مقاصد وآداب الذكر والدعاء

الذكر بما في ذلك الدعاء، شعيرة تعبدية بالأصالة وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه ،وفيها من المنافع والمصالح ما يجعل فاعلها يستشعر ضرورتها في حياته اليومية وتتفاوت أحوال الإشراق والإقبال والروحانية الخالصة، بحسب الأوقات والظروف والهبات الربانية. قال تعالى: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾ (البقرة: 152).  وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، فعُلم بهذا أن من أفضل حال العبد ذكره لرب العالمين، واشتغاله بالأذكار الواردة عن رسول الله سيد المرسلين. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي : (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

ومن الذكر الدعاء، ومن فوائد إظهار الافتقار الله تعالى وحضور القلب، وهما غاية العبادة والمعرفة. وكذلك بلوغ الأماني وتحقق المطالب، بالعزم في المسألة وحسن الظن بالله تعالى. وبالذكر والدعاء يكتمل ورد المؤمن اليومي السالك إلى تعالى.

تعريف الذكر والدعاء:

الذكر في لسان العرب هو الحفظ للشيء وتذكره وعدم نسيانه، وجريانه على اللسان أي التلفظ به، والصيت، والدعاء والثناء. وفي الشرع، يطلق الذكر ويراد به: ذكر اللسان وذكر القلب، والحفظ، والطاعة والجزاء، والصلاة، والبيان، والحديث، والقرآن، والتوراة، والشرف، والعيب، واللوح المحفوظ، والثناء، والوحي، والرسول.

فالمفهوم اللغوي للذكر يتعدد متدرجًا من العام كمجمل الطاعة والعبادة، إلى الخاص كالثناء باللسان، والدعاء.

والدعاء في اللغة هو: “الاستغاثة.. وقد يكون الدعاء عبادة.. -ومسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه. الرغبة إلى الله عز وجل”، و”الدعاء هو الطلب” وعلة تسميته دعاء لأن الإنسان يصدر طلبه بقوله: يا الله أو يا رحمان لأنه في حقيقته نداء. واستعمل مجازا في العبادة لاشتمالها على الدعاء والطلب. قال الكفوي: “والدعاء: الرغبة إلى الله والعبادة نحو: “ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك” (يونس: 106) …. والسؤال نحو: “ادعوني أستجب لكم” (غافر: 60)..

أهمية الذكر والدعاء:

إن “المسلم الأول -وهذا ترتيب محمد صلى الله عليه وسلم بين النبيين والصديقين والشهداء والصالحين-له فن في الذكر والشكر، والإنابة والدعاء، لم يحفظ مثله لبشر”. وما ذاك إلا لكونه صلى الله عليه وسلم، سار على نهج خلق قرآني أصيل، فما هي أسرار هذه الشميلة النبوية من شمائله صلى الله عليه وسلم؟

الذكر والدعاء من وسائل محبة الله سبحانه:

مما يظهر أهمية الذكر والدعاء أنهما سبب قوي لمحبة الله للعبد، فإن جماع أسباب محبة الله لعبده، في أمور منها: “امتثال أوامره سبحانه، والإكثار من ذكره ودعائه، وإظهار الافتقار بين يديه”. فمما يحبه الله من الناس: الإكثار من ذكره ودعائه. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده». والنصوص الدالة على محبة الله للذكر والدعاء، وحبه سبحانه للذاكرين والداعين له كثيرة.

الذكر والدعاء، أعظم الأعمال:

فلا شيء أفضل من الذكر، وهو أكبر مما سواه من الأعمال، و«الدعاء مخ العبادة»، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء».وإن الذكر ليُفضي بالعبد إلى أن يذكره ربه، وهذا أكبر من ذكر العبد ربه، والذكر أعظم مقصد للصلاة. قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت:45) وقال سبحانه ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة: 152)، قال القرطبي: “وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه”. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده».

وبما أن الذكر من أحب الأعمال المأمور بها عند الله، فقد حض على الإكثار منه، فقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: 10) وأول الذكر كلام الله، فقد قال خباب رضي الله عنه: “تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه عزوجل”.

الأذكار والأدعية، وقاية ودواء، ومنجاة:

الأذكار والأدعية وقاية من آفات الدنيا، ودواء من الأدواء، ومنجاة من عذاب الآخرة. والأذكار والأدعية التي يُستشفى بها ويُرقى بها، هي في نفسها شافية بإذن الله، لكن بشرط قبول المحل، وانتفاء المانع، وقوة الفاعل. وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في حصول المطلوب، ودفع الكروب، “وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن”. إن الذكر مطردة للشيطان عن القلب والوساوس، ومزيل للهم والغم والحزن، وموجب للفرح والسرور والبسط، ومقوٍّ للقلب والبدن، ومجلبة للرزق، ويحط الخطايا ويذهبها، لأنه من أعظم الحسنات، والحسنات يُذهبن السيئات، وهو سبب لنزول الرحمة وحلول السكينة، وذكر الرب، وللذكر لذة ونعيم في القلب مما جعل مجالسه توصف برياض الجنة، قال مالك بن دينار: “ما تلذّذ المتلذذون بمثل ذكر الله عزوجل”.

أحكام وآداب الدعاء:

الحكم الشرعي للدعاء: الدعاء من أعظم العبادة عند الجمهور، وهو تكليف شرعي، ورد الأمر به في القرآن الكريم مما يدل على رجحان الدعاء على الاستسلام للقضاء وتفويض الأمر لله تعالى. قال سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (الأعراف: 55) وفي هذه الآية أمر تعالى بالدعاء، قال ابن الفرس: “وهذا الأمر بالدعاء أمر ندب ،وعبر بعضهم عنه بأنه واجب”. قال ابن كثير: “أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم” ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه».

الحِكم المقصدية للدعاء: الدعاء من التكاليف الشرعية المندرجة في باب العبادات، والأصل في الدعاء التحقق بمقام العبودية، والافتقار لله سبحانه. ويأتي بعد ذلك الأغراض الأخرى للدعاء المتعلقة بقضاء الحاجات ورفع الحوائج لله سبحانه مما يندرج في حظوظ النفس البشرية؛ من مسألة جلب الخيرات، ومسألة دفع الآفات. كما أن في الدعاء معاني تربوية نفيسة منها؛ العون على الطاعة والامتثال لأنه “يرقق القلوب، ويصفي الأرواح، ويغرس التقوى في قلوب العباد”. وبهذا يتبين أن بسلوك الدعاء بمقاصده وآدابه، يرُجى تحقق حفظ المصالح الضرورية، من دين، ونفس وعقل ونسل ومال، مما يُعلي من رُتبته المقصدية إلى الأعمال الضرورية على جهة العموم وباعتبار الكل.

 آداب الدعاء:

  • أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة، مثل يوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من الليل، وليلة القدر من الليالي.
  • أن يغتنم الأحوال الشريفة، كحال السجود، وعند زحف الصفوف في سبيل الله تعالى، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، والدعاء خلف الصلوات، وبين الأذان والإقامة وعند الصوم، وحالة السجود.
  • أن يدعو مستقبل القبلة.
  • خفض الصوت، بين المخافتة والجهر. قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 110)، وألا يتكلف السجع في الدعاء: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (الأعراف: 55).
  • التضرع والخشوع: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).
  • أن يجزم الدعاء: عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له»، وعزم المسألة هو الاجتهاد والإلحاح فيه.
  • أن يلح في الدعاء، فإن “من أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء”.
  • أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، وبالصلاة على رسول الله بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه ويختمه بذلك أيضا”.
  • الأدب الباطن: “وهو الأصل في الإجابة: التوبة، ورد المظالم، والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة”.
  • ألا يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة؛ فيستحسر ويدع الدعاء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم مالم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي».

  • الجمع بين الدعاء والعمل. فإن حقيقة التوكل؛ الاعتماد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، في الأمور كلها، مع الأخذ بالأسباب.
  • المداومة على الذكر والدعاء، قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 205)، فإن من أحب الأعمال إلى الله ونبيه الكريم، أن يداوم العبد على عمله الصالح فعن عائشة أنها ذكرت من شمائله صلى الله عليه وسلم، أنه (كان أحب الدِّين إليه ما داوم عليه صاحبه).