لم تعرف أمة من أمم العهود القديمة، تلك المردودات العلمية والحياتية للعلوم الرياضية مثلما عرفتها الأمة العربية الإسلامية، التي انطلق علماؤها للبحث في تلك العلوم، من منظور محاولة تحقيق أنسب وسائل التعاطي مع قوى الطبيعة، من منطلق إدراكهم أن الرياضيات وما يتعلق بها من علوم عددية أو هندسية تبحث في أي كمٍّ متصل أو منفصل، هي وحدها الكفيلة بحفظ شيء من التفاهم بين الإنسان وبيئته.

وانطلاقًا من تلك الحقيقة، فيمكننا أن نجزم بأن المنشأ الدافع لتلقّي العلوم الرياضية لدى العرب، لم يكن أبدًا ذلك المنشأ الفلسفي ذو المرجعية اليونانية، الذي لم يفتأ يوظف الرياضيات وما يتعلق بها من علوم عددية وهندسية، توظيفًا يكاد أن يتماشى مع قناعة ذلك الذي يحاول توظيف تلك العلوم لخدمة نزعة فلسفية-كوزموبوليتية (كَونية)، حيث إن أساطير الرياضيات في العالم القديم كـ”بطليموس اليوناني السكندري”، وبرغم سعة علمه بالرياضيات، كان يعتقد أن العلوم الرياضية في مجموعها، لا تعدو أن تكون أدلة تُثبت صحة رؤية فلسفية متعلقة بالبحث في كيفيات تحقيق تلك الرؤية الفلسفية، استرشادًا بالإلمام بقوانين الطبيعة وتكييفاتها لحركات الكون، بما يقطع بأصالة البحوث الرياضية التي تأسست بالبناء عليها علوم الرياضيات الحديثة، والتي يعود الفضل في تأسيسها للرياضيين العرب المسلمين، الذين ارتكزوا في محاولة فلسفة الواقع على قول الله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (الرحمن:7-8).

وإذا أقررنا بأن الميزان فرعٌ عن العلم بالرياضيات، وإذا سلَّمنا أيضًا بأن الموازين تعني وجود بُعدٍ طبيعي لكل ما يتعلق بالحياتين الدنيوية والأخروية من حساب وعقاب وإثابة وجنة ونار، فيمكننا أن نُدرك أن منشأ الاهتمام بالعلوم الرياضية لدى العلماء العرب المسلمين منذ أكثر من ألف عام، كان يختلف أشد الاختلاف عن منشأ الاهتمام به لدى اليونان والرومان وغيرهم من أمم العهود القديمة. إن “الخوارزمي” و”البيروني” وغيرهما من الرياضيين المسلمين، لم يضعوا في اعتبارهم فلسفة الحياة على اعتبار أن الغرض من مدارسة الرياضيات هو بناء تصوُّر مستقل للحياة، وإنما كانت محاولة التوصل لأمثل طرُق التعاطي مع تلك الحياة ذات القوى الطبيعية المختلفة الأشكال هي دافعهم الرئيس لمدارسة العلوم الرياضية، بما يفسِّر أصالة البحوث الرياضية للخوارزمي وغيره من علماء الرياضيات العرب، الذين امتد عطاؤهم منذ القرن الثامن الميلادي وحتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.

إن العطاء استمر في تلك القرون العشرة، من باب محاولة التنويه بما للشيخ حسن بن إبراهيم الجَبَرتي الحنفي من فضل لا يدركه سوى القليل من باحثي التراث المعاصرين فيما يتعلق بإحياء الاهتمام بالعلوم الرياضية في فترة القرن الثامن عشر الميلادي، والموافق -بدوره- للقرنين الهجريين الحادي عشر والثاني عشر، حيث إن “الجَبَرتي” كان طودًا متينًا مكَّن رياضيِّي عصره من الوقوف على تراث قدامى الرياضيين العرب، الذين كانوا رواد علوم الرياضيات خلال تلك العصور الوسيطة، التي امتد فيها ظلُّ الإسلام على قارات العالم القديم الثلاث ذات الطبائع الطبيعية المختلفة.

وقد يكون من نافلة القول أن المسلمين العرب هم من أسسوا علوم الرياضيات البحتة، وهي تلك التي تعني ذلك النوع من الرياضيات التي يمكن التحكم في قوى الطبيعة بواسطة التوظيف التقني السليم لنواتجها. وقد كان وضع “محمد بن موسى الخوارزمي” لأسس الجبر حوالي عام 810 للميلاد، هو الفاتحة الحقيقية للعلم البشري بالرياضيات البحتة، التي تطورت في عصرنا الحالي لتشكل أساس الصناعات التقنية (الهاي تِك). حيث إن تطويرات العالِم الفرنسي “جاسبار مونج” للرياضيات البوليتقنية التي تعدُّ الأساس الذي انبنت عليه تلك الطفرة في الصناعات الميكانيكية، لم تنبني سوى باطلاعه على أسس الرياضيات الجبرية، التي اطلع عليها خلال فترة إقامته في مصر إبان الحملة الفرنسية. وقد كان الشيخ “حسن الجَبَرتي” قد وضع أسس علمه الفريد الموسوم بـ”علم العِياريات” (علم المكاييل والموازين)، الذي ضمَّنه كتابه “العِقدُ الثمين فيما يتعلق بالموازين” بالتأسيس على الارتقاء بالمعادلات الجبرية التي سبق أن وضع أسسها الرياضي العربي المسلم “محمد بن موسى الخوارزمي” قبل ألف عام من ظهور تطويرات الرياضيات البوليتقنية على يد “جاسبار مونج” التي أنتجت في أوقات لاحقة تكنولوجيا “الهاي تك”.

وقد يتساءل متسائل عن الرابط الرياضي الدقيق بين جبريات الخوارزمي، وعِياريات حسن الجبرتي، وبوليتقنيات جاسبار مونج، بل قد يزعم آخر بأن كاتب ذلك المقال قد بَعُدت به الشقَّة لدرجة أنه نسب الفضل في صناعة رقائق التيتانلوم التي تستطيع في وقتنا الحالي بعد تركيبها في أجهزة “الآي باد” من فئة “MP4” أن تُصدر موجات عصبية مشابهة لتلك التي تَصدُر عن خلايا المخ المسؤولة عن التفكير واتخاذ القرارات. ولكن الشُقَّة ستقترب وسيبدو ذلك الرابط المحيِّر حينما نعلم أن عالمًا مسلمًا يدعى “زين الدين عبد الحق الحنفي الغزنوي” كان قد طور آلة زنبركية تقوم مقام صبي الحمَّامات العامة قديمًا -الذي كان يعرف في مصر قديمًا بالبلاّن- بالتأسيس على الوصول لخرطٍ بالغ الدقة لمعدن التيتانلوم، وبالتأسيس على التوصل الدقيق لصفات هذا المعدن المعقّد من حيث عدده الكتلي الذي كان مجهولاً وقتها، وكيفيات تشابك جزيئاته من خلال حلّ إحدى المعادلات الجبرية من الدرجة الرابعة، التي تعلقت بشكل مباشر بإعمال طريقة اتزان المعادلات بطريق استخدام كلا المحايدين الجمعي والضربي، لأجل تحقيق توازن المعادلة الجبرية، التي ابتكرها الرياضي الفذ “الخوارزمي”. وكانت تلك الآلة تقوم بعد ملء الزنبرك بمهمة صبي الحمَّام للسلطان “علاء الدين تِكش الخوارزمي”، الذي كان يحكم إمبراطورية مُسلمة امتدت ما بين نهرى السّند والفرات. وهي تلك الدولة الخوارزمية التي ضم بلاطُها الملكي الشيخ “محمد بن عبد المهيمن غياث الدين” الشهير بـ”ابن عبد المهيمن الحنفي” الذي خطا بعلم حساب المثلثات تلك الخطوة الجبارة، التي تمثلت بتفعيل ناتج العمليات الحسابية والمتفرعة بدورها عن مسائل حساب المثلثات متساوية الساقَين في إطار الكشف عن مدارات بعض الكواكب السيارة، من حيث شكل وطول كل مدار من تلك المدارات، بما أدى إلى سهولة الكشف عن شكل مدار الأرض حول الشمس، ومن ثم تحديد الطول الدقيق لذلك المدار، وهو ما أدى إلى تحديد طول الليل والنهار بمنتهى الدقة، ومن ثم إلى سهولة وضع تقاويم فلكية بالغة الدقة أفضت لسهولة التحديد الدقيق لمواقيت الصلاة. وهو ما يؤكد شمولية الفوائد التي تحققها دراسة العلوم الرياضية بأفرعها المتعددة.

لقد شكَّلت دراسة الرياضيات في عصور ازدهار الحضارة العربية، جزءًا لا يتجزأ من ذلك الإطار المعرفي الفقهي، الذي عني بالأساس بمحاولة التوفيق بين الأوامر الوجودية والأوامر الشرعية، من حيث إن الأمر الوجودي في تعريفه يتمثل في تلك الظواهر الكونية الدائمِ منها والمرحلي، التي يتوجب لأجل تنفيذ الأوامر الشرعية تتبعها بشكل دقيق، مثل التأكد التام من أن ظل الإنسان كان قد صار ضعف طوله بما يعني حلول وقت صلاة العصر، وهو ما لم يكن ليتأتى بشكل دقيق لولا المزاول الفلكية التي تقيس بمنتهى الدقة زوايا ميل الشمس، التي لا تكفي بمفردها لتحديد مواعيد الصلوات لولا تلك التقاويم الفلكية الدقيقة.. وكان العلماء العرب أول من قاموا بوضعها، ووضع جداول لها متعلقة بحلول أوقات الصلاة لكل أيام السنة، وهو ما يعدُّ إحدى ثمرات تَقدُّم العرب المسلمين في علوم الرياضيات البحت منها والمتصل بغيره من علوم الفيزياء والفلك.

وقد طور الرياضي الفلكي المسلم “أبو الريحان محمد البيروني” واضع علم حساب المثلثات في غضون عام 1000 للميلاد، آلة عجيبة تعمل كمحرك للرحى المستخدمة في طحن الغلال، وهي ما يشبه آلات طحن الغلال حديثًا. وكانت مدينة بخارى هي أول ميدان لتجريب تلك الآلة العملية، التي كان باستطاعتها بعد ملء زنبركها الكبير الحجم بعد تحريكه لمدة بضع دقائق بواسطة ثورٍ، أن تستمر في العمل لمدة ساعتين أو يزيد.. بما مكنها من تلبية احتياجات سكان تلك المدينة الصاخبة من الخبز، لفترة تتراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر إذا ما عملت لمدة يومين لا أكثر.

وإذا ما أقررنا أيضًا بأن أولوية العلم بالرياضيات كانت شغلاً شاغلاً لغالبية دارسي الفقه في تلك العصور القديمة من مراحل تطور حضارتنا العربية الإسلامية، بدليل اشتمال كتب الفقه القديمة على كثير من المنافع العمومية، فإن أولوية القول بقيام الأساس المعرفي لتلك الحضارة على ما صار يُعرَف بنظرية وحدة المعرفة، سيؤدي بالضرورة للتوصل لنتائج مثمرة فيما يتعلق بالبحث في أصول تلك الحضارة، التي ظلت على مدى عشرة قرون متتابعات تؤدي دورها في خدمة العلم والمعرفة الإنسانية، دون أن تضع في اعتبارها إطلاقًا، لون أو جنس ذلك الذي ينهل من معينها.

وبالعودة إلى ما بدأنا الحديث عنه من محاولة لتأريخ ذلك الجهد الجبار الذي بذله أسلافنا العرب من جهابذة العلوم الرياضية في فترة العصور الوسطى، التي تمتد -بحسب التاريخانيات الأوروبية- ما بين القرنين الثامن والسادس عشر الميلاديين، فقد لا يعلم الكثير أن ذلك النبوغ العربي المسلم في الرياضيات وما يتصل بها من علوم تطبيقية، كان بذاته هو السلاح الذي أوقف الحروب الصليبية. فقد اجتاحت تلك الغزوات مناطق ساحل الشام، بعد أن اكتسح السلاجقة المسلمون مرتفعات آسيا الصغرى التابعة للروم البيزنطيين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وبرغم تفوُّق فرسان الفرنجة ومشاتهم في أعدادهم على نظرائهم المسلمين تفوُّقًا ملفتًا، فإن “عماد الدين زنكي” كان قد تمكَّن من اجتياح إمارة الرُّهَا الصليبية في آسيا الصغرى، بعد أن دكَّ حصونها المنيعة بفضل آلة القاذف، التي سبق وأن طورها العلاّمة الأندلسي “محمد بن سعيد الإشبيلي”، لصد هجمات جيوش قشتالة الإسبانية على معاقل المسلمين في الأندلس. وكانت آلة القاذف ثمرة من ثمار أبحاث “الخوارزمي”. تكوَّن القاذف من أسطوانة مصنوعة من سبيكتي الحديد والقصدير، وكانت تلك الأسطوانة -برغم أن سُمكها لم يتجاوز السبعين سنتيمترًا- قادرة على قذف كمية لا تقلُّ عن أربعة كيلوجرامات من ملح نترات البوتاسيوم المعروف بملح البارود. وذلك بفضل الحسابات الجبرية بالغة الدقة، التي أجراها “ابن سعيد الإشبيلي” لمعرفة العدد الكتلي لجزيء القصدير الذي يحتمل حرارة تتراوح ما بين ألفين وألفين وخمسمائة مئوية، دون أن يصل لدرجة الاحمرار، بما جعل من سبيكة الحديد والقصدير، أمتن أنواع السبائك المعروفة في تلك العهود القديمة.

وغني عن البيان أنَ الفضل في صناعة تلك السبيكة، يعود في المقام الأول إلى تطور دراسات الجبر، وما قد تفرَّع عنها من تطبيقات صناعية أفضت لتطور الصناعات الثقيلة في بلدان الشرق القديم بصورة لم تُدركها بعدُ تلك الأجيال، التي عاشت في إطارٍ من الفهم غير الدقيق للتمدن الأوروبي.