الإنسان موجودٌ في هذه الدنيا للعبادة؛ وجود اختبار وامتحان: هل سينجح فيه أم لا؟ وإن نجح: ما النسبة التي سيحصل عليها؟ وما الدرجة التي يرنو أن يصل إليها؟ قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
ولولا أنه خُلق لتلك الغاية السامية؛ لكان خلقه عبثًا ووجوده سدى، تعالى الله عن ذلك، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون:115-116].
والعِبادُ متفاوتون في التعبد والسلوك والسير إلى ملك الملوك، فربَّ اثنين يقفان بجوار بعضهما في صفٍّ واحدٍ من صفوف الصلاة وبينهما من الثواب والمراتب ما بين السماء والأرض، أحدهما قلبه ساجد تحت عرش الرحمن، والثاني عقله مشغول بأمور الدنيا وزخارفها، حضوره فيها حضور صورةٍ وجسمٍ، لا حضور عقل وقلبٍ، وليس للمرء من صلاته إلَّا ما عقل منها، فكم يُحصِّل هذا المصلي الذي أجهد نفسه في هذه الفريضة من الدرجات؟! وهكذا الشأن في كل العبادات والطاعات؛ إذ العبادة اسمٌ جامعٌ وشاملٌ لكلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه؛ قولاً وفعلاً، ظاهرًا وباطنًا.
فهي إذن درجات ومراتب، ولذلك لم تكن الجنة على نعيمٍ واحدٍ، أو درجةٍ واحدةٍ يستوي فيها كل من يدخلها.. بل تتفاوت حسب ما عمله العبد وحصَّله، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
إذن ما هي الخريطة العامة التي ينبغي أن يضعها العبد في ذهنه وهو يؤدي العبادة أو الطاعة؛ كيف يؤديها على الوجه المطلوب؟ وماذا عليه قبلها؟ وماذا يفعل بعدها؟ وكيف يحول عاداته إلى عبادات وقربات؟
انطلاقًا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ، وإنَّ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ» رواه مسلم.
فالله تعالى يحب العبد الناصح، القوي، الفطِن، الذي يحرص دائمًا على ما ينفعه، ويعلم كيفَ يتزوَّدُ لآخرته، وكيف يُثَقِّلُ موازين حسناته، وكيف يغتنم عمره، ويعمر أوقاته.
ومما قدره الله تعالى لهذه الأمة الخاتمة أن جعل أعمارَها قصيرة وأعمالهَا قليلة بالنسبة لغيرها من الأمم السابقة؛ ففي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعمارُ أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». أي إنَّ غالب من يعمَّر من الأمة فإنه لا يتجاوز السبعين.
وهذا ما جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخشى على أُمته أن لا يبلغوا من العمل مثلَ ما بلغهُ غيرُهم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحرص على أمته أشدَّ ما يحرص على نفسه؛ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم) فهو صلى الله عليه وآله وسلم بحالٍ يشقُّ عليه ضررُ أمتهِ، وتعظُم رغبتُه في إيصالِ خيري الدنيا والآخرة إليها، فهو كالطبيب المشفقِ والأبِ الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك سأل ربه تعالى أن يعوِّض أمته عن ذلك: فأعطاه الله تعالى سؤلَه وضاعف لهم الثواب والأجر، فيثيبَهم على العمل القليل الأجرَ الكثير والثوابَ العظيم.
فقد روى الإمام مالكٌ في “مُوَطَّئِهِ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَهُ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
وفي رواية عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ من بني إسرائيل حملَ السلاح على عاتقه في سبيل الله ألفُ شهر، فعجبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وتمنى ذلك لأمته، فقال: يا رب جعلتَ أمتي أقصرَ الأممِ أعمارًا وأقلَّها أعمالاً!! فأعطاه الله ليلة القدر، فقال: (ليلة القدر خير من ألف شهرٍ) التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله، لك ولأمتك إلى يوم القيامة.
فكأنَّ اكتناز العمر وقلة الأجل قابله فضلُ الله تعالى بتضعيف الثواب وتكثير الأجر، أي أنه عند حدوث المقارنات بين هذه الأمة وبين غيرها يأتي الفضلُ من الله تعالى باختصاص هذه الأمة بأن تكون أجورَ أعمالِها مُعوِّضةً لها عن قلة أعمارِها.
وإذا ما استعرضنا صفحات الشرع الشريف وطالعنا نصوصه وجدنا أنَّ الله تعالى عوضَّ هذه الأمة بأعمالٍ ومناسباتٍ تتضاعف فيها الأجور وتكثر فيها الحسنات، بحيث يحصل لها من تيسير أسباب وضع الأوزار، والعتق من النيران، ما يقربهم إلى دائرة الرضوان والقرب من الرحمن، حتى إن المسلم من هذه الأمة ليدرك بعبادةٍ يؤديها وهو بين أهله أو في مسجده ما لم يدركه أحدٌ من الأمم السابقة بغاية من الجهد والمشقة؛ فيأتي حديث “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه“، وحديث “من صام رمضان ثم أتبعه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر كلَه“. وحديث “الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر” “وحديث “من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أُمَّه“.
مما يحثُّ الإنسان على اغتنام الأعمال الجامعة، والطاعات النافعة، التي تحصِّل له الأجور وتضاعف له الحسنات، ومن جملتها:
إحسان النوايا في الأعمال والطاعات
ففي الحديث النبوي المشهور “إنما الأعمالُ بالنيَّات وإنَّما لكل أمرئ ما نوى“؛ أي: الأعمال المتقرَّب بها إلى الله تعالى، وهذا الحديث بحكم عمومه يتناولُ جميعَ أعمال الطَّاعات؛ فهو عموم مؤكَّد. وقوله “إنَّما”: حاصرة وقاصرة، صارت في قوة قوله: “لا عمل إلا بنية”.
وأصبح هذا الحديث هو مدخل العبادة، حتى قال العلماء “إن النية نجدها في سبعين بابًا من أبواب الفقه”.
ولذلك لا بد من النية في كل عمل حتى ولو لم يتمه العبد، وقد حرم أناسٌ الوصول لتضييعهم الأصول، والنية أصل الأصول لأنها فرض الفرائض.
إذا عرفنا هذا المعنى وأدركنا أهمية النية في العبادات والطاعات: فإن هناك أمورًا ينبغي لك أن تعرفها في مسألة إحسان النوايا وتصحيحها، وهي:
أولاً: أن النية الحسنة تجعل من العمل المباحِ قربة يؤجر عليها المسلم، فيستطيع أن يحول العادة إلى طاعة وعبادة، ففي قصة تحاور أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما في كيفية قراءتهما للقرآن، قال معاذ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي.
وذلك لأنه ينام بِنِيَّةِ الْقُوَّة وَإِجْمَاع النَّفْس لِلْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطهَا لِلطَّاعَةِ، فيرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْر كَمَا يرْجُو فِي قَوْمَتِه أَيْ: صَلَوَاتِه.
فيَطْلُب الثَّوَاب فِي الرَّاحَة كَمَا يَطْلُبهُ فِي التَّعَب؛ لِأَنَّ الرَّاحَة إِذَا قُصِدَ بِهَا الْإِعَانَة عَلَى الْعِبَادَة حَصَّلَتْ الثَّوَاب.
ونقل عن بعض السلف أنه قال: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية، في أكلي وشربي ونومي، وفي دخولي الخلاء، وكل ما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى.
فمثلاً: إذا أراد الزوج جماع زوجته، يمكن له أن ينوي بهذا الفعل نوايا متعددة؛ يقصد إيصالها حقها، وتحصيل ولد صالح يعبد الله تعالى، ويقصد إعفاف نفسه، وصيانتها من التطلع إلى حرام، والفكر فيه، فمن حرم النية في هذه الأعمال، فقد حرم خيرًا عظيمًا، ومن وُفِّقَ لها، فقد أعطي فضلاً جسيمًا.
إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وفي بضع أحدكم صدقة! قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” رواه مسلم.
ثانيًا: يتعلق بإحسان النوايا معنى في غاية الأهمية وهو متعلق بمقصود الشرع من أعمال أفراد هذه الأمة، وهو معنى تكثير النية وتعددها في العمل الواحد؛ تحصيلاً للأجر وتكثيرًا للثواب.
فإذا همّ العبد بعملٍ وقف وقفةَ المتدبر والمُفكِّر: كم في هذا العمل من نية؟ فربما وجد في العمل الواحد عشر نيّات أو أكثر لما يحتمل ذلك العمل من وجوه البرّ ومعاني القربات المندوب إليه، فيكون له بكل نية عمل، فيؤجر على العمل الواحد بقدر ما نوى، فيكون لكل نية عمل وبكل عمل أجر؛ وهو من فضائل الأعمال وتضاعيف الحسنات، ولا يعلمه إلاّ العلماء بالله تعالى وأحكامه؛ وهو طريق الكبار من صالحيّ أهل الأحوال؛ فبذلك زكت أعمالهم وارتفعت مقاماتهم وكثرت أجورهم وحسنت حالاتهم لا بكثرة الأعمال لكن بتحسينها ووجود النيات الكثيرة فيها، وقد جاء في الأثر: من عمل عملاً لا يريد به وجه الله لم يزل في مقت من الله حتى يفرغ. وقد قال بعض الأدباء: من لم يشكر لك حسن النية فيه لم يشكر لك حسن الصنيعة إليه وأنشدوا في معناه:
لَأَشكُرَنَّكَ مَعروفًا هَمَمتَ بِهِ | إِنَّ اِهتِمامَكَ بِالمَعروفِ مَعروفُ |
وَلا أَلومُكَ إِن لَم يُمضِهِ قَدَرٌ | فَالأَمرُ بِالقَدَرِ المَجلوبِ مَعروفُ |
ولو لم يكن في تجديد النية الحسنة وتفقد الهمة العالية إلاّ أنّ صاحبها لا يزال عاملاً من عمال الله تعالى بقلبه وهمه، وإن لم يساعده القدر على الأفعال بجوارحه، فيكون مأجوراً أبدًا.
كان يحيى بن كثير يقول: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.. انظر إلى الأمر بالتعلم (تعلموا النية) أي اجتهد في أن تجمع ما تستطيع من النوايا عند إقدامك على فعل أو عبادة.. وعلى قدر النوايا تكون العطايا.
ثالثًا: أنَّ من نوى خيرًا واعتقد فعلَه فله أجرُ ما نواه وإن عاقه عنه عائق، تفضلاً من الله وأجرًا على نيته”؛ ففي الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منزلة الشهداء وإن مات على فراشه».
مجازاة لَهُ على صدق الطّلب (وإن مَاتَ على فرَاشه)؛ لَان كلا مِنْهُمَا نوى خيرًا وَفعل مقدورَه فاستويا فِي أصل الأجر.
فصدقُ القلبِ سببٌ لبلوغ الأرب، وأن من نوى شيئاً من عمل البرّ أُثيب عليه وإن لم يتفق له عملُه، وفي الحديث الشريف أيضًا: «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر».
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: «إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته مالا يعطيه على عمله، وذلك أن النيةَ لا رياء فيها، والعمل يخالطه الرياء».
وقبل ذلك كله قوله تعالى: [وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله].
فالنِّيَّة قطب الْعَمَل وعَلَيْهَا يَدُور، وَقد يُفِيد مُجَرّد النِّيَّة من غير عمل، ولَا يُفِيد عمل من غير نِيَّة، فإذا دخل المسلم المسجد متوضئًا، وصلى ركعتين ينوي بهما سنة الفجر، وسنة الوضوء، وسنة تحية المسجد، حصل له أجر ما نوى، ولو صلَّى يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَحَصَلَ لَهُ الْفَرْضُ وَالتَّحِيَّةُ جَمِيعًا، والله ذو الفضل العظيم، فما أعظم الأجور على يسير الأعمال من ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى!
رابعًا: النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد: فالإنسان كما كلف بإصلاح نيته فقد كلف أيضًا بإصلاح عمله، ولا تصلح النية الصالحة العمل الفاسد، وقد قال حجة الإسلام الغزالي: المعاصي لا تتغير إلى طاعات بالنية، فلا ينبغي أن يُفهم ذلك من عموم قوله: إنما الأعمال بالنيات، فيظن أن المعصية تتقلب طاعة.
وكذلك لا تدعو هذه النوايا إلى التكاسل والتهاون والاتكال، وإنما هي موازنة بين الأعمال التي يحصل فيه الأجور الكثيرة إذا ما صحح نيته وأحسنها، وبين الاستكثار من العبادات والطاعات؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه وحينما سئل قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)، وكذلك الصحابة رضوان الله عليه، كانوا فرسانًا بالنهار رهبانًا بالليل، تسمع أصواتهم بالليل كدوي النحل من كثرة القراءة والعبادة.