تُعَدُّ كلمة الثقافة، والمُشتَّقَة بِدَورها مِن الفِعل “ثقف” –الثلاثي المُجرَّد-، والذي يعنِي في معناه العامّ [ذلك الذي يُقيم مِظلَّةً تقيه العَراء]، كلمةً ذات أبعادٍ اصطلاحِيَّةٍ يضيق المقامُ دُون ذِكرِها. ولَستُ في ذلك المقال بِصَدد البحث في المعاني الاصطلاحيَّة لتلك المُفردة، أو حتَّى بِصَدد البحث في الثقافة مِن حيث كونِها ثقافةً. إذ أنِّى، ومِن باب الوُلُوج المُباشِر إلى ما أُريد بتلك المقالة، أبغِي شيئًا يتعلَّقُ بالواقِعيَّة في تناوُل الثقافة، والتي صارت مُنذُ بَدء عهد الصحافة المطبوعة، بل مُنذُ أن كان الكَتَبَةُ في عُصُور الإسلام الأُولَى يُؤجَرون على ما كانوا يقومون بِهِ مِن أعمالٍ كِتابِيَّةٍ، سِلعَةً ذات مردُودٍ مادِىٍّ، وذلك ما كان “ابن خلدُونٍ” صاحِبُ المُقدِّمَة الشهيرة قد أشار إليه مِن أنَّ الكتابة صنعةٌ مِن جُملة الصنائِع، بِما يُمكن أن يُعدَّ تُراثًا نَقبَلُ على أساسِهِ اعتبار أنَّ الثقافة -التي هي فرعٌ عن مُزاولة العِلم بطريق مُعالجتِهِ واستنباط نتائِجهِ– تُعَدُّ بامتيازٍ سِلعةً لها سُوقٌ رائِجَةٌ أو غير رائِجة.
وإذا ما حاولنا تناوُل ذلك الشطر الثاني مِن عُنوان المقال، والذي يُشير لاعتبار الثقافة عاملاً للتنمية، فإنَّنا يُمكن أن نُحيل البحث في ذلك الشطر إلى ذلك الموضع القديم –الحديث حول الظواهِر المُجتمعِيَّة-، تلك الظواهِر التي تشمل الثروة في معناها العامّ، وأيضًا تلك العُلُوم الواقِعَة في العُمران وفقًا للتعبير الخلدونِي، تلك العُلُوم التي تشمل كُلَّ ما يُمكن أن يتناولهُ المُثقَّف في رؤيتِهِ لِذاتِهِ، ولمُجتمعِهِ، ولِعَصرِه، بل ولِكُلِّ ما يخطُرُ بِذِهنِه. بِما يُمكن أن يبعد بِنا في المُجمَلِ والمُفصَّل بحثًا وتدقيقًا واستنباطًا للنتائِج.
وحتى لا ينفَرِطَ مِنَّا عِقدُ البحث فيما يتعلَّقُ بما نُريدُهُ مِن مقالِنا هذا، فإنني سأُحاوِلُ حصر نِطَاقِ ذلك البحث فيما يتعلَّقُ بـ [مدى اعتبار الثقافة سِلعَة لها قيمة مِن جانِب، ومدى اعتباريَّة تلك القيمة فيما يتعلَّق بالتنمية في عُمُومِها مِن الجانِب الآخر، وأيضًا في مدى التناسُب الطردي بين كِلا الجانبين مِن جانِبٍ ثالِث].
إنَّ مُجرَّد تحقيق فِكرة الثقافة في إطارٍ مجتمعي يستوجب أولاً البحث في مدى إلمام المُثقَّف بِما يُريدهُ مِنهُ مُجتمعه، وأيضًا في مدى تحقيق المُثقَّف لتلك الموائمة بين ما يريدهُ هُوَ مِن أدائه لرسالته مِن جانِب، وبين ما يُريده مُجتمعُهُ في واقِعِهِ العملي مِن جانِبٍ آخر. ولِنَدَع تلك المَدَيات التي تتماسَّ فيها رغبات المُثقَّف ومُيُولِه مع حاجِيَات مُجتمعه إلى دور المُثقَّف في تحقيق التنمية المُجتمعيَّة، وبالذات في تلك الفترة الفاصِلَة مِن حياة الأُمَّة، وذلك على اعتبار أنَّ الثقافة لا يُمكن أن تتحوَّل إلى سِلعَةٍ بالمعنى الاقتصادي –المجتمعي- سِوَى بتحقيق مبدأ اعتباريَّة المُثقَّف لِمُجتمعِه، أو لِنَقُل إنَّ ذلك المُثقَّف لا بُدَّ وأن يضع مُتطلَّبات المُجتمع كأولويَّة فيما يتعلَّق بما يُقدّمهُ مِن أُطرُوحاتٍ ثقافيَّة، وذلك أيضًا مع اعتبار أنَّ مُراعاة طبيعة المُجتمع وأولويّاتِهِ الحياتِيَّة هي المِعايير الذي يتعيَّن على المُثقَّف أن يعتبرها فيما يطرحه مِن إشكالِيَّاتٍ حياتِيَّةٍ وما يطرحهُ مِن حُلُولٍ لتلك الإشكاليَّات.
فَمثلاً، وعلى سبيل الإيجاز، فإنَّ مهمَّة المُثقَّف في بَلَدٍ كـ “مصر”، وفي إطارِ واقِعٍ تحكمهُ مُقتضيات إعادة بناء الفرد بما يقود لإعادة بناء المُجتمع، تتلخَّصُ “تلك المهمَّة” في مجموعةٍ مِن الأُطرُوحات التي تتعلَّقُ بِتَحسين الوعي المجتمعي أولاً، ثُمَّ الارتقاء بذلك الوعي عن طريق دمج الآلِيَّات المُتاحة للمُثقَّف كخُطوَةٍ أُولى لتسويق رُؤيتِهِ التثقيفيَّة المُجتمعيَّة، بما سيقود بالضرورة إلى تحقيق الهَدَف الأسمى الذي هو الارتقاء بالعمليَّة التوعويَّة للمُجتمع، تلك العمليَّة التوعويَّة التي تُمثِّلُ العملية التعليميَّة حَجَرها الأساس.
ومِن ثَمَّ، فإنَّ تحقيق ذلك الإطار التوعوي يستوجِبُ تأطير مجموعة مِن المفاهيم المُعبِرَة عن الهُوِيَّة المصريَّة في إطارِها العامّ، تلك الهُوِيَّة التي تعرَّضت لكثيرٍ مِن مُحاولات المَسخ والتغريب في العُصُور الاستعماريَّة، وهى تلك المُحاولات التي لم تُفلِح في مَسخِ تلك الهُوِيَّة الشاملة، ولَكِنَّها ذهبت ببعض جوانِب تلك الهُوِيَّة في إطارٍ مِن التوازي مع بعضها، وهو ما أدَّى بطبيعة الحال إلى تشتُّتٍ في مُعالجة بعض القضايا المصيريَّة في مراحِلَ مُعيَّنةٍ مِن التاريخ المصري، حتى أنَّ قضيّة الاستقلال عن الاستعمار البريطاني كانت قد صارت جَدَلِيَّةً في بعض الأحيان بين أنصار الحِزب الوطني القديم، الذي أسَّسهُ الزعيم الراحِل “مُصطفي كامِل ” (1874 – 1908 م) مِن جانِبٍ، وبين أنصار “حِزب الأمَّة القديم” الذي شَكَّلهُ بالأساس بعض كِبَار مُلَّاك الأراضي الزراعيَّة مِن الأعيان، والذين ظنُّوا أنَّ أرباحهم مِن زراعة القُطن الذي كانوا يُورِّدونهُ إلى معامل القُطن البريطانيَّة في “لانكشاير” سوف تتراجع إذا ما جَلى الإنجليز عن “مِصر” بشكلٍ نهائي، بما أدَّى في بعض المراحل إلى تراجُع سقف الطُمُوحات الوطنيَّة عند الكثير مِن المصريين إلى المُطالبة بِحُكمٍ ذاتي مُوسَّعٍ لوادي النيل بدلاً مِن المُطالبة بالاستقلال التامّ، وذلك بِرَغم أنَّ الاستقلال التامّ للأمَّة المصريَّة كان مَطلبًا لا يجوز المُفاصلة أو المُفاضلة بِشَأنه.
ومِن ذلك، فإنَّ مهمَّة المُثقَّف كانت ولا تزال هي تحقيق رُؤيةٍ مُجتمعِيَّةٍ مُوحَّدةٍ في مُقابِل ذلك التضادّ الذي أوجدتهُ تلك المُسُوخ الثقافيَّة التي نَفَدَت إلى حياتنا التعليمية والثقافية في صورة ذلك التعليم الذي أدخلهُ “دنلوب”، المُستشار الإنجليزي لوزارة المعارف المصريّة إبَّان الحِقبَة الاستعمارية، في المدارس المصريَّة، وهو ذلك النظام الأعوَرُ الذي كان يجعل مِن درس اللغة الإنجليزية حِصَّةً أولَى في كُلِّ معاهد التعليم المصرية، بينما كان درس اللغة العربيَّة يأتي في الحِصَّة الرابعة أو الخامسة مِن حِصَص التعليم السِتّ، وذلك بعد أن يكون التلميذ فد استنفذ نشاطهُ الذهني في تعلُّم الإنجليزيَّة وغيرها مِن العُلُوم المُقرَّرة، بما كان يعني ازدراءً واضِحًا للغة البلاد القوميَّة، والتي كانت لُغَة العلم في العالم كُلِّه حتى أزمنَةٍ قريبة. بما يعنى أنَّهُ -وحتى بعد أفُول عصر الاستعمار مُنذُ سبعين عامًا ونَيِّف– فإنَّ بقايا التغريب الثقافي الذي عانت مصر مِنهُ أكثر مِمَّا عانت أي أُمَّةٍ أُخرى مِن أُمم الشرق لا تزال تُؤرِّقُ الذِهنِيَّة المصريَّة، وليس أدلَّ على ذلك مِن تلك المعارِك الثقافيَّة الحامية الوَطِيس التي أرَّقَت حياتنا الثقافية طِيلَة القرن العشرين، تلك المعارك التي تتجدَّد بِرَغم مُرُور عشرات السنوات على وُقُوعها، وليست معركة المُحقِّق الكبير وشيخ العربيَّة “محمود مُحمَّد شاكر” مع الراحِل الدكتور “لويس عوض”، والذي كان يشغلُ في مُنتصف الستينيَّات مَنصِبَ المُستشار الثقافي لمُؤسَّسة الأهرام ببعيدةٍ عن ذاكِرَة مُثقَّفِينا، وهي تلك المعركة التي أبانت عن ذلك التوازي الذي تحدَّثتُ عنه في الأسطُر السابقة بين جوانِبَ مُعيَّنَةً في تركيبتنا الثقافيَّة.
إنَّ مهمَّة الكتاب في أي مِن المجتمعات الإنسانيَّة لا تُعَدُّ أبدًا مُجرَّد الإبانة عن رأىٍ لذلك الكاتب، وإنَّما يُعَدُّ تكريس الهُوِيَّة والإبانةُ عن مضامينِها هو مَهمَّةُ أي كِتابٍ يصدُرُ في أي فرعٍ مِن فُرُوع المعرفة، ومِن ذلك فإنَّهُ يتبيَّنُ أنَّ الارتقاء بِمُستوى تناوُل أي موضوع بحثِىٍّ مِن مرحلة الفِكر التجريبي إلى مرحلة التنظير هُوَ وحده ما يُثمِّنُ مِن الكتاب كسِلعةٍ لها مردودُها المادي والمعرفي، وهو ما يُفسِّرُ تثمين مؤرخي الثقافة لِمَردودات الثورة الثقافيَّة في الصين، والتي ارتكزَت خِلال أوجِها في سِتينيَّات القرن الماضي على مجموعةٍ مِن الثوابت المُؤكِّدَة للهُوِيَّة الصينيَّة، تلك الثوابِت التي مَكَّنت الصين مِن توكيد وحدتِها، والتي كانت العامِل الرئيس في سعيها للنُهُوض الاقتصادي المُذهِل الذي حقَّقتهُ تلك الدولة العِملاقة في موارِدها البشريَّة والمادِيَّة.
ومِن ثَمَّ، فإنَّهُ يُمكن الانطلاق مِمَّا سَبَق لمُناقشة مسألة التماسّ بين الهُوِيَّة وتحقيق التنمية، تلك المسألة التي لا يُمكن إلَّا أن تُناط بالمُثقَّف، والذي يتمثَّلُ بِدَوره تلك الهُوِيَّة، والتي لا يُمكن تحقيق التنمية بِكَافَّة أشكالها مِن دُون البحث فيما يتعلَّق بالهُوِيَّة، وأيضًا فيما يتعلَّق بِجَدلِّيَتها في تحقيق تماسُك المُجتمع، ذلك التماسُك الذي لا يُمكن تحقيق التنمية مِن دُونه. كما وأنَّ مسألة تحقيق التنمية تلك –وبِغَضِّ النَظَر عن ذلك التدافُع الفكري الحالي– تُعَدُّ جوهر تحقيق ذلك التوحُّد في فهم مبتدئات ومُنتهيات وأولوِيَّات العمل المجتمعي، والتي يتعلَّقُ بها بالتالي مفهوم توظيف الأفكار والرُؤى في سَبيل تحقيق تصوُّرات بناءة تُحقِّق التنمية المطلوبة.
وفي إطار تلك المنظومة المُقترحة للتنمية المُجتمعيَّة، والتي تُعَدُّ الثقافة بِصُورها المُختلفة جُزءًا مِنها، فإنَّهُ يتعيَّنُ التعامُل مع الكتاب على أنَّهُ سِلعَةٌ ترتفع قُوَّتُها الشرائية كُلَّما ارتفَعَت رُؤية مُؤلِّفه إلى مُستوى فهم الأولويَّات المُجتمعية، وهى تلك الأولويَّات التي لا يُمكن فهمُها مِن دُون الارتفاع بِمُستوى الثقافة بِوَجه عامّ، وإذا ما أقرَّينا بِأنَّ ذلك الارتفاع بِمُستوى الثقافة يُوجِبُ اعتبار مجموع العوامِل السالِف ذِكرُها، فإنَّ الثقافة كسِلعَةٍ يتوجَّبُ أن تعتبر الذِهنِيَّة في إطارَيها الفردي والمجتمعي سُوقًا يتعيَّنُ أن تكون رائِجَةً، كي تُؤتِى الثقافة أُكُلَها.