ما هَكذا فُرِضَ الصِّيامُ

الشَّاعر: معروف الرُّصافي:

معروفُ بنُ عبدِالغنيِّ البغداديُّ الرُّصافِيُّ، شاعر العراق في عصره، وأحدُ أعضاءِ المجمع العلمي العربي بدمشق، ولدَ ببغداد في الرُّصافَةِ عام خمسة وسبعين وثمانمئة وألف للميلاد (1875م)، نشأ وعاش ومات فقيرًا، وتلقَّى دروسَه الابتدائيةَ في المدرسةِ الرُّشْدِيَّةِ العسكريَّة، ولم يُحرزْ شهادتَها، وتلمذَ لمحمودِ شكري الآلُوسي في العلومِ العربية وغيرِها، زُهاءَ عَشْرِ سنواتٍ، واشتغل بالتعليم، ونظم أروعَ قصائدِه في الاجتماع والثورة على الظلم، قبلَ الدستور العثماني، وبعده رحل إلى الآستانَةِ، فعُيِّنَ معلمًا للعربية في المدرسة الملكية، وانتخب نائبًا عن المُنْتَفِقِ في مجلس (المبعوثان) العثماني، وهجا دعاةَ (الإصلاح) و(اللامركزيَّة) من العربِ، وانتقل بعد الحرب العالمية الأولى سنة ثمانِيَ عشرةَ وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1918م) إلى دمشق، ثم عين أستاذًا للأدبِ العربي في دار المعلمين بالقدس، فأقام مدةً، ثم عاد إلى بغداد فعين نائبًا لرئيس لجنة الترجمة والتعريب، ثم أصدر جريدةَ (الأمل) اليوميةَ سنةَ ثلاثٍ وعشرين وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1923م) فبقيَتْ أقلَّ من ثلاثة أشهر، وعين مفتشًا في المعارف، فمدرسًا للعربية وآدابها في دار المعلمين، فرئيسًا للجنة الاصطلاحات العلمية. استقال من الأعمال الحكومية عام ثمانيةٍ وعشرين وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1928م)، فانتخب (عضوًا) في مجلس النواب، خمس مرات، مدة ثمانية أعوام، وقد زار مصر عام ستةٍ وثلاثين وتسعِمئةٍ وألفٍ للميلادِ (1936م)، واندلعتْ ثورةُ رشيدِ عالي الكيلاني ببغداد، في أوائل الحرب العالمية الثانية، فنَظَمَ أناشيدها، وكان من خطبائها، فلما فشلت عاش منزويًا عن الناس إلى أن توفي في الأعظمية، ببغداد سنة خمسٍ وأربعينَ وتسعِمئةٍ وألفٍ (1945م).

كان جَزْلَ الألفاظِ في أكثرِ شعره، عالِيَ الأسلوبِ حتَّى في مُجُونِهِ، هجَّاءً مُرًّا، وَصَّافًا مُجِيدًا، مَلَأَ الأسماعَ دويًّا في بدءِ شهرته، وتبارى مع الزَّهاوِيِّ زمنًا، وتهاجيًا، ثم كان لكلٍّ منهما ميدانُه: الرصافي برَصْفِهِ، والزهاوي بفلسفَتِه، له كتب منها: (ديوان الرصافي – ط)، و(دفع الهُجْنَةِ – ط) رسالة في الألفاظ العربية المستعملة في اللغة التركية وبالعكس، و(دفع المراق في لغة العامة من أهل العراق)، و(رسائل التعليقات – ط)، و(نفح الطيب في الخطابة والخطيب – ط) و(محاضرات الأدب العربي – ط) جزآن، و(ديوان الأناشيد المدرسية – ط).

ما أن يَحينَ موعِدُ الإفطارِ في رمضانَ، حتَّى ينقضَّ بعضُ الصَّائمين على طعامهم انقِضاضَ النَّمِر على فريستِه، فيمْلؤوا معِدَاتِهم بألوانٍ عديدةٍ من الطَّعام، وقد يأْكلون في شهْر الصِّيام أضْعافَ ما يأْكُلون في غيرِه، وفي ذلك يقول وهو يصِف بعضَ الصَّائمين الَّذين يتهافتون على الطَّعام غيرَ مُبالِينَ بالعواقبِ، من البحر الوافر:

أَكَبَّ على الخِوانِ، وكانَ خِفًّا  فلمَّا قامَ، أَثْقَلَهُ القيامُ
وَوالَى بينَها لُقَمًا ضِخامًا  فما مَرِئَتْ لهُ اللُّقَمُ الضِّخامُ
وعاجَلَ بَلْعَهُنَّ بغيرِ مَضْغٍ  فَهُنَّ بِفِيهِ وَضْعٌ فَالْتِهامُ
فَضَاقَتْ بَطْنُهُ شَبَعًا، وَشالَتْ  إِلى أَنْ كادَ يَنْقَطِعُ الحِزامُ
فَأَرْسَلْتُ اللِّحاظَ إِليهِ شَزْرًا  وقلتُ لهُ: رِوَيدَكَ يا غُلامُ
أَرى اللُّقَماتِ تَأْخُذُها حَلالاً  فَتدخُلُ فاكَ، وَهْي بِهِ حَرامُ
قَدِ انْتَضَدَتْ بِجَوْفِكَ مُفرداتٌ  تَخَلَّلَ بينَها الداءُ العُقامُ
أَتَزْدَرِدُ الطعامَ بغيرِ مَضْغٍ عَلى أيامِ صحتِكَ السلامُ
فلا تأكلْ طعامَك بازْدِرادٍ مَعاجَلَةً، فيأكُلَكَ الطَّعامُ
ألا إِنَّ الطعامَ دواءُ داءٍ  بِهِ ابْتُلِيَتْ مِنَ القِدَمِ الأنامُ
فَداوِ سِقامَ جُوعِكَ عن كَفافٍ  فإِكْثارُ الدواءِ هُوَ السِّقامُ
وما أكلُ المَطاعِمِ لالتِذاذٍ  ولكنْ للحياةِ بها دوامُ
طعامُ النَّاسِ أَعْجَبُ ما أَحَبُّوا فمنهُ حياتُهم، وبِهِ الحِمامُ
يقودُهُمُ الزمانُ إِلى المَنايا وما غيرُ الطَّعامِ لهمْ زِمامُ
وَأَعْجَبُ منه أَنَّ النَّاسَ رامُوا تنَوُّعَهُ، أَلَا بِئْسَ المَرامُ
إِذا اسْتَعْصى القِفارُ عليكَ أَكْلاً كفاكَ مِنَ القِراحِ لَهُ أُدامُ
حَذارِ حَذارِ مِنْ جَشَعٍ؛ فإنِّي  رأيتُ الناسَ أَجْشَعُها اللئامُ
وأغبى العالمينَ فتًى أَكُولٌ  لِفِطْنَتِهِ بِبِطْنَتِهِ انْهزامُ
وَلَوْ أَنِّي اسْتطَعْتُ صِيامَ دَهْري  لَصُمْتُ، فكانَ دَيدَنِيَ الصيامُ
ولكنْ لا أصومُ صيامَ قَومٍ تَكاثَرَ في فُطُورِهِمُ الطعامُ
إذا رمضانُ جاءَهُمُ أَعَدُّوا مَطاعِمَ لَيْسَ يُدرِكُها انْهِضامُ
فإنْ وَضُحَ النهارُ طَوَوْا جِياعًا وقد نَهِمُوا إذا اخْتَلَطَ الظَّلامُ
وقالوا: يا نهارُ لَئِنْ تُجِعْنا  فإنَّ الليلَ مِنْكَ لنا انتقامُ
وناموا مُتْخَمِينَ عَلى امْتلاءٍ  وَقَدْ يَتَجَشَّؤُونَ وَهُمْ نِيامُ
فَقُلْ للصائمينَ أَداءَ فَرْضٍ  أَلا ما هَكذا فُرِضَ الصِّيامُ