النوم ضرورة من ضرورات تكوين أجسام الكائنات الحية وبنائها، وبه ينعم الإنسان بلذّة الراحة، ويستعيد نشاطه، وتعود له قواه المنهكة، وما بذله من طاقة وجهد في أثناء ساعات النهار. وهو نعمة عظيمة وآية من آيات الإعجاز العظمى في خلق الإنسان، يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)(الروم:23).
والنوم وسيلة الدخول في سبات فسيولوجييرمّم خلاله الجسمُ ما تهدم من خلايا وأنسجة، ويتابع فيه نموه المتوازن، ويريح به أجهزته المختلفة؛ إذ يهدأ في أثنائه نشاط الدماغ والتفاعلات الحسية والحركية، وينخفض ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم، ويقلّ معدل ضربات القلب وسرعة التنفس، لتستعيد بعدها تلك الأجهزة من جديد نشاطها عقب الاستيقاظ.
وإذا مُنع الإنسان النوم أصابه الأرق أيامًا عديدة، وظهرت لديه علامات الاضطرابات الذهنية، والهلوسة (Hallucination) السمعية والبصرية، ويعقب ذلك فَقْد التركيز والهزال والهذيان الفكري، وانهيار تدريجي لأجهزة الجسم يتمثل في اضطراب وظائف الغدد الصماء؛ كارتفاع سكر الدم، وقلة إفراز هرمون النمو، وضعف جهاز المناعة، وظهور أعراض نفسية؛ كالقلق، وتعكر المزاج، وضمور خلايا الدماغ، وضعف العضلات.
وقد عمد الإسلام إلى تنظيم حياة المسلم بين ليله ونهاره، فوضع بصمته المباركة في دقائقها، ووجه إلى ما فيه خير جسم المسلم وصلاحه. وجاءت نصوص السنة الكريمة فنظمت نوم الإنسان، وسنّت له جملة من الآداب التي صانت صحة النائم ووقته من التعرض للأذى، ومِن هذه الآداب:
أ- حثت السنّة على توخي الحذر والسلامة والأخذ بأسباب الحيطة قبل النوم، ومن ذلك إطفاء النار والمصباح في المنزل بغية وقاية النائم من خطر حدوث الحريق، ففي الحديث: “إن هذه النار إنما هي عدوّ لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم” (رواه مسلم).
وحذرت الأحاديث كذلك من النوم في الأماكن الخطرة، فقد “نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينام الرجلُ على سَطْحٍ ليس بِمَحْجُورٍ عليه” (رواه الترمذي)، وعلة ذلك واضحة؛ فالنوم في مكان آمن وعالي السور، يساعد في حفظ الجسم من خطر السقوط فيما لو قام النائم فزعًا، أو سار وهو مغلوب بالنوم، ولا شك أن في السقوط تعريضًا لأذى الجسم وإصابته بمخاطر كثيرة.
أثبتت تجارب عدة أن مرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء، يتم في مدة تتراوح بين ساعتين وأربع ساعات إذا كان النوم على الجانب الأيمن، بينما يتم ذلك في مدة تصل إلى ثماني ساعات إذا كان النوم على الشق الأيسر
كما “نهى النبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن الوَحْدة” (رواه الإمام أحمد)؛ وفي ذلك أيضًا وقاية للنائم من المكروه المتوقّع، كأن يكون مريضًا فيحتاج إلى من يناوله الدواء أو يعينه على قضاء حاجة ما، أو يأخذه إلى المستشفى إن احتاج ذلك مثلاً.
ومن الصور الأخرى للأخذ بأسباب السلامة قبل النوم، إغلاق الأبواب؛ ويفيد ذلك في منع دخول الحيوانات المؤذية التي قد تلحق الضرر بالنائم من حيث لا يدري. وقد جاء ذلك في حديث: “إذا كان جُنحُ الليل فكُفّوا صِبيانَكم فإنّ الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذَهَب ساعةٌ من الليل فَخَلّوهم، وأغلقوا الأبوابَ، واذكروا اسمَ الله فإنّ الشيطان لا يفتح بابًا مُغْلَقًا” (رواه مسلم).
وتأمر أحاديث أخرى بِنَفْض الفراش قبل الولوج فيه، ومن ذلك حديث: “إذا أوى أحَدُكم إلى فراشه فليأخذ داخلةَ إزاره، فلْيَنْفُض بها فراشَه، ولْيُسَمّ الله، فإنه لا يَعْلَم ما خَلَفَه بَعْدَه على فراشه” (رواه البخاري). وتُظهر لنا عدسة المجهر ما يَستقرّ في فراش النائم مِن كائناتٍ حيّةٍ دقيقة لا تُرى بالعين المجرّدة، كالميكروبات المختلفة، والحشرات الصغيرة وبيوضها وريقاتها. وفي نَفْض الفراش إزاحةٌ لجُزءٍ كبير من تلك الكائنات المسّببة للأمراض، ووقاية للجسم من لَسْع ما قد يستقرّ في الفراش مِن الهوام. وتتّضح فائدةُ هذا الهدْي النبويّ بصورة أوضح في حال تعذّر الرؤية في الظلام، لانقطاع الكهرباء مثلاً، أو في النوم في الصحراء أو العراء، إذ تكثر الهوام والعقارب والحشرات.
بـ- وأُمِر المسلمُ بالوضوء قبل أن يخلد إلى النوم، ففي الحديث: “إذا أتيْت مضْجِعك فتوضأ وضوءك للصلاة” (رواه مسلم). وفي الوضوء قبل النوم وقاية صحية للنائم، إذ تسهم أفعال الوضوء المختلفة في تنظيف أعضاء الجسم، وتخفيف ما يتراكم في الجلد من بكتريا، وميكروبات أخرى، وفيه أيضًا إزالة ما علق بالجلد من رائحة الطعام الجاذبة للحشرات والهوام نحو جسم النائم.
جـ- وحث الإسلام على النوم باكرًا، وحذر من عادة السهر الضارة التي شاعت في أيامنا هذه، ونتج عنها تبعات صحية كثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام: “إياك والسّمَر بعد هدأة الليل” (رواه الحاكم).
ومن المعروف علميًّا أن للسهر تأثيرًا ضارًّا في صحة الجسم، فهو سبب رئيس للإرهاق النفسي والإجهاد الجسدي، ويَظهر تأثيرُه جليًّا في أعضاء الجسم المختلفة، ولا سيما جهاز الغدد الصماء، الذي يصاب بالإنهاك الذي يُعِيقه عن أداء مهامه على الوجه الأمثل.
كما ثبتت علميًّا فوائد الاستيقاظ الباكر -التي يحرم منها من اعتاد السهر- إذ تعلو نسبة غاز الأوزون عند الفجر، وتقل تدريجيًّا حتى طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثيرات صحية مفيدة، منها تنشيط عضلات الجسم وجهازه العصبي. كما أن شمس الصباح الباكر من جهة أخرى غنية بالأشعة فوق البنفسجية، التي تحرض الجلد على صناعة فيتامين (D) الذي يُثبّت معدن الكالسيوم في العظام.
د- حثت الأحاديث على النوم على الشق الأيمن، ومن ذلك حديث: “إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن” (رواه مسلم).
وأوضاع النوم أربعة، فقد ينام النائم على ظهره أو بطنه أو شقه الأيمن أو الأيسر. وسنناقش تلك الأوضاع المختلفة لبيان حرص السنة على اختيار الوضع الأنسب للصحة منها، وهو النوم على الشق الأيمن.
1- يؤدي النومُ على الظهر إلى استرخاء الفك السفلي، ويجبر النائم على فتح فمه للتنفس، وتتعطل بذلك عملية التنفس الطبيعية من الأنف، فتتوقف وسائل الدفاع التي خلقها الله في الأنف لتصفية هواء الشهيق وضبط درجة حرارته. ويؤدي ذلك في المحصلة إلى إصابة النائم بالزكام، وجفاف اللثة، ويعلو صوته بالشخير، ويصبح عرضة لدخول عدد أكبر من الميكروبات والجراثيم عبر فتحة الفم.
ولا يُناسب النوم على الظهر صحة العمود الفقري، إذ يسبب انثناء فقرات الرقبة والظهر. وقد تؤدي المداومة على فعل ذلك إلى حدوث تغييرات في شكل الجمجمة عند الأطفال.
كما يرفع وضع النوم هذا، أحشاء البطن نحو الأعلى، مما يضغط على الحجاب الحاجز (Diaphragm) فيضيق بذلك حجم الصدر مؤدّيًا إلى ضيق التنفس.
2- يسبب النوم على البطن ضيق النفس، ويعود ذلك إلى ضغط الجسم على الرئتين، ومنع القفص الصدري من التمدد الكامل في أثناء التنفس، وينتج عن ذلك خلل في عمليتي الشهيق والزفير. كما تضغط المعدة في هذا الوضع، مما ينتج عنه سوء الهضم، وما يعقبه من الشعور بألم المغص. وقد حذرت السنّة من النوم على البطن، ومن ذلك حديث “هذه نومة يكرهها الله” (رواه ابن ماجة).
3- يؤدي النوم على الشق الأيسر إلى ضغط الرئة اليمنى والكبد على القلب، فيعيق ذلك حركته ويقلل نشاطه وضخه للدم، كما تضغط الكبد على المعدة فتؤخر إفراغها، ويصاب النائم حينها بعسر الهضم أيضًا.
4- يناسب النوم على الشق الأيمن أعضاء الجسم الداخلية، ويضمن حسن أداء أجهزته، ولا سيما الجهاز الهضمي والتنفسي والقلب. وقد أوضح علما التشريح وفسيولوجيا الأعضاء ما خفي من حكم عظيمة حين اختارت السنّة هذا الوضع من النوم، إذ تستقر كبد الإنسان النائم على شقه الأيمن بشكل مريح، وتجثم المعدة فوقها بيسر وسهولة دون أن تتعرض لضغط الأعضاء المجاورة، وهذا أسهل لإفراغ محتوى المعدة من الطعام وتسريع عملية الهضم.
وقد أثبتت تجارب عدة أن مرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء، يتم في مدة تتراوح بين ساعتين وأربع ساعات إذا كان النوم على الجانب الأيمن، بينما يتم ذلك في مدة تصل إلى ثماني ساعات إذا كان النوم على الشق الأيسر.
ويريح النوم على الشق الأيمن أعضاء الجهاز التنفسي أيضًا، إذ تضغط الرئة اليسرى هنا على القلب برفق، فهي أصغر من جارتها اليمنى وأقل وزنًا منها. كما يسهل هذا الوضع وظيفة القصبات الهوائية في طرحها لإفرازاتها المخاطية، مما يقي الرئتين من الإصابة بالالتهابات.
كما يمنع النوم على الشق الأيمن ضغط المعدة والحجاب الحاجز على القلب، مما يعطيه سلاسة في أداء وظائفه، كضخ الدم نحو أعضاء الجسم المختلفة.
5- ومن الهدي النبوي أيضًا وضع النائم يده اليمنى تحت خدّه، ففي الحديث: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده” (رواه البخاري)، ويعْدُل ذلك علميًّا وضع وسادة رقيقة تحت الرأس، وهذا يعني رفعه إلى مستوى أعلى من القلب قليلاً، مما ييسر ضخ القلب للدم نحو الرأس بسهولة، وبالتالي وصول قدر أكبر من الدم نحو الدماغ. أما الوسادة المرتفعة فتجعل الرأس في مستوى أعلى من القلب كثيرًا، وفي ذلك إعاقة وصول الدم نحو الرأس وحرمانه من ترويته بالدم.
6- حثت نصوص أخرى على رد التثاؤب، وعدم استرسال المتثائب في فتح فمه، ومن ذلك حديث: “إنّ الله تعالى يُحب العطاس، ويكره التثاؤب” (رواه البخاري)، وحديث: “إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع” (رواه البخاري).
وفي رد التثاؤب وكظمه فائدة جمة للصحة، ويؤدي إهمال ذلك -بفتح الفم كاملاً- إلى دخول كمية كبيرة من هواء الشهيق باندفاع قوي نحو الرئتين، إلا أن هذا الهواء لا يخضع لتنقية أو تصفية قبل دخوله، لأنه يعبر من خلال فتحة الفم غير المهيأة لاستقبال الهواء، ويحمل ذلك الهواء غير المنقى أعدادًا كبيرة من الجراثيم والطفيليات، ولا شك أن في الحث على إغلاق فم المتثائب، وقاية لجسمه من أضرار تلكم الكائنات.
ويضر فتح الفم الكامل في أثناء التثاؤب أيضًا، عضلات الفم والحنك ومفاصلهما، إذ يؤذي صحة المفصل الفكي الصدغي (Temporomandibular Joint) ويُـمزق أربطته المفصلية، مما يؤدي إلى التهابه وإصابة صاحبه بآلام شديدة فيه.
إذن فما أعظم الهدي النبوي وهو يدعو إلى آداب النوم تلك، وما أعظم ما رأينا من حكم وفوائد صحية أزاح نقابها العلم الحديث ليزداد بذلك إيماننا ويقيننا بأن صاحب ذلك الهدي ما نطق يومًا عن الهوى، وما كان كلامه إلا وحيًا من عند الله يوحى.
(*) اختصاصي جراحة التجميل بالمدينة المنورة / المملكة العربية السعودية.