطعام]. ومِن ذلك، فإنه يتبين أن إلمام “الزهراوي” بأساسيّات علم وظائِف الأعضاء “الفسيولوجي” كان الفيصل في فهمِه لكيفيّة حُدُوث التفاعُلات الجسدية المُؤدية للنوم، وهي تلك التفاعُلات التي تجرِي خلال رُبع ساعة “15 دقيقة” قبل النوم، مع أن عددها يزيد على ثلاثمائة تفاعُل أو يزيد، وقد شرح “أبو القاسم الزهراوي” أنَّ كيفيات تلك التفاعلات “الكيميائية” تتفاوت في سُرعتها وتوقيتاتها بين أجناس البشر المختلفة، حيث إن حدوثها خلال 15 دقيقة إنما يكون لسُكّان العُرُوض المُناخيّة المُعتدلة المُناخ، وهي الأقاليم المناخية الثالث والرابع والخامس التي تقع أغلَب بلاد الإسلام فيها، وحيث إن بلاد الأندلُس التي كان “الزهراوي” يُقيم بها تقع في الإقليم المُناخِي الثالث، فإنَّ تفاعُلات أجساد سُكّانِها المؤدية لنومِهِم كانت تحدُث في خلال الـ 15 دقيقة تلك، بل إن سُكَّان الأندلس الذين كانوا يتناولون طعامًا صِحِيًّا خالٍ مِن العوامل المؤدية للأكسدة كانوا ينامون نومًا عميقًا، بفضل العناصر المُضَّادة للأكسدة التي كانوا يطعمُونها كـ “الأفوكادو”، ودقيق الذٌرَة الذي كانوا يصنعون منهُ “الكُسكُس”، وزيت الزيتون. بينما اكتشف “الزهراوي” أنَّ الزُنُوج –مِمَّن كانوا يخدمون في قصر الزهراء الملكِي بقُرطُبة أيَّام حُكم الأُمويِّين– كانوا ينامون بشكل أسرع من الأندلُسِيِّين، بسبب اعتياد أجسامهم أكل النشويات والكربوهيدرات بنِسَبٍ كبيرة وهو ما كان يُؤدي لسُرعة اختمار الغذاء في أبدانهم بشكل أسرع من أهل الأندلُس الأصليين “الصقالبة”، الذين كانوا يعتمدون في غِذائِهم على الخضروات المطبوخة في زيت الزيتون بما كان يؤدي لبطء أكسدة الطعام داخل أجسامهم، بما كان ينفِي عنهُم ذلك الخُمُول المعروف عن الزنوج المُعتمدين في أطعمتِهم على الكربوهيدرات والنشويَّات الموجودة بكثرة في بلادِهم الشديدة الحرارة، والتي تتواجد في ثِمار البطاطا والشليك، ودقيق الذُرَة، إضافةً لثِمار المانجو الغنيَّة بالسُكريات وأملاح الماغنيسيوم التي تُطلِق المعدة لأجل هضمها إنزيمات هاضِمَة كثيرة بما يُؤدي –في نظر الشيخ الزهراوي– إلي استمرار تصاعُد الأبخرة المعويَّة المُسبِّبَة للنُعاس لفترات طويلة. وهو ما يُفسِّر نوم الزُنُوج بمُعدَّل 11 ساعة يوميًّا في المُتوسِّط، إضافةً لاعتيادِهم عدم التعمُّق والتفحُّص فيما يعِنُّ لهُم من مُعضلات الحياة، بل إنَّهُم حتى لا يألفون حمل الهُمُوم والأسقام، رُبَّما بدافِع سُهُولة حصولهم على الغذاء في بلادهم، أو رُبَّما بدافِع بساطة معيشتِهم إذ إنَّهُم يسكنون الأكواخ. وهو ما عبَّر عنهُ “ابن خلدون” في الفصول الأولى مِن مُقدِّمَتِه الشهيرة مِن أنَّ الصنائِع والعُمران المُستفيض إنَّما يتواجدان في الأقاليم المُناخيَّة الثلاث المُعتدلة، وهي الثالث والرابع والخامس التي تقع بلاد الإسلام في إطارِها. إذ إنَّ أشدَّ بلاد الإسلام حَرًّا في عهد “الزهراوي” كانت “مصر” وبعض بلاد المغرِب التي تقع بدورها في الإقليم المُناخِي الخامِس. ورُبَّما كان هُناك سِرٌّ في اكتشاف “أبي القاسم الزهراوي” لـ “كيمياء النوم” في إطار أبحاثِه الطِبِيَّة الواسعة النِطاق والأثَر حيث إنَّ “أبا القاسِم” رحِمهُ الله تعالى كان مُبتكِر علم الجراحة، وكان أولَّ مَن أشار بالبتر عند حُدُوث الغنغرينا كما هو معلوم ويُمكن تتبُّع هذا السِرّ مِن واقِع حياة “الزهراوي” نفسه، حيث إنَّهُ إنَّما لُقِّبَ بـ “الزهراوي” مِن واقِع إقامتِه في مدينة الزهراء “المَلَكِيَّة”، والتي أنشأها الخليفة الأُموي في الأندلُس “عبد الرحمن الأوسط”، المُلقَّب بـ “الناصِر”. وكانت تلك المدينة تحوِي ثلاثة آلاف مِن الرقيق الأسود الذين كانوا خَدَمًا في قصر الخليفة، والذي كان قائِمًا بِدَوره على ثلاثة آلاف عامودٍ مِن المرمر، بما كان يُخفِّض مِن درجة الحرارة داخِل ذلك القصر المهُول، وبما كان يُؤدِّي لتغييراتٍ فسيولوجيَّة في أجساد حاشية ذلك القصر المُتبايِنِ الأجناس. حيث كان مِن شأن ذلك الانخفاض في درجات الحرارة داخل قصر الخليفة الشاسِع المساحة أن اعتاد الصقالبة “الإسبان المسلمون” التكالُب على أكل الكُسكُس المصنوع مِن سَمِيد الذُرة، وذلك بما أنَّ الإحساس بالبَرد يدفع لتناول أطعِمَة تحتوي سُعراتٍ حراريَّةٍ عالية، بل ولانكماش “الرُوح القلبِي” بتعبير “الزهراوي” نفسه، والذي عبَّر عن الرُوح القلبي بـ [سُرعة توارُد الدم مِن القلب للمُخّ بما كان يُؤدي للخُلُود ساعات طويلة للنوم]، وهو ما فسَّر به “الشيخ الزهراوي” أنَّ “الصقلبِي” في مدينة الزهراء إنَّما ينام أكثر مِن الصقلبِي الذي يعيش في أحياء “قُرطُبة” الأخرى. وهو عين الفهم لأُسُس علم وظائِف الأعضاء “الفسيولوجي”، والذي ارتكز في نظره على مُتلازِمة الغِذاء والنوم، وأنَّ النوم إنَّما ينتِج عن سريان أبخِرَة الطعام إثر هضمِه في المعِدة إلى المُخّ وما يليِه، وأنَّ نوعية التغذية إنَّما ترتكِزُ عليها طبيعة عمل الأعضاء المُختلفة سُرعةً وبُطئًا، حيث إنَّ الأندلُس وعاصمتُها في عهد الأُمويين “قُرطبة”، التي كانت معروفة بـ “جوهرة العالم”، إنَّما كانت مكانًا مِثالِيًّا للعيش الرغِيد.

إنَّ حديث “أبي القاسِم الزهراوي” عن تفاعُلات الأعضاء داخِل جسَد الإنسان بما يُؤدِّي لحُدُوث سَتر العقل الذي هو النوم، إنَّما كان في مجموعِه فهمًا للفسيولوجيا. وهو ما تأصَّلَ عليه لاحِقًا نشأة العلوم التي تصُبُّ جميعُها في علم وظائف الأعضاء، وهي علوم سوائِل البَدَن “علم الغُدَد”، وعلم حَرَكة الأطراف “الأعصاب”، وعلم الدمّ الذي أسَّسَهُ العالِم “ابن النفيس”، وعلم خوارِج البَدَن “الغُدَد الليمفاويّة والأورام”، وعلم الحواسّ “طِبّ الأنف والأُذُن والحنجرة”، وعلم تقيُّحات البَدَن “الأمراض الجلديّة”، وعلم المُخرَجات “أمراض الكُلَى والمثانة”، وغيرها من العلوم الطبيّة التي تُمثِّل قِوَام الطِبّ الحديث. وهو ما كان يعني في نظَر ذلك الطبيب المسلم القديم عمليّة تنظيم الحياة البشرية بالبِناء على فهم الطبيعة الكُليّة لعمل الجسم البشري، وهي تلك “الطبيعة الكُليّة” التي ينبنِي عليها بالضرورة تفاعُل الغذاء داخل الجسم بما يُؤدي لحدوث النوم. وهو ما يُفسِّر ربط “الزهراوي” بين النوم المُنتظم وانتظام إفراز هرمونات معيّنة داخل الجسم البشري، بما يؤدي بالتالي لانتظام عمل أعضاء الجسم المختلفة بما يتماشى مع قواعد الطِبّ َ الحديث، إذ من المعروف أنَّ النوم المنتظم ضروري لإفراز 18 هرمونًا مِن هرمونات الجسم الأربع والعشرين، ويُعَدُّ هرمون الأستروجين أبرز تلك الهرمونات التي تُفرَز بانتظام نتيجة انتظام النوم لـ 6 ساعاتٍ مُتواصلات، حيث إنَّ الأستروجين على سبيل المثال هو أُوكسير القلب، بمعنى أنَّ انتظام ضربات القلب وانتظام عمل عضلة القلب لا يُمكن مِن دون “الأستروجين”، كما وأنَّ الغُدَد الليمفاويَّة المسؤولة عن تنظيم عمل الحواسّ الخمسة لا تُفرَز أيضًا بانتظام دون حدوث مُعدَّل نوم يومِي لا يقِلّ عن 6 ساعات، إذ إنَّ الغُدَد الليمفاويّة هي غُدَد الإبصار وغُدَد إفرازات الدموع، وأيضًا المسؤولة عن إفراز كُرات الدمّ البيضاء التي تُنقِّي الدمّ وتُحاصِر سُمُومَهُ، كما وأنَّ التلازُم بين طبيعة الغذاء الذي يتناولهُ الفرد ووُصُوله لحالة النوم التي هي سَتر العقل في عُرف أطبّاء المُسلمين قديمًا لا يزال أساس البحث في كيمياء النوم حتى يومنا هذا. وذلك على اعتبار ما اكتشفَهُ “الزهراوي” مِن أنَّ قِلَّة عدد السُعرات الحراريّة التي يتناولها الفرد يوميًّا عن 360 سُعر حرارِي يُمكن أن تُؤدي إلى اضطرابٍ في النوم، حيث إنَّ ذلك الاكتشاف لا يزال الأساس في الأبحاث المُتعلّقة بـ “كيمياء التغذية” عُمُومًا، وذلك على اعتبار التلازُم بين كيمياء التغذية وكيمياء النوم، وهو ما يُعَد الاكتشاف الإسلامي في الطِبّ الذي لا يزال مُعتمَدًا حتى اليوم.

إنَّ اكتشافات “أبي القاسِم الزهراوي”، ومِن قبلِه “الفخر الرازِي” في مجال علم وظائِف الأعضاء كانت الأساس المتين الذي لم يزل ذلك العلم يرتكِز عليه حتى اليوم. إذ إنَّ اكتشاف “الزهراوي” لتأثير العمل المنتظِم لعضَلَة القلب في توقُّد الذِهن قد تأكَّد مُؤخّرًا على يَد بعض الباحثين الكندِيين، والذين أثبتوا ما قاله “الزهراوي” منذ ألف عام أو يزيد مِن أنَّ انتظام تناول البروتينات يُمكِّن الفرد مِن تحصيلٍ للعُلوم غزيرٍ، وأنَّ ذلك سِرُّ الحديث الشريف القائِل بأنَّ اللحم سيِّدُ الطعام. إذ أثبتَ هؤلاء الباحثين الكنديين أنَّ تناوُل قِطعة مِن اللحم تزِنُ 50 جرامًا يوميًّا كفيلٌ بانتظام توارُد 10000 إشارة عصبيّة مِن المُخّ، وهو عدد الإشارات الكفيل بتحقيق مُعدَّل تحصيل يومِي للمُتعلِّم أو الباحِث يبلُغ 25 معلومة علميَّة في أي تخصُّص، وهو ما يُطابِق ما قالَهُ “الزهراوي” مِن أنَّ توقُّد الذِهن موهونٌ بأكل اللحم على الطريقة الأندلُسيّة، وهو طهوُها بالماء، ثُمَّ إضافة سِميد الذُرَة وزيت الزيتون إليها، وهو نظام طهي اللحم الذي كان يسير عليه “ألبرت أينشتين” –صاحب نظرية النِسبيّة الشهيرة-، و”ماكس بلانك” –صاحب نظرية ميكانيكا الكَمّ– الشهيرة أيضًا.

المراجع:  

1 – كتاب “التصريف لِمَن عجَزَ عن التأليف” لأبي القاسم خلف ابن عباس الزهراوي.

2 – مجموعة دراسات لعُلماء كندِيِّين ناطقين بالفرنسية عن “تأثير التراكُم البروتيني في الدماغ والمُؤدِّي لتسارُع التفاعُلات الكيميائية المُسببة للنوم”.