أقام الشرعُ الشريفُ العلاقةَ الزوجية بين الرجل والمرأة على نسيج من المودة والرحمة، وأباح أمر الاستمتاع بينهما بما يُحقِّقُ لهما معنى العِفَّة والأُلْفَة، وجعل حقهما في ذلك متناظرًا ومتبادلًا ما دامت الزوجية بينهما قائمة؛ وذلك لأن ما يحتاجه الرجل من المرأة هو عين ما تحتاجه المرأة من الرجل؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228]، وقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21].

أي: قدَّر لكم أزواجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وتتوطنوا معها وتتألفوا بها توطنًا خاصًّا وتآلفًا تامًّا؛ بحيث يفضي إلى التوالد والتناسل، وَلهذه الحكمة البديعة قد جَعَلَ بَيْنَكُمْ وبينهن مَوَدَّةً ومحبة خاصة خالصة منبعثة عن محض الحكمة الإلهية.

ولذلك جعل الرباط بينهما من أعظم المواثيق وأقواها، وأقدسها وأرقاها، وهو الميثاق الغليظ الوارد في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21]، أي: عهدًا مؤكدًا شديدًا؛ إشارة إلى أنه يصعبُ نقضُه، كثوبٍ غليظٍ يعسر شقُّه؛ فوصفه بالغلظة؛ لقوته وعظمته، فوصفه الله سبحانه وتعالى بالغلظة لقوته وعظمته وأهميته في بناء الأسرة، ويمثل العهد الذي أُخِذ بينهما عند عقد النكاح، وما يتضمنه من حسن العشرة، والصدق والبذل والوفاء من كل منهما للآخر.

وأرادَ الشرع من ذلك الميثاق أن يكون هو العلاقةَ الوحيدةَ الموثوق بها في اختصاص الرجل بالمرأة، أو بنساءٍ هُنَّ قرارات نسله؛ حتى يثق من جرَّاء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسلها إليه؛ كما قال الطاهر بن عاشور في “مقاصد الشريعة الإسلامية” (2/ 343، ط. أوقاف المغرب).

وبذلك كان الزواج مُراعيًا لحاجة الإنسان الفطرية، ومُحَقِّقًا للمقاصد الشرعية؛ من حفظ الدين، والعِرض، والنسل؛ مما جعل الشرع الشريف يحيط الرباط بين الزوجين بسياج الديمومة والاستمرار، قصْد الإعمار والاستقرار؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”، واتَّخذ في سبيل إبقاء عُرى هذا الرباط، الوسائل الوقائية، والحلول الإجرائية، والتي تحول دون نقضه أو انفصامه:

– فحث على حسن اختيار كل من الزوجين للآخر، قبل بناء العلاقة بينهما وتوطيدها، ووضع المعايير اللائقة بها؛ من حُسن الدين والخُلُق ونحوهما؛ ففي جانب الرجل قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ» قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أخرجه الترمذي في “السنن” وغيرُه من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه.

وفي جانب المرأة: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أراد أن يتزوج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا»، فَفَعَلَ، فتزوَّجَهَا، فذكرَ مِن مُوافقَتِهَا. أخرجه ابن ماجه -واللفظ له-، والترمذي والنسائي في “السنن”.

فقوله: «أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» أي: أولى بالإصلاح وإيقاع الألفة والوفاق بينهما؛ كما قال الإمام الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (7/ 2271، ط. نزار الباز).

– وأكَّد على حُسن العشرة وإدامة المودة، وإبقاء الألفة؛ مصداقًا وتطبيقًا لقول الله عز وجل: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، فإن كره أحدهما من الآخر شيئًا، فلا يبعدُ أن يكون هذا الشيء هو عين الخير والنفع لهما، وقد يكون هناك من الأشياء الخيِّرة ما يرضى به غير ما كره؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أو قال: «غَيْرَهُ» رواه الإمام مسلم في “الصحيح”.

– ووجَّه الرجل على وعظ زوجته وهجرها حال نشوزها: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34].

– وحثَّ على أهمية الصلح بين الزوجين والتراضي بينهما؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35]، فإن نووا (الزوجان والحكمان) الصلح؛ فإن الله تعالى قد كفل لهم التوفيق في ذلك، على أن الإصلاح ليس في حالة نشوز الزوجة فقط، بل في حالة نشوز الزوج أيضًا وخروجه عن مهماته وواجباته في الحفاظ على الأسرة، فللمرأة طلب الصلح، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ [النساء: 128].

– وجعلَ الطلاق أبغض الحلال: ففي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ: الطَّلَاقُ» رواه أبو داود وابن ماجه في “السنن”، والحاكم في “المستدرك” وصحَّحه بلفظ: «مَا أَحَلَّ اللهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ».

– وأوكلَ أمرَ الطلاقَ إلى الزوج: لاختصاصه بكمال العقل والرأي؛ لأنه يغلب عليه تقديم العقل على العاطفة، وهو الذي وقعت عليه معظم أعباء الزواج، وهو الذي سيتحمل ما سيترتب على الطلاق من تكاليف، ولا شك أنه بمقتضى هذه التكاليف وبمقتضى حرصه على استقرار حياته، سيتأنّى ويتروى في إيقاع الطلاق، فلا يوقعه إلا إذا كان مضطرًّا إلى ذلك غالبًا. فـ”جعل أمر الطلاق بيد الرجل من الزوجين؛ لأنه في غالب الأحوال أحرصُ على استبقاء زوجه وأعلق بها وأنفذ نظرًا في مصلحة العائلة”.

وهذا خلاف المرأة -مع ما أباح لها المشرع الحكيم من أمر الخلع-؛ لأن العاطفة عندها تسبق عقلها، فعند حدوث أي خلاف تبادر بإيقاع الطلاق.

– وأرشدَ إلى عدم إيقاع الطلاق في فترة الحيض -مع اعتبار صحته إذا وقع- أخذًا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حينما طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فسأل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» متفق عليه.

ففي الحديث دلالة إرشادية إلى أن هناك أوقاتًا لا يحسن إيقاع الطلاق فيها؛ لكونها من أوقات فتور الرغبة أو تأجج الخلاف؛ ذلك أنَّ “الطلاق للحاجة هو الطلاق في زمانِ كمالِ الرغبة، وزمانُ الحيض زمانُ النفرة؛ فلا يكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق”؛ كما قال الإمام الكاساني في “بدائع الصنائع” (3/ 94).

– وعدَّد مرات الطلاق ونوَّعها: فجعله ثلاث مرات لا مرة واحدة، وجعل منه الرجعيَّ والبائن؛ قال الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229]، ﴿فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني: إذا راجعها، يمسكها بمعروف، ينفق عليها، ويكسوها، ولا يؤذيها، ويحسن معاشرتها، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ﴾ يعني: يؤدي حقها، ويخلي سبيلها.

– وبيَّن أنَّ مسكنَ الزوجية هو مسكن المُطلقة أثناء عدَّتها؛ لأن بقاءهما معًا في مسكن واحد، أحرى لرجوعهما وأقرب لصلحهما؛ قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1].

قال قتادة في تفسير ﴿لَعَلَّ اللهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾: “هذا في مراجعة الرجل امرأته” أخرجه عبد الرزاق في “التفسير”. يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة.

فإذا استنفذت كل هذه الوسائل والإجراءات واستحالت العشرة بين الزوجين لا محالة؛ بحيث أصبحت مفاسدُ بقاء العلاقة بينهما، أشدَّ مِن منافعها وأكثرَ مِن مصالحها: فتُشرعُ المفارقة والتسريح بينهما، ويحلُّ حينها الطلاق؛ تغليبًا للمصلحة، وحرصًا على أمان الطرفين في دينهما ونفسهما.

أي: شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة؛ لأنَّ الزوجين قد تختلف أخلاقهما، وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى النكاح مصلحة؛ لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد، فتنقلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه، إلا أن المخالفة قد تكون من جهة الزوج، وقد تكون من جهة المرأة.

قال الطاهر بن عاشور في “مقاصد الشريعة” (3/ 445): [والمقصد الشرعي فيه: ارتكاب أخف الضرر عند تعسُّر استقامة المعاشرة، وخوف ارتباك حالة الزوجين، وتسرب ذلك إلى ارتباك حالة العائلة، فكان شرع الطلاق لحل آصرة النكاح، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ] اهـ.

فاستُفيدَ من هذه الإجراءات: أنَّ الشرع الشريف لمَّا جعل الطلاقَ آخِرَ سُبل الإصلاح حال وقوع النفرة بين الزوجين؛ علم أن ذلك مما يستدعي مرور وقت وتكرر محاولة، والعمل المستمر على إيجاد الحلول المناسبة للحيلولة بين وقوع الفرقة بين الزوجين مهما أمكن ذلك، وما ذلك إلَّا لتشوف الشرع إلى بقاء عُرى الزوجية قائمة مستمرَّة ما استُطيع إلى ذلك سبيل.