الطيور المُخـادِعة 

يتميز بعضها بكونه لا يبني عُشًّا، ولا يحتضن بيضًا، ولا يُطعم فرخًا. يوفر الجهد والوقت، ويترك (تطفلاً) هذه الأمور على عاتق طيور أخرى. وبينما تستأثر أفراخها بطعام (غير مُستحق) من الطيور (الضحية). وطيور أخرى “بصاصة” تُخبر عن أماكن طعام لتغتنم حصتها منه. وأخرى بارعة إخافة حيوانات لسرقة طعامها، وغيرها تخطف الجواهر والحُلي.

تنتشر طيور الوقواق Cuckoos، في مناطق عدة من العالم، وبعضها يهاجر من موطنه. ومن أشهر أنواع الوقواق: الكوكو، والوقواق الأوربي، والأسيوي، والأرقط إلخ. وهي تعتمد في تغذيتها على اليساريع (يرقات الفراشات، وأبو دقيق؛ ودودة القز، ودودة ورق القطن). وتختلف أشكال، وألوان الوقواق حسب نوعه، وبيئته. طيور متوسطة الحجم، يتراوح أطوالها بين 15-65 سم. ولها مناقير طويلة، ومقوسة قليلاً. وتتميز أقدامها بأربعة أصابع، اثنين في المقدمة، والباقي إلى الخلف. ورؤوس الذكور وظهورها رمادية اللون، وفي الإناث رمادية أو بنية. وهي طيور انعزالية خجولة، غالبًا ما تنتقل فرداي، لا جماعات. ولا يُستدل على وجودها إلا من صوتها المُغرد المميز. لكن يغلب على سلوك الوقواق عدم اهتمامه برعاية صغاره. فلا تُكلف نفسها مُطلقًا “عناء” نسج عش، بل تبدأ الأنثى بمراقبة عش “طائر ضحية”. وتحتال في ضبط وقت وضع بيضها مع وضع الضحية لبيضها. وعادة ما تختص مجموعات من الوقواق بالتطفل على طيور بعينها، كـعصفور الشوك، وأبو الحناء، وأبو فصادة، وأبو قلنسوة وهازجة الغاب، والبلبل، وجشنة المروج، والعندليب، والهزار، والعصفور التفاحي، والقبرة، والحميراء، وحمام الغابات إلخ.

وتضع الأنثى بيضها (بين كل بيضة وأخرى أيام قلائل) على الأرض، ثم تحمله بمنقارها لتودعه العش المُختار. وتتحين الفرصة لتنقض على العش فتلتقط إحدى (أو أكثر) بيضات الطائر الضحية، لتجنب اكتشاف وضعها بيضتها محلها. وتبرع إناث الوقواق في وضع بيض يحاكي بيض العش الذي ستتطفل عليه. لذا يُشبه البيض (الدخيل) شكل/ حجم بيض (الضحية). فهو أبيض، مزركش ببقع متقاربة رمادية/ حمراء/ داكنة. وتختلط البيضة (الدخيلة)على أصحاب العش، فيتولون رعايتها.. فقسًا وتغذية. ويكتمل تكوينها بسرعة، وعادة تكون أول ما يفقس في العش. ويبقي السؤال: كيف يمكن لإناث الوقواق التحكم بلون/ حجم البيض الذي ستضعه في نحو عشرين عشًّا “تغزوها” كل موسم. مع العلم أن بيض طائر “أبو الحناء الأوروبي” Robin bird ليست كبيض “أبو تمرة الحقول” Meadow Pipit؟

وراثة الخداع

بعد الفقس.. يأخذ فرخ الوقواق في التعرف على العش (المُحتل)؛ حتى يتلامس الجزء الغائر على ظهره مع بيض/ أفراخ صاحب العش. وعند غياب أصحابه.. يشرع ـ برجليه القويتين ـ في تسلق جوانب العش، ويدحرج، ويقذف البيض/ الأفراخ الأخرى لخارجه. ويكرر ذلك حتى يخلو له العش تمامًا. ويبقى (وحده) يتلقى الغذاء الذي يجلبه الطائران (البديلان/ المُغرر بهما). وتتفاقم مشكلة الطيور (المغشوشة) كونها صغيرة الحجم. إذ فرخ الوقواق “الخبيث/ المُحتال” أكبر منهما، فيستهلك طاقتهما وطعامهما ساعات اليوم، فحاجته تفوق طاقتهما اليومية. ورغم أنه ينمو بسرعة ليصبح مختلفًا عن الطائر الضحية.. شكلاً وحجمًا. إلا أن الأخير لا يلاحظ ذلك ويستمر بتغذيته حتى يكتمل نموه، ويطير مبتعدًا عن العش. وقد تم تسجيل ذلك “السلوك الطفيلي” من عدد من العلماء منهم (“جينر”، و”مونتاجو”، و”بلاكوال”، و”بلاك برن”).

إنها عملية “نصب” مُحكمة تعتمد على أساس “غريزي/ جيني/ وراثي”، وليس “مُكتسبًا/ مُتعلمًا”. ففرخ الوقواق لم ير/ يتعلم هذا السلوك سابقًا. لكن ليست كل عمليات احتيال الوقواق ناجحة. فأحيانًا يميز الطائر الضحية بيضة الوقواق فيرفضها، ويرمي بها خارج العش. كما أن بعض الطيور التي اعتاد الوقواق التطفل على أعشاشها تقوم بحراستها/ الزود عنها جيدًا. ومع ذلك.. فبعض الأنواع مثل طائر الهويد (Indigo birds)، يمكن للأم الحاضنة معرفة الأفراخ الدخيلة. لكن الأفراخ المُخادعة تقوم بإحداث “زقزقة، وتثاءب فم” يشبه صغار الأم الحاضنة التي تميل لإطعام أي فرخ في عشها.

الطيور “البصاصة

تعيش تسعة من أنواعها الأحد عشر في غابات جنوب الصحراء الكبري الإفريقية. ويوجد النوع العاشر عند سفوح جبال الهيمالايا الغربية. أما النوع الأخير فصغير الحجم، نادر الوجود يعيش في أحراش المالايو، وسومطرة، وبورما. وتوصف جميع الطيور بإنها منفردة، لا تعيش في جماعات. وهي “طيور أوابد” لا تترك موطنها لتهاجر، مع أنها تقوى على الطيران الطويل. وهي أيضًا.. لا تبني عُشًّا، ولا تُطعم فرخًا. فتتطفل “الطيور المُرشدة” على غيرها (كما يفعل الوقواق). بينما هي تُرشد، وتُخبر “عناق الأرض الإفريقي آكل العسل، والإنسان الإفريقي البدائي” عن وجود خلايا عسل النحل البري. فيقف عندها، ويعلو صياحه. ويبقي غير بعيد فوق الأغصان، حتى يتم السطو / تكسير/ الاستيلاء على معظم عسل الخلية. ومن ثم يحصل على نصيبه من الغنيمة، تبقى أو تترك له قصدًا كمكافأة على إرشاده. فأطلق عليها طيور مُرشدة العسل (honey guides)، ومن أشهرها “مرشد العسل أسود الزور”، أو “مُرشد العسل الأعظم”. وبالإضافة إلي عسل النحل، وشمع أقراصه.. فإن غذائها الأساس من الحشرات كالنحل والزنابير، ويرقاتهما.

“الدرونغو” الأفريقي

رصد المُختصون عشرات من طيور “الدرونغو” في صحراء “كالاهاري” في جنوب أفريقيا قرب حدودها مع بوتسوانا. وهو طائر متوسط الحجم، أسود، له عيون حمراء، ومنقار معقوف، وذيل متشعب. طائر عدواني، قد يهاجم نسورًا، وصقورًا. وعادة ما يقتات على الحشرات. غير أنه في فترات صباح بارد يتحول إلى الصيد المُخادع. فله قدرة على الاحتيال ومحاكاة أصوات صادرة من حيوانات مختلفة تصل لنحو خمسين صوتًا. فيقوم بإطلاق “نداءات إنذار للتخويف الوهمي” من حيوان مفترس، ومن ثم سرقة الطعام المتروك حال الفزع. ولوحظ أن كثيرًا من الحيوانات تصدق أصواته، فيخشى الأرنب البري من الصوت المُقلد للذئب، فيهرب ويترك طعامه، فيأتي “الدرونغو” ليلتهمه. لكن هناك حيوانات أخرى “فطنت” لخداعه، وتتجاهل تحذيراته الكاذبة المتكررة.

طيور تخطف الجواهر والحُلي

طيور خطافة” تعيش فقط في أستراليا، و”غانا الجديدة”. وتختطف كل ما يقع عليه بصرها من مجوهرات، وحُلي، وجنيهات ذهبية، عدسات طبية، وأدوات منزلية براقة تستطيع حملها من منازل قريبة من أعشاشها. وهي طيور مُعرشة Bower birds تبني لنفسها “عريشًا” خاصًّا بها. وتتميز بجمال ولمعان ريشها، وبخاصة لدى ذكورها. وفي نوع واحد هو طائر “البستاني الأغبر” يتشابه فيه الذكر والأنثى في لونهما المُعتم. وتم التعرف على عاداتها السيئة نهاية القرن الماضي.. ووجدت أعشاشها ممتلئة بالمقتنيات البراقة المسروقة، والعاديات النفسية وغير النفيسة. كما في أعشاش “الطائر المُعرش الرمادي الكبير” الذي يقتحم نوافذ المنازل متى لمح بداخلها ما يلفت نظره من أدوات براقة يحتاج إليها لزركشة الممشى المواجه لمدخل عشه.

البومة

يوجد نحو مئتي نوع من البوم تنتشر في أغلب المناطق المناخية. تستعمل ”البومة الليلية/ البرية” أوراق الشجر في الخداع والتخفي بطريقة مذهلة. وتتميز ـ كطير جارح ـ بمخالب قوية، واجنحة انسيابية، وبصر قوي وثاقب في الإضاءة الخافتة ليلاً. وتنظر بعينيها إلى هدف واحد، وتدير رأسها بزاوية تصل إلى 270 درجة. وهي “منظف للبيئة، وصديقة الفلاح”. وتقتنص طعامها (القوارض، والحشرات) بمهارة ليلاً. وتتعرف على أخفت أصوات فرائسها، فتنقضُ عليها في لمح البصر. وتتميز البومة (بالطيران المُخادع) وعدم إصدارها صوتًا عند الانقضاض. فلديها ريش ناعم لا يُحدث صوتًا عند الطيران، كي لا تهرب الفئران والقوارض الحذرة بطبعها. كما من عادة البوم الكسول، والانعزال، وتفضِّيله الاستيلاء على المساكن الجاهزة. فيراقب طيور “العقعق”، و”أبو زريق”، حين تغادر أعشاشها، فيحتلها! وثمة نوع يعيش في أمريكا الشمالية، ويسمَّى “بوم الجحور”، لا يعيش إلا في جحور أرضية محفورة. لا يحفرها بنفسه ولا يستطيع وإنما يسكن تلك التي تحفرها الكلاب البريَّة، ثم تهجرها.

في الختام:

إنها نماذج سريعة لطيور مُخادعة، أرادت إلحاق المكروه/ الضرر بغيرها. وهي تُظهر أن الخداع والكذب لا يقتصر على بعض بني البشر، بل صفة متواجدة في عالم الطير، والحيوان. ولقد ذكر القرآن الكريم: “قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (النمل:27). مما يشير إلى أنها قد تكذب لتبرير أمورها، ولتنجو بنفسها أو تنال رضى أصحابها. وتتميز تلكم “الطيور المُخادعة” بجمال منظرها، وروعة ريشها، وحلاوة صوتها، فهي غالبًا من “الطيور المُغردة”. لتُخفي ما تمارسه من وسائل الخداع، والغش، والكذب، كما حال بعض البشر:

 يلقاك يحلف أنه بــك واثقٌ         وإذا توارى عنك فهو العقربُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوة        ويروغ منك كما يروغُ الثعلبُ